صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات العدد التاسع والثلاثون من الدورية المحكّمة “تبيُّن” للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية. وتضمن العدد الدراسات التالية: “دراسات ما بعد الكولونيالية الفرنسية: قراءة في خلفيات الموقف والتصور”، لمكي سعد الله، وتروم دراسته تبيان مرتكزات المنظومة المركزية الفرنسية واستقراءها في نقدها لمصنفات دراسات ما بعد الكولونيالية، التي تُعَدُّ خطابات تفكيكية للخطاب الاستعماري ونظرته المتعالية. وذلك في محاولة لتقويض سلطة وهيمنة النص الكولونيالي العاجز عن التخلص والتحرر من فكر الإمبراطوريات وتمثّلاتها للأنا والآخر، ولثقافة الاختلاف والغيرية. كما أكد الباحث أن دراسات التابع ظهرت في المشهد النقدي، في رد فعلٍ على الخطاب الأنكلوسكسوني، مُنتجة أنساقًا معرفية وفكرية وتاريخية جديدة، تستهدف إعادة قراءة المُنجز المعرفي الاستعماري وفق مقاربات الهامش، مُجسَدًا في إنتلجينسيا أبناء المستعمرات القديمة من النخب المثقفة. وعلى عكس ذلك، تعرّضت مقاربات ما بعد الكولونيالية في الفضاء الفرنكفوني لعمليات تشويه علمية وتاريخية، باعتبارها أبحاثًا كرنفالية تسعى للاستعراض والانتقام من المركز، بعد العجز عن مواكبة سيرورة التقنية والحداثة. ودراسة “العلموية وأخلاقيات البيولوجيا” لمالك المكانين، الذي سعى في دراسته لتحديد الأخلاق المطلوبة اليوم بغية تسييج الأبحاث البيولوجية بثوابت معيارية، ولا سيما في عصرٍ فُرِض على الأخلاق أن تكون في مواجهة مفهوم “التقدّم”. وتكمن إشكالية الدراسة في البحث عن إجابة عن السؤال: كيف يمكن للأخلاق أن تقوم بعمل المراقب أو المرشد، رغم ما تعانيه من أزمة في التأسيس، بسبب علائقيتها مع مؤثرات معرفية وثقافية ودينية شتى؟ وبالاعتماد على أدوات المنهج التحليلي، تناول في دراسته، على وجه التحديد، الحجاج الفلسفي الأخلاقي حول التقنيات البيولوجية الراهنة، انطلاقًا من علم الواجبات الأخلاقية، وممّا هو كائن، إلى ما يجب أن تكون عليه هذه الممارسات البيولوجية، في سياق فلسفي يروم إثبات خطر “العلموية”، ومشروعية التخوف البيولوجي، في نهاية الأمر.
الدراسة الثانية: “في الاتصال بين الجدل والبرهان في الخطاب الرشدي: مراجعات نقدية”، ليوسف بن عدي، الذي حاول في دراسته إبراز علاقة الجدل بالبرهان في فلسفة ابن رشد؛ تلك العلاقة التي أسفرت عن قولين “أيديولوجيين” عند بعض الدارسين المعاصرين؛ ما يتطلب مراجعات نقدية لمفهوم الجدل ووظائفه. فالأول يظهر في دفاعه عن جدلية الخطاب الرشدي في مواجهة دعوى البرهان الفلسفي. أما الثاني فيتمثل في برهانية القول الرشدي على الضد من الجدل. لم يكن هذان القولان على دراية بنصوص ابن رشد المتنوعة والمتضاربة من منطوق أنها نصوصٌ تدافع عن القولين معًا، أعني الجدل والبرهان في تشابكٍ وتفاعل متواصلَين. فالجدل عند ابن رشد ليس سلبيًا على وجه العموم، كما يتضح في نقده للأشاعرة والمتكلمين، بل تتعدى فائدته إلى العلوم النظرية والسياسة المدنية، فضلًا عن دوره الرئيس في التشابك مع البرهان في الفلسفة الأولى.
