رواية “صاحب السر” .. عودة للأدب الغرائبي
تعدّ رواية عمار علي حسن الجديدة “صاحب السر” التي صدرت عن الدار المصريَّة اللبنانيَّة بالقاهرة تجربة مختلفة عن كل ما قدّمه المؤلف من روايات، من حيث الموضوع وبنيَّة الرواية، فهي تأخذك بين ما هو واقعي مألوف وبين الغريب، الذي يخلط السحر والدهشة بالخوف والأمل.
يعيش بطل هذه الرواية أيامًا عصيبة بعد أن دفنه كبار القرية حيا لتموت معه أسرارهم، حيث كان قد أتيح له وحده معرفة الكثير عن انحلال نسائهم، وسرقاتهم التي لا تتوقف، وتجارتهم الحرام، وأفعالهم المشينة، فهو دارس للقانون ما مكنه من أن يكون مرجعا لأهل القرية في كل ما يكتبونه من أوراق ثبوتيَّة فصار مستودع أسرارهم، كما أن أباه يعمل خياطا بسيطا وكل نساء القرية تأتي إليه، وتثرثر أمامه بالكثير من الأسرار التي وصلت إلى مسامع الابن.
في المقبرة يكلم البطل، واسمه مرزوق الحر، الراقدين حوله من الموتى، فيعرف منهم أسرارًا أكثر، تجعله راغبًا في الخروج إلى الحياة، فيكافح بلا انقطاع وهو محاط بالرعب والفزع، والكوابيس التي تداهمه وهو مفتوح العينين، ويغالب الروائح الكريهة، وعلامات النهاية التي تهاجمه كل لحظة.
ويأتي السرد على مدار الرواية بضمير المتكلم، ويهمين بطلها عليه، فيما تتهادى الشخصيات الأخرى في تلافيف الحكي المتوالد والمتتابع على لسانه، ويزداد حضورها في الفصول الثلاثة الأخيرة للرواية، لاسيما حين تحضر عصابة اللصوص، وعمدة القرية، وشيخ البلد.
من الفصل الأول إلى التاسع يظل القارئ غير متأكد من حالة الراوي، هل هو حي أم هو ميت ويقص حكايته من العالم الآخر. وهنا يمر الراوي/ البطل بمجموعة من الخيالات، ويسمع أصوات الموتى، وتزوره حبيبته حميدة التي فارقها منذ زمن وتزوجت، وعاشت في بلد بعيدة. ويبدأ في محاولة التعرف على الراقدين حوله في المقبرة، وتوقع من يكونوا هم، لأنهم من أهل قريته، بعضهم عايشه، وبعضهم سمع عنه من الناس.
ومع هذه الأفكار يروي البطل ذكرياته في قريته الكائنة على أطراف الصحراء، ونعرف أنه كان دارسا للقانون بكليَّة الحقوق، لكنه لم يكمل دراسته لضيق ذات اليد، إلا أنه أصبح الخادم القانوني لأهل القرية، كشاب متعلم موثوق بذكائه، الأمر الذي جعله مخزنا هائلا لأسرار الجميع، خصوصا أن والده كان يعمل خياطا تتردد عليه النساء، ويبحن أمامه بمكنونهن.
وحين يتأكَّد عمدة من أن مرزوق قد جمع من الأسرار ما يهدِّد كبار القرية، يطالبه بالصمت، ثم يحاول قتله بالسم، وأخيرا يدفنه حيا لتموت معه أسرار الناس. وبين هذه الحالات الرئيسيَّة تولد الكثير من التفاصيل الصغيرة الثريَّة الخاصة بحياة أهل الريف، وهي مفعمة بالحيويَّة والشاعريَّة والحكمة.
على مدار فصول الرواية يحاول البطل المدفون حيا الخروج من قبره، حين يرى شعاع نور ضيق يدخل من ثقب ضيق جدا بين طيات الطوب والأسمنت التي تشكل الجدار العلوي للمقبرة، فيأخذ عظمة مسنونة من ميت يرقد إلى جانبه، ويبدأ في توسيع الثقب، وحين يتدفق قدر من النور إلى الداخل يكتشف أن كل الجثث بلا رؤوس فيدرك أن عصابات الإتجار في الجماجم قد سبقته إلى هنا.
يأتي كثيرون إلى المقبرة لدفن موتاهم، وهناك رجل اسمه خليل من القرية المجاورة للمقبرة، يصحب زوجته، التي يعود مسقط رأسها إلى قريَّة مرزوق نفسه، ليضاجعها بين الموتى لأن هناك دجال أفهمه أنه لن يتمكن من أن يكون رجلا معها إلا في مقبرة، وأنها لن تحمل منه إلا بهذه الطريقة. ويعول مرزوق على هذا الرجل في إخراجه من قبره فيبدأ يحاوره من الداخل بصوت يتعمد أن يكون غريبا وكأنه صوت جان أو ملاك يحدثه من العالم الآخر، ويفمهمه أن حل مشكلته لن يتم إلا بفتح باب المقبرة لأن التعويذة التي تحول دون سلامته الجنسيَّة مدفونة داخلها.
