اجتماعالمقالات

سحر التفاصيل الدنيويَّة

-بقلم: لوسي مكدونالد*/ترجمة: إبراهيم قيس جركس.

أدرَكَ عالِم الاجتماع الرائد إرفينغ غوفمان، أنّ كلّ عمل يكشف بعمق عن المعايير الاجتماعية التي نعيش بها.

عُدْ بذاكرتك إلى آخر مرة سقطتَ فيها في مكان عام. ماذا فعلتَ تالياً؟ ربما صَحّحتَ نفسك على الفور وتابعت ما كنت تفعله من قبل. أراهن أنّكَ لم تفعل ذلك. أراهن أنّكَ استرقَت نظرة سريعة وماكرة على محيطك لترى إذا كان هناك شهود. وإذا كانوا موجودين، فربما تكون قد انحنيتَ وفتّشتَ الارض كما لو أنّك كنتَ تعرف سبب تعثّرك، حتى لو كنتَ تعرف السبب بالفعل. أو ربما ابتسمتَ أو ضحكت لنفسك أو نطقتَ بكلمة مثل “أوبس!”، أو “اللعنة” على أقل تقدير، أراهن أنّ معدّل نبضات قلبك قد زاد.

هذه السّلوكيات تبدو غير عقلانية. إذا لم تكن مصاباً، لماذا تفعل أي شيء بعد التعثّر؟ لسببٍ ما، مثل هذه الحوادث العامّة والمؤسفة -التعثّر، الاصطدام بشيء ما، سكب شيء ما، دفع/سحب الباب، وإدراك أنّك قد ذهبت في الاتجاه الخاطئ ثم الالتفاف- تثير القلق الذي يجبرنا على الانخراط في سلوكيات غريبة.

هذا لأنّه، كما يوضّح لنا عالم الاجتماع إرفينغ غوفمان، لا يوجد شيء بسيط إزاء المرور عبر مكان عام. وبدلاً من ذلك، يُنتظَر منّا دائماً أن نُطَمئِنَ الآخرين من حولنا بأنّنا عقلانيون، وجديرون بالثقة، ولا نشكّل أي تهديد للنظام الاجتماعي. ونحن نفعل ذلك انسجاماً مع كل أنواع القواعد غير المرئية التي تحكم، مثلاً، المسافة التي نحافظ عليها من بعضنا البعض، حيث نوجّه أعيننا وكيف نحمل أنفسنا. هذه القواعد المعقّدة تساعدنا على فهم أنفسنا وبعضنا الآخر. وبانتهاكك لهذه القاعدة، فأنت تهدّد “قاعدة مشترك من الوضوح المتبادل والجاهز”.

عندما تسقط، فإنّك تفشل في التصرّف بطريقة مقبولة، وبالتالي تشكّل تهديداً على الفور. قد يتساءل الآخرون “هل هو خارجٌ عن السيطرة بشكلٍ خطير؟” “هل هو تهديد؟” الخوف من العقوبة الاجتماعية -من نظرة غاضبة إلى النّفي التام- سيحفّزك على الانخراط في ما يسمّيه غوفمان “العمل العِلاجي”، وهو محاولة لإظهار أنّك لا تشكّل مشكلة على الإطلاق.

النظر إلى الإشارات الأرضيّة يدلّ على أنّك لم تختر الحركة بشكل غريب -فقد تعرّضتَ لعَقبة غير متوقعة. الابتسام يدلّ على أنّك ترى الحادث “كنكتة، شيء غير معتاد تماماً”. والشّتم يدلّ على أنّك شخص سليم العقل، نظراً لأنّك تستطيع استخدام اللغة، وأنّ سقوطك كان مجرّد هفوة في حياة عادية. من خلال أداء مثل هذا “العَرض العادي أو الطبيعي”، تعيد تأسيس نفسك كشخص متّزن ومطّلع على بواطن الأمور، وتعود المياه إلى مجاريها.

أدرك غوفمان أنّ السلوكيات من هذا النوع، ليست نتيجة لقلق خاص، أو وعي مفرط بالذات أو الاحراج. بل إنّها تشكّل استجابات معقولة من قِبَل أشخاص متناغمين على نحو متناسب مع تعقيدات العالم الاجتماعي.