دراسة أخرى بعنوان “مسارات الاعتراف وسؤال الغيرية عند بول ريكور”، لهشام مبشور. وتقع دراسته في ثلاثة أقسام؛ خصص الأول منها للنظر في الدلالات المعجمية لمفهوم “الاعتراف” وامتداداته الفلسفية عند رينيه ديكارت، وإيمانويل كانط، في شكل معرفة وتعرّف. في حين ناقش في قسمها الثاني مقومات الاعتراف وميكانيزماته فلسفيًا، والمتجسّد في ذات فاعلة. وتضمّن القسم الثالث تبيانًا لضرورة الاعتراف بوصفه فعلًا رمزيًا يرسخ قيمة الذوات وكرامتها، ويؤمّن لها الثقة بنفسها، ويمنحها إمكان الانفتاح على الآخر ومراعاة حقه في ممارسة هويته، وفق مبدأ أسبقية الاختلاف على التشابه والتماثل.
وتضمن العدد أيضًا ترجمة لمقالين؛ الأول ” كونية التأويلية والبلاغة: مصادرها عند الانتقال من أفلاطون إلى أوغسطين في كتاب الحقيقة والمنهج”، لجون غروندان، نقله إلى العربية محسن الزكري. وقد أكد غروندان في نصه هذا أن الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير لم يقرن كونية التأويلية بكونية البلاغة إلا بعد كتابه المركزي الحقيقة والمنهج. فقد اقترح غادامير فهم بواكير هذا التصور عبر الانتقال الحاسم الذي تحقق في الحقيقة والمنهج من أفلاطون إلى أوغسطين؛ أي من تصورٍ للُّغة ذي نزعة منطقية إلى تقدير تجسّد للمعنى لا يزال بلاغيًا.
المقال الثاني “مهمات المترجم الجديدة: “الديوان الشرقي ـ الغربي”، والإرث الثقيل لنظريات الترجمة منذ غوته إلى فالتر بنيامين”، لشتيفان فايدنر، نقله إلى اللسان العربي عبد اللطيف بوستة. ويتبع فايدنر في هذا المقال أصول نظرية الترجمة في ألمانيا، وخصوصًا ترجمة الآداب الشرقية، ويسافر بنا عبر مسارات ترجمة الأدب الشرقي، مستقصيًا المواقف الأيديولوجية الكامنة فيها، ومتطلِّعًا إلى فعل ترجمي جديد ومعاصر، يتحرر نهائيًا من إرث الماضي، ومن هيمنة البعد الاستشراقي.
وفي باب “مراجعات الكتب”، وردت مراجعتان؛ الأولى لكتاب التاريخ والنظرية والنصّ: “المؤرخون والمنعطف اللغوي” لإليزابيث كلارك، أعدها عمرو عثمان، ويلخّص هذا الكتاب قصة العلاقة بين التأريخ من جهة، والفلسفات والنظريات والتيارات الفكرية التي ظهرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين من جهة أخرى، لا سيما ما ارتبط منها باللغة، أو بما يُطلق عليه “المنعطف اللغوي” تحديدًا. والثانية لكتاب التشيؤ لأكسيل هونيث، أعدها إبراهيم مجيديلة. هذا الكتاب الذي أكد فيه الفيلسوف الألماني هونيت أن نسيان الاعتراف هو النواة المركزية للتشيؤ؛ ما يلزم عنه البحث عن الأسباب الاجتماعية المؤدية إليه، والتي أرجعها جورج لوكاش إلى التبادل التجاري الرأسمالي. ولذلك يورد هونيت ملاحظة ثانية تخص النقائص التي لم ينتبه إليها لوكاش في تحليله. ومن ذلك عدم انتباهه لوظيفة القانون. فالقانون يمكنه أن يؤدي دورًا وقائيًّا يحمي الأشخاص من التشيؤ.
*المصدر: التنويري.