وتأتي أيضا ذئاب باحثة عن فرائس بين القبور، وضباع تبحث عن جيف، وفي نهايَّة المطاف، ولأسباب أو أخرى، يصل الخبر إلى العمدة أن من دفنه حيا لا يزال على قيد الحياة، فيسرع إلى المقبرة مع رجاله، ليقف على الأمر، فيفتح المقبرة، لكن مرزوق يتمكن من لف نفسه بالكفن، ويأخذ من القطع النتنة التي حوله ويضعها على كفنه، ويتوحد تماما مع الموتى، حين يلقون عليه نظرة عجلى، فيعتقدون أن الخبر الذي جاء إليهم كاذب، ويذهبون عنه وهم متأكدون من موته المحقق، لكن العمدة يأمر رجاله بوضع حجر ثقيل على الثقب الذي كان قد فتح قليلا، لتعود المقبرة مظلمة، ويبدأ مرزوق شوطا جديدا في الكفاح من أجل الحياة.
بعد ذهاب العمدة يأتي الرجل الباحث عن اكتمال رجولته ليلا، حسبما اتفق مع مرزوق، ومعه فأس وقادوم ومنشار حديد، ينشر به قفل المقبرة، بينما زوجته تضيء له المكان بنور كشاف صغير. وحين يفتح الباب، ويمد مرزوق يده ليناوله شيئا لفه من الأكفان والعظام والرمل على أنه التعويذة التي أخبره بها، يقف فجأة فيسقط الكفن عن جسده، فيظهر أمامهما عاريا حيا، فتعرفه زوجة خليل، وتصرخ باسمه، فيجري مرزوق متجها إلى الجبل، وهما يلاحقانه، لينتهي السرد بصوت الراوي وهو يرى أشباح الموتى أمامه، ولا يعرف ماذا ينتظره.
إذا نحن هنا لسنا أمام رواية رعب إنما حالة فنيَّة مشوقة لها أبعاد إجتماعيَّة ونفسيَّة غارقة في الخوف، ولا تخلو من مغزى فلسفي وسياسي عن الإنسان الذي عليه أن يصارع طويلًا في سبيل الخروج من الضيق إلى الأفق الأكثر رحابه.
تبدو الرواية غاية في الغرابة من حيث المكان، فهي تدور بأكملها تقريبا داخل قبر متسع يسميه الراوي “منامة”، حيث يفيق بطلها من غيبوبة الكبد ليجد نفسه مكفنا ومدفونا، وهو هنا يمر بمجموعة من الخيالات، ويسمع أصوات الموتى ويحدثهم ويسامرونه، ويقابل حبيبته التي فارقت الحياة قبل سنوات. تتميز بأسلوب سرد جذاب شاعري مبطَّن بأبعاد ثقافيَّة تراثيَّة وحديثة، فيما جاءت الجمل مشدودة ومتوترة كأنها أسطر من قصائد. وعلى الرغم من ثبات الحدث الدرامي على مدار أغلبها فإن صوت الراوي نجح تماما في ملء هذا الفراغ باستدعاء الذكريات والحركة والاكتشاف في المكان المحدود التي تدور فيه وهو المقبرة، فيما يكشف السرد عن عالم القرية المعقد بتشابكاته وعلاقاته الغريبة، وهو أمر مهم زاد من حيويَّة الحكي، لكن أيضا البناء الفني للرواية “بسيط ومحكم كما أن التبادل بين الحكي الآني للراوي والأفعال القليلة التي يقوم بها في تلك المساحة الضيقة تم تصميمه بشكل جيد،هنا تبدو تجارب الحياة تنعكس علي أدب عمارة علي حسن إذ أنه جمع بين الواقعيَّة والخيال في صورة دراميَّة من داخل القبر.
الرواية هتكت ستر عالم الأسرار داخل المجتمع المصري هذا العالم القائم علي مشكلات اجتماعيَّة دفينة في عمق هذا المجتمع تحتاج لمعالجات جذريَّة لكي يبقي السلم المجتمعي، فهل تعد هذه الرواية صرخة لتنبيه الناس إلي هذه المشكلات المعقدة؟
وتعدّ “صاحب السر” هي الرواية الثانية عشر للكاتب، فضلا عن سبع مجموعات قصصيَّة، وديوان شعر، وسيرة ذاتيَّة سرديَّة، ومتتاليتان قصصيتان، وقصة للأطفال، وستة وعشرون كتابا في الثقافة والاجتماع السياسي والتصوف.
________
*الدكتور خالد عزب.
*المصدر: التنويري.