حوارية دروس من تاريخ الدولة الأردنية مع أبو عودة
أبو عودة: الملك الحسين قال لي موقعنا الجيو استراتيجي نعمة ونقمة في الوقت نفسه
افتتحت حواريات المئوية التي بثها راديو النجاح بالشراكة مع معهد السياسية والمجتمع وصندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، بهدف توثيق الذاكرة السياسيَّة في ذهنية جيل الشباب، بلقاء بين السياسي الأردني عدنان ابو عودة ونخبة من الشباب الأردني يوم الجمعة 5 آذار.
وتقوم فلسفة الحوارية على عقد جلسات مشتركة بين الخبراء والباحثيين والسياسيين الأردنيين، ومجموعات من الشباب يمثلون مختلف مناطق وشرائح المجتمع الأردني، من خلال توظيف الفضاء الرقمي في بناء السردية التاريخية الأردنيَّة، بمنهجية نقاشية حواريّة، حيث تكون المئوية الأردنيَّة الأولى مدرسة للمئوية الثانية القادمة.
يذكر أنّ الدكتور عدنان أبو عودة، الذي تقلَّد منصب وزير الإعلام والثقافة في الحكومة الأردنيَّة في 1970، ثم كان عضوا في مجلس الأعيان والمجلس الوطني الإستشاري فوزيرًا للبلاط الملكي، وبعدها مستشارًا سياسيًا للملك حسين (1988-1991) قبل أن يصبح رئيسا للديوان الملكي، ويتولى لاحقًا منصب مندوب الأردن الدائم لدى الأمم المتحدة، ثم عاد لعضوية مجلس الأعيان.
ركّز أبو عودة على محطات سياسيَّة هامة شهدها الأردن منذ تأسيسه في مرحلتي الإمارة والدولة الحديثة، كما تحدَّث أبو عودة عن منهجية الحسين بن طلال في التفكير السياسي، وعن تأثير الموقع الاستراتيجي في صناعة السياسة الاردنيَّة، وعن المواطنة وواجب الشباب اليوم في عبور المئوية الثانية للدولة الأردنيَّة.
قسّم أبو عودة مئوية الدولة الأردنيَّة من حيث المراحل السياسيَّة إلى مرحلتين، المرحلة الأولى: هي مرحلة التأسيس التي تبدأ من الإمارة وتنتهي إلى تأسيس الدولة الأردنيَّة، بينما تجسدت المرحلة الثانية بالتحديث والبناء، والتي تتضمن في فترة قصيرة إصدار الدستور خلال فترة حكم الملك طلال، ثم فترة حكم الملك الحسين بن طلال الذي قام بالتحديث تنفيذًا للخطط الداخلية، حيث كان الحسين وبالرغم من توليه الحكم في سن مبكر، متيقضًا لأهمية التحديث والتطوير والتنمية، فحدثت في وقته قفزة نوعية في مجال تطوير الدولة ومؤسساتها الخدماتية والبنية التحتية.
1. الموقع الاستراتيجي والسياسة الاردنيَّة: استعرض أبو عوده أهمية الموقع الجيوسياسي والتاريخي للأردن من خلال الشواهد التالية:
الشاهد الأوَّل: تحدَّث السيد ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني في مؤتمر القاهرة بتاريخ آذار 1921، لمجموعة من الخبراء الإنجليز في المنطقة، عن نيته فصل شرق الأردن عن فلسطين، لأنه كان “يريد هذه البقعة من الأرض أن تكون وصلة أرضيَّة بين قناة السويس والعراق”، ومن المعروف أن هذا التعبير في المفهوم الجيوسياسي هو اتجاه جيواستراتيجي.
الشاهد الثاني: بعد ذيوع نية السيد تشرشل بقرار الفصل الذي تحدث عنه في القاهرة، تساءلت شخصية صهيونية وزير الخارجية البريطاني في لندن عن أسباب التوجه نحو الفصل، والذي أجاب كالتالي: “لقد فكّرنا في هذا المكان كموقع قبل أن نفكر فيه كدولة”.
الشاهد الثالث: عندما حصل عدنان أبو عودة عام 1973 على ثقة الملك الحسين وسلّمه منصب رئيس الديوان الملكي، وجّه الملك أبوعودة، وقال له الجملة التالية: ” إن موقعنا في الأردن: نعمة ونقمة، وواجبنا أن يكون دائمًا نعمة لأهلنا”. بالتالي، كان الحسين مدركًا ومهتمًا في الموقع الجيوسياسي للدولة، وانعكس ذلك في منهجية بناء وتحديث النظام السياسي الأردني والعلاقات الدوليَّة، وكيف سيصنع هذا الإدراك دورًا مهمًا جدًا للدولة.
