قراءة تحليليّة في النُصوصِ التُّراثيّة
ما الدَّاعي لأن تناصِبَ اللّغة العداء للمرأة العربيّة، إمَّا توبيخًا أو تحقِيرا أو ترميزًا محسوسًا لا يليقُ بجلالهَا!
لا تتّضِحُ المسألة على غرابَتِها إلّا إذا استقرأنا الموقف الذُّكوريِّ المُتنَاميِّ ضدَّهَا، فنسقُ التّفحيلِ يُساقُ ضِمنَ التّعابير اللغوية المواربة، المجازات البلاغيّة التندريّة، الاستعارات التّهكميَّة، بحيث توردُ هذهِ الأساليب في نطاق الفضاءات التواصليَّة ذات الاِمتِداد الشّعبيِّ وهذا للسَّيطَرةِ على سلوكِها وتقويضِ كل المعابر الموصِلة لكيّ تنافِس الرَّجلَ في سُؤدَدهِ الاجتِماعيِّ ومن ثمّ الخروج عن دائرةِ نُفوذِهِ
لهذا تغتَدي اللّغةُ وقتئذٍ أَداةً سُلطويّةً تُشرعنُ ثقافةَ الاِستِلاب، بكبحِ رغباتِ الأنثى وتشييىءِ صِفاتهَا عبرَ لفيفٍ من التّوريات البلاغيَّة والإبدالاتِ المعجميّة المتحيِّفة التي ترتضِي تحجِيمَ المرأة وتقزيمِ دورهَا الثقافيِّ والحَضاريِّ.
فلا منَاصَةَ في ضوءِ هذه المُحاكمة المجحِفة أن يتواضع المعجميُّون على دلالَةٍ بعينِهَا تضبط الملفوظ اللسانيِّ “النِّساء”، فالنّسيء مِنَ النِّساء وهوَ كلُّ ما تأخَّر حدوثُهُ أو تأجَّلَ عن وَقتِهِ، لذَا يقالُ نَسِئَت المرأة نَسأً أي تأخّرَ حيضُهَا”.
وتأسيسًا على هذا المفهومِ فقد تجاوز العربَ مِقدارَ اللفظَةِ المتولِّدِ من معانِيهَا الحسيَّة المُشبعةِ، فأضفوا عليها طابعَ الشموليّة، لِتَجتَاحَ دلالةُ التّأخير كلَّ تفاصيلَ حياتِهَا فأريدَ بها تسويغًا أن تكونَ ذَيلَ الرَّجُلِ لا مِقوَدهُ، فخيرُ الصُّفوف في الصّلاةِ بالنسبةِ للمرأةِ آخرها، وشرُّها أولها، وأفضل الجنائز ما خلت من النِّسوة وأسمارهِنّ الباطلة وفي حالِ حصولِها على رخصة فقهيّة فينبغي لَها أن تتذيَّل صُفوفَ المشيَّعين.
أَتاحَت اللُّغة بما تحوزه من طاقات تَعبيريَّة للخطباءِ والشُّعراء تَسييجَ هويّة المرأة ضمن رِتلٍ من المجازات التوصيفيّة التي تجري مجرى التّكنيَة المُتشيِّئة، فهي في أعرافهم الأدبيّة مرادِفٌ للنَّعجة والشاة والقُلوص، والنّعلِ والقارورةِ والعَتبة وهكذا دَواليك.
فالعربُ تستعيضُ عن ذكر لفظةِ النّكاحِ لمن أدركهُ سنُّ الزواج وتأخّر عن الرّغيبةِ فتقول لهُ ناصحةً: استوثر فراشك، فالفراش الوثير في دلالتهِ العميقة المقصودةِ من الخطاب هي المرأةِ السّمينة، ذلك أنَّ العرب هُم أميل الشُعوبِ لذمِّ أهل النُّحول من النسّاء بخلافِ المرأةِ المكتنزة التي تتصدّر قائمة المحظياتِ اللّواتي يُفترضُ خِطبتهنَّ.