يكشف “علم الاجتماع الجزئي”[1] لغوفمان أنّه حتى أكثر التفاعلات الاجتماعية عَرَضيّة هي ذات أهمية نظرية عميقة. كل لقاء يتشكّل حسب القواعد والأوضاع الاجتماعية؛ “سواء تفاعلنا مع الغرباء أو المقرّبين، سوف نجد أنّ رؤوس أصابع المجتمع قد امتدّت وتلامست بشكلٍ صريح”. مثل هذه التفاعلات تساهم في إحساسنا بذواتنا، وفي علاقاتنا مع الآخرين، وفي البنى الاجتماعية، التي قد تكون في كثير من الأحيان قمعيّة إلى حدٍ عميق. وبغضّ النظر عن التعاملات في قاعة المحكمة، أو مجلس الشيوخ، أو قسم التداول، يرى غوفمان أنّ “معظم عمل العالَم يُنجَز” في سياق التعاملات الدّنيوية للحياة اليومية.

وُلِدَ إرفينغ غوفمان في عام 1922 في ألبرتا، كندا، لأبوين مهاجرين يهوديين من أوكرانيا. بعد حصوله على درجة البكالوريوس في جامعة تورنتو، بدأ الدراسات العليا في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة شيكاغو. قاده عمله الميداني إلى بالتاساوند، وهي قرية في أونست في جزر شيتلاند، اسكتلندا. هنا طوّر نسخته الفريدة من علم دراسة الأجناس البشرية وعاداتها: الإثنوغرافيا ethnography. أمّا الأطروحة الناتجة عن دراساته، “سلوك التواصل في مجتمع الجزيرة” (1953) Communication Conduct in an Island Community، عرض فيها الأساليب والمنظور المُبتَكَر الذي من شأنه أن يجعل غوفمان مشهوراً فيما بعد.

وصف بحثه بأنّه دراسة “في مجتمع”، وليس دراسة “عن مجتمع”. كان يعتقد أنّه لا يمكنك فقط مراقبة العالَم الاجتماعي لفهمه؛ بل يجب أن تتوغّل فيه، وأن تكون مراقباً مشاركاً. يجب أنّ تدخل فيه إلى درجة “تنسى فيها أنّك عالِم اجتماع”. وهكذا، في الفترة من كانون الأول/ديسمبر 1949 إلى أيار/مايو 1951، أصبح عضواً في مجتمع بالتاساوند؛ وحضر المزادات والأفراح والجنائز والحفلات الموسيقية؛ ولعب البلياردو والورق مع السكّان المحليين؛ وتناول الطعام وعمل كغاسل أطباق في الفندق المحلي. سيصبح هذا النهج الغامر والمتغلغل أسلوبه السائد – وسيُشتَهَر عنه أنّه سيعمل في وقت لاحق بشكل متخفٍّ في مستشفى نفسي لدراسة قواعدها الاجتماعية.

استخدم غوفمان هذه المنهج لمتابعة جدول أعمال بحثي جديد. كان علماء الاجتماع الرائدين في ذلك الوقت، مثل تالكوت بارسونز، مهتمّين بالهياكل الاجتماعية الكبيرة، مثل الاقتصادات، والأديان، والمؤسسات السياسية. تجنّب غوفمان هذه السوسيولوجيا الكبيرة لصالح تحليل التفاعلات الدقيقة وجهاً لوجه. فقد درس، على سبيل المثال، كيف كان أهالي بالتاساوند يحيّون بعضهم البعض عندما يمرّون على الطرق، وكيف كانوا يغيّرون سلوكهم اعتماداً على ما إذا كانوا بين العملاء أو الزملاء، وكيف كانوا يتعاملون مع الأخطاء الاجتماعية، مثل نسيان اسم شخص ما.

في بحث الدكتوراه هذا، نجد أساس فكرة غوفمان الأشهر: أنّ التفاعلات الاجتماعية تخضع لمجموعة معقّدة من القواعد والمعايير والتوقعات التي سمّاها “نظام التّفاعل”. كان يعتقد أنّ فهم هذا النظام التفاعلي أمرٌ أساسي لفهم كيفية تطوير البشر لهوياتهم الفردية والجماعية، وكيفية تكوين وتوجيه العلاقات، وكيفية تشكيل أنظمة الاستبعاد والقمع.