2. مبدأ العمق الاستراتيجي: وضّح أبو عودة سياسة العمق الاستراتيجي عندما وجد الأردن في العراق الملكي عمقه الاستراتيجي العربي، حيث كان الملك الحسين طوال فترة حكمه، حريصًا على تأمين عمقًا عربيًا للأردن، حتى وإن كان ذلك في دولة واحدة، وبعدما صعد المد القومي؛ بدأت الانقسامات في العالم العربي بسبب الدول الانقلابية العسكرية التي كانت تصنّف دول المنطقة إلى مجموعتين؛ دول تقدمية ودول رجعية، حيث اعتبرت الدول الملكية هي دول رجعية، والجمهوريات دول تقدمية، واستمرت هذه الحالة حتى حدوث العدوان الإسرائيلي عام 1967.
اتخذ الحسين خلال هذه الفترة من المملكة العربية السعودية، عمقًا استراتيجيًا جديدًا، وبعد الهزيمة الثلاثية، انتقل العمق الاستراتيجي الأردني إلى مصر ولمدة 3 سنوات حتى وفاة عبد الناصر في 1970، ومن بعدها لم يتخذ الأردن عمقًا عربيًا حتى نشوب حرب أكتوبر 1973، لتصبح سورية عمقًا استراتيجيًا للأردن، ومن ثم أصبح العراق حتى قبل وفاة صدّام حسين بقليل عمق الأردن الاستراتيجي.
3. الحس التاريخي ومصادر الشرعية: يجد أبو عودة أن أسباب نجاح الأردن في مرحلة البناء تتركَّز وتتمحور حول الذكاء والدهاء السياسي للراحل الملك الحسين بن طلال، والاستناد في مصادر الشرعية إلى مزيج من الشرعية الدينية والتاريخية والرضى الشعبي، مما رسخ الحكم الهاشمي في الأردن كقوة موحِّدة جعلته فوق الطائفية، فوق المذهبية، فوق العشائرية، فوق الإثنية، فوق الجهوية، وكان حرص الحسين أن يبقى تلك القوة الموحِّدة.
إلى ذلك فرَّق أبو عودة تاريخيًا بين نوعين من الملكية، الأول ملكية حاكمة مثل الأردن والسعودية والمغرب، أما الثاني فملكية تملك ولا تحكم مثل بريطانيا الدنمارك، وفي هذا الصدد اتضحت عبقرية الملك الحسين، على حد تعبير أبو عودة، لأن معظم الملكيات الحاكمة، انحرفت نحو الديكتاتورية، ينما حافظ الحسين طيلة فترة حكمه، أن تتجه الملكية نحو الديمقراطية، حيث كان يأخذ بالآراء ويناقشها، ويسمح للآخر أن يناقشه ويختلف معه.
4. تحديات في مسيرة التحديث: بدأت الدولة مسار الحداثة – كما يشرحه أبوعودة- من خلال الخطط المرحلية التي توقفت في حرب 1967، لكن بقي البعد الأمني بصورة دائمة متغولاً في الحالة الأمنية بسبب الظروف التاريخية التي اتسمت بالتوترات الإقليمية والداخلية بصورة مستمرة، فقد بدأ في منتصف العام 1965 نزاع بين المملكة الأردنيَّة ومنظمة التحرير بقيادة الشقيري، وكان يأخذ شكلًا إعلاميًا، وكان الشقيري في حينها؛ يحظى بدعم الدول التي تسمي نفسها بـ التقدمية، ومنها دول الجوار الأردني؛ العراق وسورية، وكانت من نتائج هزيمة 67 انتهاء التقسيم السائد للعرب بين تقدمي ورجعي، وذلك بسبب بحث العرب عن مشتركات للتعاون، وبموازاة ذلك صعد ما يمسى “العمل الفدائي الفلسطيني” الذي لاقى ترحيبًا كبيرًا نتيجة اعتقاد شعبي بأن حروب العصابات ستكون الأمل لاستعادة فلسطين.
لكن العمل الفدائي أخفق لأسباب على مستويات عديدة، أولها حالة الفوضى وتشعب القيادات التي تمثلت في 13 فصيل لديه ارتباطات بدول عربية، حيث كان من المفروض أن تكون قيادة واحدة، السبب الثاني هو ممارسة العمل الفدائي خارج أرض الاحتلال، ونتيجة ذلك تحول النشاط الفدائي إلى العمل السياسي، وكان في معظمه أحزاب عقائدية ترفض الدولة وترغب بتأسيس نظامها الشمولي، ورفعوا شعارات يسارية مثل “الطريق إلى القدس من خلال عمان”، وفي مواجهات 1970، تحولوا إلى العمل المسلح، وكان لابد للأردن في وقتها أن يتخذ قرارًا بفرض الأمن وحفظ النظام.
5. رسائل إلى جيل المئوية الجديدة: في خاتمة المداخلة وجّه عدنان أبو عودة رسالته لجيل الشباب من خلال تذكيرهم بمساهمة العديد من رجالات الدولة ومواطنيها في حماية الدولة الأردنيَّة وبنائها وترسيخ نظامها السياسي والاجتماعي والثقافي خلال مائة عام أردنية، وفي تدشين المئوية الجديدة.