وتقعُ الأنثى ضمن المدار الشعريِّ الترفيهيِّ الذي يروم إلى اِفتعال الألغَازِ المرحةِ ترويحًا عن السَّامع:
إذَا أكَلَ الجرادُ حُروُثَ قَوميِّ فَحرثيِّ همُّه أكلَ الجرادِ
تتّخذُ النُّتفة الشِّعرية مَسارًا فكاهيًّا بغيَة إقامةِ المتناظِراتِ اللَّفظيةِ الحاويةِ للمفارقاتِ، فطليعَة البيت يأتي في سِياقِ التقرير عن خبرٍ تقريريِّ مَفادهُ اِلتهامُ سربٍ من الجرادِ حرثِ قومهِ، بيدَ أن بؤرة التّوتر هو لمّا يستعير الشّاعر كنية الحرثِ إيماءةً إلى زوجتِهِ الشَّغوفَةِ بقضمِ الجرادِ مقتفيًا في ذلكَ النّص القرآنيِّ: «نِساؤكم حرثٌ لكم”.
لعلَّ أغرب الكنايات التي أُلحقت بالمرأةِ العربيَّة هي نعتُهَا بالنَّعل استجابةً لموروثٍ قديم يقول: “المرأةٌ نَعلٌ يَلبَسُهَا الرَّجل إذا شَاءَ لا إذا شاءت هِيَ”.
يستَرفِدُ المثل بينَ تضاعيفِهِ مضمرات ثقافيّة فائقة الخطورة بحيث تتأسَّسُ مركزيّتهُ الخطابيّة على تَسلِيعِ المرأة العربية لتكون وظيفتِها في الحياة أشبه بالنّعل فكلاهما خاضع للدّنسِ الذكوريِّ، الإبدالِ الروتيني متى انتهت خدمتُهُما،كمَا أنَّهما يحيلانِ في فضائِهما المشغول على اِحتواء عضو جسديِّ سافِل وهو القَدم، وعليهِ فذروة الاِحتقار المجازي في المثل السّالف أتَى لتكريسِ هيمنةِ الفحولةِ التي تتَّخذُ من جسدِ المرأةِ قطع غيارٍ تُستبدل متى أحسَّ الرَّجل بالفاقة إلى اكتشافِ المتنوَّعِ والجديدِ فَمنَ البَاهتِ جدًّا أن يكتفي الرَّجلُ بنعلٍ واحدٍ لأن الفُصول أربعة كما أنّ أحوالها متباينة وَمنَاخُهَا مختلِف لذا فلاجَرمَ أن يتّخِذَ في كُلِّ فصلٍ نعلاً يناسِبُ قَدميهِ.
كذلك لم يتحرّج العربُ من تشبيهِ المرأة بالقَوصرةِ وهو وعاءٌ من قصبٍ يجعلُ فيهِ التّمر ونحوه وهو ما عبّر عنهُ الرّاجزُ في قولهِ:
أَفلحَ مَنْ كَانَت لَهُ قَوصَرَهْ يَأكُلُ مِنها كلَّ يومٍ مرَّه
إنَّ تخيُّر حيِّز محسوس محدود الأطرافِ وهي القوصره أو الوعاء وربطهِ مجالهِ التعريفيِّ بالمرأة يعكس ضَحالة المخيال العربيِّ الذي لا يلبث يصرُّ في كلِّ مُقاربَاتِهِ التشبيهيَّة على مطاردة الأشياء السَّاذجة المتوافِرةِ بكثرةٍ في بيئتِهِ البدويّة دون العنت في البحثِ عن معاني تجريديَّة تُفَعِّم المقبوسَ الشِّعريِّ بنبضاتٍ جماليّة تنهضُ على إعلاء المرأة وتصديرها في أحسنِ هيئة بعيدًا عن شَبقيَّةِ الجسدِ.