قام غوفمان في كتابه الأكثر شهرة، تقديم الذات في الحياة اليومية (1956) The Presentation of Self in Everyday Life، بتطوير تحليل درامي للتّفاعل، آخذاً على محمل الجد جملة شكسبير التي تقول “العالم كلّه مسرح”. تماماً كما يتصرّف الممثل بشكل مختلف على المسرح عنه في الكواليس، كذلك يقوم كل منّا بتغيير سلوكه تبعاً للسياق. عندما نكون بحضور الآخرين، نسعى لتقديم أنفسنا كمحتلّين لدور اجتماعي معيّن، سواءً كان ذلك موظفاً، أو صاحب عمل، أو معلم، أو طالب، أو جار. نحن نستخدم أجسامنا وكلماتنا لنعطي معلومات استراتيجية معينة. وقد أطلق غوفمان على ذلك تسمية “خشبة المسرح الأمامية”.

عندما نغادر هذه الأماكن الاجتماعية، نخرج من أزيائنا وندخل “خلف الكواليس”. الكواليس عادةً ما تشمل حواجز أمام الإدراك -عندما نكون في كواليس المسرح، أو في المطبخ خلف المطعم، أو في الحمام في منزل يستضيف حفل عشاء، نكون مختبئين عن الآخرين، ولا نحتاج بعد للتحكّم في الصورة التي نقدّمها. أحياناً تُنتَهَك خشبة المسرح الأمامية؛ قد نكون في حالة عريّ كامل، أو قد يسمعنا شخص ما ونحن نتمتم متذمّرين بشكل خبيث عن زميل لنا. وهذا من شأنه أن يسبّب لنا إحراجاً كبيراً لأنّ الهوية التي نحاول تنميتها على خشبة المسرح الأمامية قد تمّ تقويضها.

أحياناً قد يُساء فهم كناية غوفمان المسرحية. فهو لم يزعم أنّنا جميعاً محتالون ونُسيء تمثيل أنفسنا باستمرار. بل كانت فكرته تتلخّص في أنّ كوننا أعضاء في المجتمع يتطلّب عملاً مستمراً -عملية مستمرة لإدارة الانطباعات، حتى يصبح المرء مفهوماً للآخرين من خلال إشارات وإيماءات دقيقة. تماماً كما أنّ الشخصية في المسرحية هي نتاج جهدٍ مُتعِبٍ للممثل، فإنّ هوية الشخص هي نتاج مشروعٍ خلّاقٍ مستمرّ، يُنفّذ أمام الجمهور ومعه.

لا يزال هذا العمل وثيق الصلة بالموضوع حتى يومنا هذا، حيث قام مؤثّرون ومؤثّرات وسائل التواصل الاجتماعي بتحويل بناء الهوية وتنسيقها وتنظيمها إلى شكل من أشكال الفن. تجد استعارة غوفمان المسرحيّة أيضاً صداها في فكرة الجندر كأداء المعاصرة، التي صاغتها الفيلسوفة جوديث بتلر في كتاب “مشكلة الجندر” Gender Trouble (1990) وفي أماكن أخرى. كان غوفمان في ذلك الوقت متقدّماً بملاحظته أنّ الهويّة تُبنى ليس فقط من خلال الحديث، بل من خلال الجَسد أيضاً. نحن نعبّر عن هويّتنا ليس فقط بالكلمات بل أيضاً من خلال حركاتنا وكيف نرتدي ثيابنا -أو ما يسمّيه غوفمان بـ “لغة الجسد”.

خلال الفترة التي قضاها في أونست، لاحظ غوفمان أنّه عندما يحتاج السّكّان المحلّيون إلى الاختلاف مع بعضهم الآخر، فإنّهم لا يرفضون تصريحاً ما بشكلٍ مباشرٍ وقاطع، وإنّما يخفّفون من وَقع الصدمة بعبارة مثل “هناك بعض الصحّة فيما تقول”. وفي مقاله اللاحق “عن أنماط الوجه” (1955)، قام بتوصيف هذه الحركات الاجتماعية اللبقة كأشكال من “أنماط الوجه”، وهب محاولات لإنقاذ “وجه” الشخص. مستنداً إلى أفكار من المجتمع الصيني، وصف غوفمان “الوجه” بأنّه “القيمة الاجتماعيّة الإيجابيّة” التي يبنيها الشّخص ويطالب بها لنفسه في أي تفاعل اجتماعي.