وخاطب أبو عوده جيل الشباب بالقول إنّه لابد أن يتذكّر الجيل الجديد بأن المئوية الثانية هي ملكه، وهو الذي سيعمل على تطويرها وتحديثها بالعمل الوطني ومسؤولية اجتماعية قائمة على الثقافة والمواطنة والصالح العام، وهي المرحلة التي لن تخلوا من الصعوبات والتحديات عديدة، في مقدمتها ارتفاع معدلات البطالة وندرة المثقفين ووفرة المتعلمين، وبأن شعار “حل الدولتين” يحتاج إلى المزيد من العمل السياسي، وأن خارطة الطريق الفضلى للجيل الجديد والإصلاح القائم على المواطنة والديمقراطية البرامجية هي أوراق الملك النقاشية، والعمل بمبادئها.
واقتبس د. عدنان أبو عودة جملة لـ فوكوياما – المفكر السياسي الأمريكي – تقول بأن الدولة الحديثة تقوم على ثلاثة مرتكزات؛ (الحكومة، القانون، المحاسبة)، في حال سقوط أي منها، تتأثر قوة الدولة أو وحدتها أو علاقتها بالمواطنين.
نقاش أبو عودة مع الشباب؛ اتجهت تساؤلات الشباب حول علاقة الأردن بـ “الربيع العربي” والاستقرار السياسي، وهوية حليف الأردن العربي الآن في ظل المئوية الجديدة، وأسباب استمرارية الهواجس الأمنية، وجدلية الجيواستراتيجي وعلاقته في الهاجس الأمني، والأسباب عن عجز مؤسسات الدولة والمجتمع في تطبيق نهج الحكومة البرلمانية الذي دعا إليه الملك عبدالله الثاني في أوراق النقاش الملكية، وعن الميثاق الوطني 1991 بعد قرار فك الارتباط 1988، والسردية التاريخية والذاكرة الثقافية والسياسية لجيل الشباب، وكيفية بناء التحالفات الاستراتيجية للأردن في ظل إقليم متسارع التغيير، كما طلب المشاركون نصيحة الدكتور أبو عودة فيما يتعلَّق بالعمل الحزبي للشباب.
رأى أبو عودة أن “الربيع العربي”، هو حدث تاريخي لم ينتهِ بعد، لأن أسبابه لاتزال قائمة، وفيما يتعلق بالحليف العربيّ الآن للأردن؛ فهو غير موجود، وفيما يتعلق بالهواجس الأمنية، استعان أبو عودة برسالة جلالة الملك الأخيرة إلى دائرة المخابرات، والتي من وجهة نظره ترتبط بالجيوسياسي، وأن الهواجس الأمنية توسعت وجعلت عمل المخابرات متشعباً بدرجة تجاوزت المجالات المؤسسية لعمل الدائرة، ما يستدعي التركيز على الفصل بين الأمني والسياسي من زاوية، وتطوير عمل الأجهزة الأمنية ليصبح على درجة عالية من الاحترافية والتميز والعالمية.
وعن أهمية العمق العربي، أكّد أبو عودة على مهمة الحكومات في التفتيش عن العمق العربي دائمًا وأن يكون استراتيجيًا ومناسبًا للأردن، وإذا كانت الظروف الراهنة تشهد تفككاً في المحيط العربي، فمن الضروري أن يكون هنالك دور إبداعي للأردن في نسج علاقات إقليمية توفّر شبكة من التحالفات الاستراتيجية له، يمكن من الاستفادة من الذاكرة السياسية في هذا المجال، حيث قامت الأردن بإنهاء للمعاهدة البريطانية في 1957، وتخلت عن المساعدة خدمة للصف العربي، ومع ذلك لم تلتزم دول عربية بوعودها للأردن، سوى المملكة العربية السعودية، وبعد الانسحاب البريطاني، أسس الحسين العمق الاستراتيجي الدولي مع الولايات المتحدة الأميريكية منذ إعلان الرئيس الأميركي مبدأه (مبدأ أيزنهاور).
أمّا عن بناء السردية التاريخية الأردنيَّة، فرأى أبو عودة أنّ هناك دوراً كبيراً أمام المثقفين والمؤرخين والإعلاميين في إنتاج وبناء السردية، وهو أمر يعترف أبو عودة أنّه ضعيف وغير منصف لمسار الأردن وتاريخه وللمراحل التي مرّ بها وكيف تجاوزها.
تركَّزت نصائح د.عدنان أبو عودة إلى جيل الشباب حول سؤال المستقبل وهموم الإصلاح على مضامين الأوراق النقاشية لجلالة الملك، وأهمية هذه الأوراق التي تجسد إرادة وطنية عليا ومنهجية أردنية وخارطة طريق نحو دولة أردنيَّة مدنية وحديثة، قائمة على الوعي والديمقراطية المتجددة والمواطنة الفاعلة التي تعيد تجدد علاقة المواطنيين بمؤسساتهم الوطنية وتحقق الصالح العام.