وتتساندُ الروايَة العربيّة إلى مذهبِ المغالاةِ في وصفِ الجنانِ والقصور، والجواري المحيطةِ بالخلفاء منِ مثل ما جاء في حكاياتِ ألف ليلةٍ وليلة واعتمادِ الرّاوي على توريدِ اللَّقطاتِ الماجِنة لوصفِ العلاقة بين الجارية تودُّد وعودِها الخشبيِّ: “أخَذت العود وَوَضعتهُ في حِجرِهَا، وأرخت عليهِ نهدَها، وانحنت عليهِ انحناءَ والدَةٍ تُرضِعُ ولَدَهَا، وضَربت عليهِ اثنَي عَشَر نَغَمًا حتَى مَاجَ المجلسُ من الطّربِ”
استحالَ العودُ وفق تعبيرِ الرّاوي فَحلًا مكتمل الشُّروط، منحتهُ الجارية تودُّد كل أعضائِها السَّاخنة في مشهدٍ مثير يحجبُ عن الفنِ أصوله الحقيقيّة، ومَا زَادَ السردَ اِنحلالًا هي الأفعال الماضية القابضة على مكنِ الفورةِ الجنسانية، أَخذَت فَأرخَت فَأنحت فضربت، ليموجَ المجلِس في النهاية طربًا، ليسَ تلطُّفًا بالأنغامِ التي يُصدِرُهَا العود فحسب، وإنّما بالحركاتِ الاستثاريّة التي أنجزتهَا تودُّد أثناء مداعبتِها لعودِهَا الشقيِّ.
وتضجُّ الرسائِل السُّلطانيّة التي تُدارُ بينَ الولاةِ والمُلوك بالعباراتِ النَابيَة التي تشذُّ عن الأعرافِ والمراسيم الجاريةِ على حفظِ اللِّسانِ وتحييدِ الكلامِ ممَّا جاءَ في ذلِكَ أنّ الحجاج كتَبَ إلى الحكمِ بن أيوبِ أن يخطِبَ لعبد الملك بن مروانَ امرأة جميلةً من بعيد، مليحةً من قريب، شريفةً في قومهَا، ذليلةٌ في نَفسِهَا، مؤاتيةٌ لبعلِهَا.
خابَ سعيُ المنقِّبُ واِستكانَ للفشلِ إذ شَارفَ على الحصولِ على مرادهِ لولا أنّ تيكَ المرأةِ بهَا أثداءٌ ضخمةٌ تستبشِعُ جمَالهَا، فكتَبَ مغتاظًا: قد أصبتُهَا لولا عِظمُ ثَديِهَا!
ما كادت الرِّسالة تدلفُ القصر حتَّى نطَّ الحجّاجُ فَرحًا، حيثُ أجابهُ مهتاجًا: لا يكمل حُسنُ المرأةِ حتَى يَعظُمَ ثديُهَا فتدفئ الضّجيعَ وتروي الرّضيع.
تشي المراسلةِ بملامحِ القائدِ العربي فذائِقَتُهُ مُنحازةٌ إلى تخيُّر ما استعظم من مفاتِنِ النّساء عجزها أو ردفها أو ثديِهَا وذلكَ تَبَعًا لأهوائِهِ السياسيَّة الرّامية إلى توسيعِ تخومِ جغرافيةِ خلافتِهِ لتضخيمِ سردياتهِ لينطبِق مخيالهُ السياسيِّ مع مِخيالِهِ الجنسيِّ، فالمرأة أشبه بالجزيرة الغامضة التي يودُّ القائد ولوجهَا وإرساء ألويَةِ النّصرِ على تضاريسِهَا.
وركحًا على ما تم سردهُ، فقد أضحت اللّغة إِحدَى البدائل الإجرائيّة المهمّة التي يَتمترسُ خلفهَا الخطاب البيانيِّ العربيِّ لإعلاء المتن الذكوريِّ وتهميشُ الصَّوتُ الأنثويِّ ضمن مجازاتٍ سَاخنة تَلهجُ بالموصوفاتِ التّعروية والتِّيماتِ الباذِخَة التي تختزلُ تلك الرؤى الفحوليّة التي تهفو للإغارةِ على الجسدِ الأنثويِّ بحِرابِ اللّغة.
________
قائمة المصادر والمراجع:
-أبو منصور الثعالبيّ، الكناية والتّعريض، تحقيق: عائشة حسن فريد، دار قباء للنشر، الإسكندرية، ط2 2008.
-ابن منظور، لسان العرب، دار بيروت للطّباعة والنّشر، لبنان، د، ط، 1968.
-الأبشيهيِّ، المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف، دار الأصالة الجزائر، ط1، 2010.
-حكايات ألف لَيلة وليلة، تحقيق مُحسن مهدي، شركة ليدن للنّشر، 1984.
____________
* د. معطى الله محمد الأمين من الجزائر.
*المصدر: التنويري.