نحن عادةً نبذل جهداً كبيراً لتجنّب النيل من “الوجه” الآخر. على سبيل المثال، إذا كنّا بحاجة لطلب شيء ما من شخصٍ ما، فإنّنا نظهر بأنّنا نحترم استقلاليته عن طريق صياغة طلبنا بعبارات مثل “هل تمانع إذا…”، “سأكون ممتناً جداً لو استطعت…”، “آسف لإزعاجك، ولكن…”. جميع البريطانيين على دراية بالحركة والإيماءات الحوارية التي يقوم بها الشخص عندما يجلس، ثم يضرب كفّيه على فخذيه، ويبدأ في الوقوف ببطء -حركة ترافقها أحيانًا عبارة “صحيح”. لماذا تخاطر بالنيل من وجه المضيف بالقول “لقد اكتفيت من ذلك وأريد المغادرة”، بينما يمكنك أداء هذه الطقوس الصغيرة بدلاً من ذلك؟

ونحن أيضاً نستجيب بسرعة عندما يخاطر الشخص بفقدان ماء وجهه. إذا سقط شخص ما أو وقع في وضعٍ محرج، ندير أعيننا. وإذا شعروا بالإهانة أو الإحراج، قد نعتذر (إذا كنّا مسؤولين)، أو نثني عليهم، أو نقدم لهم الهدايا والدعوات. من المغري التفكير بأنّ الهدف الأساسي للمحادثة هو تبادل المعلومات. في الواقع، يظلّ هذا افتراضاً في الكثير من فلسفة اللغة المعاصرة. يظهر لنا غوفمان أنّ المحادثة تنطوي على أكثر من ذلك بكثير ويمكن أن تتمحور حول الحفاظ على شعور الذات لبعضنا بعضاً بقدر ما تتمحور حول توصيل الحقائق أو الآراء.

نظام التفاعل لا يحكم محادثاتنا فحسب. كان غوفمان يعتقد أنّنا خاضعون لقواعد غير مرئية حتّى عندما نكون بالكاد موجودين بحضور الغرباء. فكّر في كيفيّة تصرّفك عندما تجلس بجانب شخص غريب في القطار أو تمُرّ بجانب شخصٍ لم تَرَه من قبل في الشارع. من المحتمل أن تلقي نظرة سريعة عليهم -بشكلٍ عابر، أو وَمضَة- ثم تُبعِد نظرك بشكل واضح، مثل سيارة تطفئ أضواءها. من خلال هذا الإجراء، “أدقّ الطقوس الشخصية”، إنّك تلتزم بما يسمّيه جوفمان “قاعدة” لـ “التجاهل المدني” norm of civil inattention؛ حيث تعترف بوجود الآخر بشكل طفيف، مع إشارة إلى أنّك ليس لديك “أي نوايا عاطلة ولا [تتوقّع] أن تكون موضوعاً لنوايا من هذا النوع من الطرف الآخر”.

يعتقد غوفمان أنّك إذا رأيت صديقاً في أحد الأماكن العامة، وليس لديك رغبة بالدخول في تفاعل معه، من المحتمل أن تشعر بالالتزام بـأن تلوّح له أو تومئ أو تبتسم. أمّا عندما تقابل شخصاً غريباً، فعلى العكس، إنّ التوقّع الافتراضي هو تجاهله – تقريباً، ولكن ليس تماماً. في بعض الحالات، يمكن أن يكون من الصعب فعل ذلك؛ “هناك قاعدة في مجتمعنا”، يكتب غوفمان، بأسلوبه البليغ المُعتاد، هي أنّه “عندما تكون الأجساد عارية، تكون النظرات مُحتشمة”.

إلا أنّ هناك استثناءات لقاعدة التجاهل المدني. لا يخضع لها “أشخاص معينون” ؛ ككبار وصغار السّنّ، ورجال الشرطة، والأشخاص الذين لديهم كلاب، وآباء لديهم أطفال، على سبيل المثال، يعتبرون جميعاً ودودين. لابأس في أن نبتسم لطفلٍ مجهولٍ على متن قطار ــولكن ليس لرجلٍ مجهول في منتصف العمر.

