شرائع الألواح وشريعة الضمير
عامر الحافي
تؤكِّد لنا شريعة حمورابي قبل قرابة ألف وثمانمائة سنة، أنّ ميلاد القانون كان متّصلًا بالمعتقدات الدينية. أيضًا يَلفت انتباهَنا ذلك التشابهُ الكبير، بين هذه الشريعة والشريعة التَّوراتيّة التي جاءت بعدها بقرابة خمسة قرون، إلى أن المشترَكات الإنسانية تمثِّل مساحة كبيرة، يمْكن أن تلتقي عليها المجتمعات والشعوب.
كيف يمْكن للقوانين أن تنسجم مع القيم والأخلاق القويمة؟ وكيف يمْكن لتلك القوانين أن تُحقِّق العدل والإنصاف بين الناس، على اختلاف ألوانهم وأديانهم؟ ولماذا يَضعف احترام القانون في الدول المتخلِّفة؟ ولماذا يُبرِّر كثير من الناس لأنفسهم، سرقة المياه والكهرباء والاعتداء على المال العامّ، دون أن يَرفَّ لهم جفن؟ قد يبرِّر هؤلاء أفعالهم/هنَّ بأن القوانين جاءت لتخدم المتنفِّذين، وأنها صِيغت بطريقة تَحفظ مصالح الأقوياء، أكثر ممّا تخدم مصالح عموم الناس. لكنه مع ذلك، يجب الاعتراف بوجود فجوة لا يستهان بها، بين الأخلاق المثاليّة التي يتحدث بها العديد من الناس، والسُّلوك العملي الذي يمارسونه على أرض الواقع!
تَهدف الأخلاق إلى دفع الإنسان من تِلقاء نفسه، نحو المُثل العليا، التي ينبغي أن يتمثَّلها في سلوكه، في حين يسعى القانون إلى تحقيق المنفعة والمصلحة في واقع المجتمع، من خلال قوة القانون وعقوباته الزاجرة. فتُعدُّ الأخلاق مَصدرًا مباشرًا أو غير مباشر، لِتكوين كثير من القوانين والتشريعات. لكن ذلك لا يعني أن جميع القوانين والتشريعات، لها مرجعية أخلاقية. ومع أن ما يسعى إليه القانون من تحقيق للعدالة والأمن والاستقرار، يمثِّل غايات تنسجم والقيم الأخلاقية، إلّا أن بعض القوانين يمكن أن تتعارض والقيم الأخلاقية في منظور بعض أفراد المجتمع.
تُمثِّل القوانين الدينية في اعتقاد المؤمنين/ات قِيَمًا أخلاقية في ذاتها، وهي قوانين يَعتقد فيها المؤمن(ة) أنه(ها) يُؤْجَر على احترامها عند الله، قبل كلِّ شيء. ويمثِّل هذا الاعتقاد، دافعًا قويًّا إلى التزام تلك القوانين. لكن ما يجب الالتفات اليه، أن القوانين الدينية لم تَخرج عن الاجتهاد الإنساني. فما مِن حُكم عمليٍّ إلّا وللفقهاء فيه آراء عديدة، كما في: أحكام العقوبات والزواج والبيوع وغيرها من المجالات العملية، التي تنظِّم علاقات المجتمع.
لا تحتاج الأخلاق إلى قوانين، بقدْر ما تحتاج القوانين إلى الأخلاق، بل إنّ اختلال الأخلاق هو ما يَدفع في اتِّجاه إنشاء قوانين جديدة، تَحدُّ من أثر ذلك الاختلال. فهل كان لعقوبة السرقة أن تصبح قانونًا لولا غياب خُلق الأمانة بين الناس؟ وهل كان للقوانين التي تمنع الاحتكار والغش أن تُشرَّع، لولا ظهور الجشع والطمع، وغياب القناعة والأخوَّة؟
لا تختلف كثيرًا القيمُ الأخلاقية المتضمَّنة في التشريعات الوضعيّة، عن القيم التي تتضمنها التشريعات الدينية. فالتشريعات الدينية كما الوضعية، تتأثَّر بالتغيُّرات السلوكية للناس. وفي هذا السياق، نَذكر قضية إباحة الطلاق، التي اشتملت عليها شريعة موسى، والتي جاءت نتيجة لقساوة قلوب بني إسرائيل، كما يقول المسيح (متى 19:8). وهي علَّة يمْكن أن يطرأ عليها تغيير، عندما تصبح المغفرة والرحمة خُلقَيْن راسخَيْن بين الأزواج.
ليس القانون الوضعيُّ بالضرورة، نقيضًا للقوانين الدينية. فما يسعى إليه العقل الإنساني من تحقيق للمنفعة والعدالة، لا يتعارض في كثير من جوانبه مع تلك المقاصد، التي تَهدف إليها التشريعات الدينية. لكن المشكلة تَكمن في النظرة التجزيئيّة، التي لا تسمح لأتْباعها بالتعرُّف إلى المشترَكات، التي تَجمع بين القوانين الوضعية والتشريعات الدينية. وخِلافًا لتلك النظرة التجزيئيّة، تَفتح النظرة المقاصِديَّة المجال، أمام اكتشاف كثير من المشترَكات، التي يلتقي عليها كلٌّ من القانون الوضعي والتشريعات الدينية. فالاختلاف مثلًا حول طريقة عقوبة السرقة أو القتل أو الاغتصاب، لا يعني عدم الاتِّفاق على كَون تلك الأعمال “جرائم”، يجب أن يُعاقَب مُرتكِبوها.
إنَّ التَّفاوُت في تطبيق القانون على أرض الواقع، أو البحث عن الثغرات القانونية للإفلات من العقوبة، هو مشكلة أخلاقية لا يمكن حسمها داخل إطار القانون فقط. ثم إنّ أخلاق الأفراد -مهْما كانت سامية- لا تُلغي الحاجة إلى تشريعات وقوانين، تُحدِّد للناس حقوقهم، وتُعِينهم على تحقيق العدالة بينهم.
ينطوي الشأن الإنساني في شِقَّيه القانوني والأخلاقي، على اشتباك وتَدافُع وتكامُل؛ ما يمْكن له أن يعيننا على تطوير نُظم قانونية أخلاقية، تُحقِّق القسط والعدل، وتَحفظ للإنسان كرامته وحقوقه، وتَجعل “شرائع الألواح”، تُقارب وتُلامس شريعة القلب والضمير.
*المصدر: موقع (تعدّدية).