ورغم أنّ غوفمان نفسه لم يَخُض في سياسات التجاهل المدني، فمن الواضح أنّ التراتبيات الهرميّة الاجتماعية تحدّد، جزئياً على الأقل، من يستطيع الاقتراب مِنْ مَنْ أو مَن يمكن الوصول إليه. وقد استمرّت كارول بروكس غاردنر، طالبة غوفمان، في تطبيق تحليله للمساحة العامة على ظاهرة الصّفير عند التحرّش: فقد لاحظت أنّه غالباً ما تُعامَل المرأة الوحيدة كشخص منفتح من قبل المتحرّشين في الشوارع بطرق تعزّز المعايير الجندرية القمعيّة.

في حين كان غوفمان يحبّ أن يسلّط شعلته الاجتماعية على شبكة القواعد والأعراف الاجتماعية المعقّدة، فإنّه لم يَرَ أيّ قيمة جوهرية في المعايير نفسها. وفي الواقع، كان في كثير من الأحيان ينتقد بشدّة إمكانيّاتها الإقصائية. وفي كتب مثل “مصحّات” Asylums (1961)، و”الوَصم” Stigma (1963)، وفي سلسلة من المقالات عن السجون والمستشفيات، أبدى غوفمان تعاطفاً كبيراً مع محنة “المنحرفين عن جادَة الصواب”، وهم الأشخاص الذين لم يمتثلوا أو لم يخضعوا لأوامر التفاعل، لأسباب نفسيّة أو بدنيّة، والذين استبعِدوا بالتالي من المشاركة الاجتماعيّة.

في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، قضى غوفمان 12 شهراً يعمل كموظّف في مستشفى القديسة إليزابيث، وهي منشأة للأمراض النفسيّة في واشنطن العاصمة تهدف إلى “التعرف على العالم الاجتماعي لنزيل المستشفى، كما يختبر هذا العالم بشكلٍ ذاتيٍّ”. وكان لاذعاً في استنتاجاته، واصفاً المستشفيات من هذا النوع بأنّها “مكبّات تخزين ميؤوس منها، مُزيّنة في ورقة طب نفسي”.

كما وصف مستشفيات الطبّ النّفسي، إلى جانب السّجون، ودور الرّعاية، والثكنات العسكرية، والأديرة، والمدارس الداخلية، بأنّها “مؤسّسات كلّية”. وهي مؤسّسات ينفصل فيها الأفراد عن بقيّة العالم الاجتماعي، ويُجبَرون على الخضوع لجميع الإجراءات الرّوتينية الأساسيّة للحياة اليومية -العمل، واللعب والنوم- في نفس المكان، وفي أماكن أخرى في وضع مماثل، وفقاً لجدول زمني تحدّده سلطةٌ ما.

ولاحظ غوفمان أنّ النزلاء عند وصولهم إلى مثل هذه المؤسسة، يتعرّضون عادةً “لسلسلة من أعمال الإهانة والتحقير والإذلال وتدنيس الذّات” -على سبيل المثال، في السجن أو المستشفى، تُصادَر ممتلكاتهم، وتُجَرّد أجسادهم، وتُعَرّى، وتُفَتّش، وتُغسَل، وتُحلَق أحياناً، ويُحرَمون من أي وسائل اتصال بمعارفهم في العالم الخارجي.

من خلال هذه العملية، اعتقد غوفمان، أنّ المرضى أجبروا على التخلّي عن “ذاتهم المدنية”، لصالح الذّات المؤسّسية المعقّمة. إنّ أفعال العصيان التافهة التي ينخرط فيها المرضى بعد ذلك، مثل الاحتفاظ بمخبأ ممنوع، أو الابتزاز، أو العمل الجنسي، لم تكن أعراضاً للانحطاط بل محاولات للتمسّك بإحساسهم بالذّات بينما تعمل القوى المحيطة بهم بجدّ للقضاء عليها.

كان غوفمان ينتقد بشدّة ما يمكن أن نسمّيه الآن “النموذج الطبّي” للأمراض العقليّة، والعمليات التي من خلالها يصبح الشخص مُمَأسَساً. وقال إنّ العديد من أعراض حالات الصحّة العقلية كانت في الواقع “مخالفات ظرفية” _فشل في الالتزام بمعايير نظام التّفاعل.

يعتقد غوفمان أنّ مأسَسَة الأشخاص الذين ارتكبوا مثل هذه “التصرّفات غير اللائقة” وإيداعهم المصحّات سيدفعهم إلى ارتكاب المزيد منها: “إذا سلبتَ الناس جميع الوسائل التقليدية للتعبير عن الغضب والاغتراب ووضعتهم في مكان لم يكن لديهم فيه سبيل أفضل للتعبير عن هذه المشاعر، فإنّ الملاذ الطبيعي سيكون استغلال ما تبقى –”التصرّفات الظرفية غير اللائقة”.

حدّد غوفمان هنا ما وصفه الفيلسوف إيان هاكينج بـ “الحلقات” الاجتماعيّة: حيث إنّ وصف الشخص بأنّه عضو في فئة اجتماعية (في هذه الحالة، شخص مريض عقلياً) يؤدّي إلى تطوير المزيد من الخصائص التي تستدعي هذا الوصف وتبرّره. كان مستشفى الأمراض النفسيّة في الظاهر مجرّد ردّ فعلٍ على المرض العقلي، ولكنّه كان في الواقع يبنيه نوعاً ما.

في كتابه “الوَصمة” Stigma، حوّل غوفمان اهتمامه إلى عمليات الاغتراب الاجتماعي خارج المؤسّسة. فقد تصوّر الوَصم على أنّه “سِمَة تشوّه السمعة بشدّة وتسيء إليها بشكل كبير”، ممّا يجعل الشخص “ملوّثاً” أو مُهملاً، وبالتالي “غير مؤهّل للقبول الاجتماعي الكامل”. كان يعتقد أنّ هناك وَصمَة جسدية، كالإعاقة؛ ووصمَة أخلاقية، كالعيوب المزعومة في الشخصية؛ ووصمة قبلية، كالانتماء إلى أعراق، أو أمم، أو أديان، أو طبقات معيّنة.

كان غوفمان واضحاً في أنّ الوصم “ليس موثوقاً ولا غير موثوق بصفته شيئاً بذاته”. بدلاً من ذلك، يحدّد المجتمع أي الصّفات هي العادية والطبيعية، وأيّها ليست كذلك. وكان حاذقاً بوجهٍ خاص في تناول التحدّيات التي يواجهها الأشخاص الذين يعانون من الوَصم، وفيما يمكن أن نسمّيه الآن “سياسات الاحترام”: ((أن يظهر أو لا يظهر))، لا بدّ أن يتساءل الشخص الموصوم، ((أن يُخبر أو لا يُخبر؛ أن يُفشي أو لا يُفشي، أن يكذب أو لا يكذب؛ وفي كل حالة، لِمَن، وكيف، ومتى، وأين)). وصف غوفمان الأشخاص المكفوفين الذين يختارون ارتداء نظّارات سوداء لإخفاء عيونهم بأنّهم ((يكشفون عن العمى بينما يخفون العمى)).

وقال غوفمان إنّ الشخص الموصوم سيظلّ إلى الأبد “غريباً مُقيماً”. والواقع أنّ اندماجه الظاهري في أي مجتمع سوف يظلّ دوماً مؤقتاً وغير مستقرّ، ولسوف يعيش في خوف من إرباك هؤلاء الذين يتّخذون القرار بضمّه. ويُتَوَقّع من هذا الشخص أن يقدّم لمجتمعه الجديد قبولاً لن يقدّمه أفراده له في المقابل. يمكنه أن يأمل، في أحسن الأحوال، في “قبول وهمي”، والذي بدوره يسمح بنشوء شعور “بحالة طبيعيّة وهميّة”.

في وقتٍ متأخّرٍ من حياته، حوّل غوفمان اهتمامه إلى الجنس. وانتبه، كما هو الحال دائماً، إلى طبيعة الهوية المَبنيّة اجتماعياً، ورفض الاختلاف البدني كأساس لعدم المساواة الاجتماعية بين الرّجال والنساء، وقال إنّ الاختلافات بين الجنسين كانت تنتج من خلال “نظام تحديد هوية” يُملي أنواع العمل التي يقوم بها الناس، ومع مَن يتفاعلون، وكيف يرتدون ملابسهم، وحتى ما المراحيض التي يستخدمونها. ويرى غوفمان أنّ “التعبير عن الخضوع والهيمنة” ليس مجرّد تقفّي أثر أو رمز أو تأكيد شعائري للتسلسل الهرمي الاجتماعي”. وبدلاً من ذلك، “تشكّل هذه التعبيرات إلى حَدٍ كبيرٍ التسلسل الهرمي؛ إنّها الظلّ والجوهر”. إنّ الجندر هو نتاج ممارسات اجتماعيّة تفاضلية، وليس مبرّراً لها.

رفض غوفمان طوال حياته المهنيّة وصف عمله بأنّه يقدم نظرية عن العالَم الاجتماعي. وقد وصف غوفمان نفسه في خطابه الرئاسي للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع، الذي نشر بعد وفاته بسبب وفاته المبكرة في سنّ الستين، بأنّه لا يقدّم سوى “لمحات” عن بنية التّفاعل الاجتماعي. وهذا قد يفسّر سبب اختلاف العديد من علماء الاجتماع حول بالرغم من شهرته، ولماذا يتمّ تجاهله غالباً في مجال الفلسفة المجاور.

من الصعب معرفة ما الذي يمكننا فعله مع غوفمان. فهو لم يقدّم أي مبادئ تأسيسيّة، ولا تحليلات شاملة للعالَم في مجمله. ولم تكن منهجيّته واضحة دوماً؛ فقد استخدم الكثير من البيانات ليتأهّل كمنظّر، ولكنّ عمله كان في كثير من الأحيان مجرّد للغاية، وانطباعي جداً، وأدبي جداً بحيث لا يمكن اعتباره إثنوغرافياً حقيقياً. ولم يكن متعاوناً جداً برفضه التفاعل مع تحليلات الآخرين حول عمله.

ومع ذلك، كان لرفض غوفمان للتنظير أهمية كبيرة من الناحية النظرية. لقد أظهر أنّ المرء لا يحتاج إلى صياغة نظرية كبرى لعن العالَم من أجل تحسين فهمنا له. والواقع أنّ مثل هذه التنظير العظيم قد يكون سابقاً لأوانه عندما لا نكون قد أدركنا بعد التعقيدات الكاملة حتى لأدقّ الظواهر ـ كسقوط شخص في الشارع. ورأى غوفمان أنّه يمكن أن يكون هناك قيمة كبيرة في توفير “تمييز مفاهيمي واحد”، “إذا كان ذلك ينظّم، وينير، ويعكس البهجة في ملامح بياناتنا”.

وبتحديد “نظام التفاعل”، سلّط غوفمان أيضاً الضوء على بعدٍ من أبعاد الحياة كان مخفياً في السابق عن معظمنا. وفي مواجهة ما أشار إليه بــ “الميل المؤثر للحفاظ على جزء من العالم في مأمن من علم الاجتماع”، أوضح لنا أنّ الحياة اجتماعيّة على طول الطريق -ولا شيء نفعله بمنأى عن معايير وتوقّعات مجتمعنا.

قد يجد المرء هذا الوحي كئيباً ومُحبطاً؛ ألا يوجد راحة من مطالب وآراء الآخرين؟ ولكن من الممكن أيضاً أن نجد الأمل في ذلك. وما قد نعتبره إحراجاً شخصياً يشكّل في واقع الأمر دليلاً على الانسجام الحاد مع المعايير والأعراف الاجتماعية. إنّ سمات أجسادنا وسلوكياتنا وعقولنا التي أخبرنا الآخرون بإنّها عيوب متأصّلة ليس لها في الواقع أيّ مغزى أخلاقي -وينبع عيبها المزعوم من معايير اجتماعيّة تعسّفية لـ “الحياة الطبيعية”. وفي نهاية المطاف، لن يتسنّى لنا أن نبدأ في تحويل هذه المعايير الاجتماعية إلا بمجرّد إدراكنا كم هي طارئة ومُصطَنَعَة، وخاصة تلك التي تَقمَع.

_______

*لوسي مكدونالد Lucy McDonald: هي مُحاضِرَة بعلم الأخلاق في كلية كينغ بلندن. وقد ظهر عملها في مجلّات عديدة مثل Journal of Moral Philosophy و Australasian Journal of Philosophy

https://aeon.co/essays/pioneering-sociologist-erving-goffman-saw-magic-in-the-mundane


[1]) microsociology: علم الاجتماع الجزئي ‏ هو أحد المستويات الرئيسية لتحليل علم الاجتماع، فيما يتعلق بطبيعة التفاعلات الاجتماعية البشرية اليومية والوكالة على نطاق صغير: وجهًا لوجه. يعتمد علم الاجتماع الجزئي على التحليل التفسيري الذاتي بدلاً من الملاحظة الإحصائية أو التجريبية، وتشارك ارتباطًا وثيقًا بفلسفة الظواهر.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات