في هذا المقال سنعالج باختصار شديد مسألة حضور التفكير النقديّ في تاريخ الفكر العربيّ الإسلاميّ قديمًا وحديثًا. وكإشارة توضح الداعي لكتابة هذا المقال، لا بُدَّ من التأكيد على أن ما سنكتبه هنا، لم يأتِ للردِّ فقط على أولئك المستشرقين وأبناء البلد المتذمِّرين الذين قالوا ويقولون إنّ المفكِّرين العرب كانوا منذ عصر التدوين إلى اليوم مجرَّد مستهلكين لفكر الآخر في كل الحقول، وإنَّ فكرهم لم يتعدَّ مجال النقل والاستنساخ والشرح والتعليق في أحسن الأحوال، بل نكتبه أيضًا، وهذا هو الأهمّ، لنعلم نحن العرب بأن لدينا تراثًا زاخرًا حول “التفكير النقديّ” لو تمكَّنا من استيعابه وتطويره وإدماجه بشكل إيجابيّ في برامج ومناهج تعليمنا مثلما حدث في الغرب، لاستطعنا أولًا أن نهدم كثيرًا من الأوهام التي تسيطر على عقلنا وعاطفتنا اليوم، ولأصبحنا ثانيًا أكثر قدرة على مواجهة كلّ محاولات الاستلاب بمختلف أنواعه، ولتمكَّنا ثالثًا وليس أخيرًا من الانخراط الجدِّيّ والمسؤول في مناقشة أعقد الأسئلة حساسيَّة اليوم، والمتعلِّقة بالشأنين العامّ والخاصّ كالأسئلة المطروحة حول مفاهيم الدولة، والعدالة، والحرِّيَّة، والديمقراطيَّة، والعلم والعقل، والأخلاق، والدين…
من هنا تظهر الأهمِّيَّة المزدوجة لهذا المقال، فهو من جهة يهدف إلى هدم اعتقاد فاسد بعبارة المنطقيِّين القدامى تمَّ تكوينه حول الفكر العربيّ بسبب دراسات لا تمتُّ للعلميَّة بصلة، كما أنَّهُ يطمح من جهة ثانية إلى جعل غير المتخصِّصين في مجالي الفلسفة والمنطق أكثر انفتاحًا على مصادر مهمَّة في ثراثنا العربيّ حول التفكير النقديّ، وأكثر معرفة لخصائص وآليَّات وأخلاقيَّات هذا النوع من التفكير الذي توازي أهمّيّته لفكر الإنسان بحسب البعض، أهمِّيَّة الغذاء لأجسام الكائنات الحيَّة. فما الذي نقصده إذن بمفهوم التفكير النقديّ؟ ثمَّ كيف حضر هذا النوع من التفكير في تاريخ الفكر العربيّ الإسلاميّ قديمًا وحديثًا؟ وأخيرًا كيف يمكن إدماج التفكير النقديّ في مناهجنا وبرامجنا التعليميَّة التعلّميَّة؟
تعريف التفكير النقديّ:
يقول جميل صليبا في صدد تعريفه لمفهوم التفكير، فكَّرَ في الشيء تفكيرًا؛ أي أعملَ عقله فيه، ورتَّب بعض ما يعلم ليصل به إلى المجهول. وفكَّر في المشكلة أعملَ الرؤية فيها ليصل لحلِّها. والتفكير عند معظم الفلاسفة عمل عقليّ عامّ يشمل التصوُّر والتذكُّر والتخيُّل والحكم والتأمُّل، ويطلق على كل نشاط عقليّ (1). لنقل، إذن، مع الأستاذ الباهي أحد أكبر المتخصِّصين العرب المعاصرين في مجال المنطق، إنَّ التفكير فعاليَّة تدبُّريَّة تتَّخذ من المفكَّر فيه ميدانًا للنظر والفحص، بغية تحصيل مقصود لم يكن حاصلًا في العقل، ولا داخلًا في مجال إدراك الناظر (2).
هذا عن مفهوم التفكير الذي يعني أيضًا تلك الطريقة العقليَّة التي نتَّبِعُها لفهم شيء معيَّن، أو لاكتشاف مجهولٍ ما، أمَّا عن النقد فيقول مألِّفو معجم الوسيط، نَقَدَ الشيء، أي نقره ليختبره ويميِّز جيِّده من رديئه، أي ليظهر ما فيه من حسن أو عيب. وبالتالي فالنقد على عكس ما يعتقد العامَّة بالمعنى الرشديّ لكلمة العامَّة، لا يعني فقط إبراز عيوب ونواقص الشيء المنقود بهدف تبخيس قيمته والحطّ منها، وإنَّما يعمل أيضًا على تبيان قوَّة هذا الشيء ومحاسنه، قصد الإعلاء من شأنه.
على هذا الأساس يمكن القول إنَّ التفكير النقديّ، لا يلجأ منذ البداية إلى المصادقة على صحَّة الأفكار، أو تقرير بطلانها، أو الإعراض عنها دون تحليل أو نقاش كما يحدث مع التفكير السلبيّ، بل يلجأ، وهذا أهمّ ما يتميَّز به التفكير النقديّ، إلى إخضاع كلِّ الخطابات (دينيَّة، سياسيَّة، أخلاقيَّة، علميَّة..) لمحكمة النقد الموضوعيّ، ليس فقط لتبيان مضمونها وقوَّة حجاجها ومدى تماسكها المنطقيّ، وإنَّما أيضًا للتنبُّؤ بعواقبها الممكنة على الإنسان وعلى الطبيعة وعلى المعرفة ذاتها. بعبارة أخرى، فالمفكِّر النقديّ لا يتعاطى مع الأفكار- أيًّا كانت – بشكل حروفيّ، سطحيّ، عاطفيّ، عصبيّ، كما يفعل ذلك بعض طلّاب المعلومة ضحايا الدوغمائيَّة وجهل المنهجيّ، وإنَّما ينخرط بشكل جدِّيّ ومسؤول، عبر آليَّات معقولة وأخلاقيَّة، في الكشف عن ما تقوله هذه الأفكار صراحة، وعن ما تحجبه وتضمره، وما لا تقوله أيضًا.
تحصيل ما سبق، هو أنَّ التفكير النقديّ يتأسَّس على حركتين متكاملتين وضروريّتين لصيانة عقلنا من الاستلاب ومجتمعنا من الدمار، الحركة الأولى يعمل فيها التفكير النقديّ على بيان مواطن الغلط والتغليط والتمويه والخداع والتلبيس التي قد تأتي متضمّنة في الخطاب إمَّا بشكل مقصود أو غير مقصود؛ بهدف إيقاع المتلقِّي في شرك الوهم والخرافة والعبوديَّة الفكريَّة (3). أمَّا الحركة الثانية فيتعدَّى فيها التفكير النقديّ “مجرَّد النقد” إلى تقويم الفكر، أي إلى جعل هذا الفكر مستقيمًا، ليس فقط في بنائه المضمونيّ والتدليليّ، فهو ليس تفكيرًا صوريًّا حتَّى يقف عند هذا الحدّ، وإنَّما أيضًا في علاقته بالمبادئ الأخلاقيَّة وفي علاقته بمتطلّبات الناس الحيويَّة وبالمستقبل كذلك. إذن فالتفكير النقديّ لا يزوّدنا فقط بمعرفة آليَّات طمس الحقيقة والتلاعب بها، وإنَّما يبتغي أيضًا بيان أصول استقامة الفكر وسلامة الخطاب، كما يزوّدنا بأخلاقيَّات الحوار والتناظر (4).
حضور التفكير النقديّ في الفكر العربيَّ:
هناك فرضيَّة تقول بأن المفكِّرين العرب قديمًا، كانوا مجرَّد ناقلين للتراث اليونانيّ والرومانيّ والفارسيّ، وحديثًا أصبحوا مجرَّد ناقلين للتراث الغربيّ، وعلى أساس هذه الفرضية يقال بأنَّ المفكِّرين العرب لم يمارسوا التفكير النقديّ تاريخيًّا، بل كانو مجرَّد مترجمين مستنسخين، وفي أحسن الأحوال شارحين أو معلِّقين.
بداية لنسجِّل أنَّ المفكِّرين العرب قدامى ومحدثين استفادوا من تراث غيرهم في شتَّى المجالات استفادة كبيرة لا ينكرها عقل منصف، وهذا من حقِّهم بل من الواجب عليهم؛ لأنَّ الذات لا تكتمل إلَّا بالآخر؛ كما يقول سارتر على عكس ديكارت، لكن أن نقول بأنَّ المفكِّرين العرب استفادوا من تراث غيرهم عبر ترجمته وعبر الأخد ببعض مضامينه ومبادئه، هذا لا يعني أنَّهم كانوا أشبه بالبغاء، بل مارسوا التفكير النقديّ تنظيرًا وتطبيقًا بشكل مبتكر ورائع جدًّا، والدليل هي الوقائع الآتية:
- أوَّلًا: المفكِّرون العرب ألَّفوا كتبًا كثيرة حدَّدت بعض قواعد التفكير النقديّ، كما دعت إلى ممارسة النوع من التفكير واحترام ضوابطه الأخلاقيَّة. ومن بين هذه الكتب الأكثر شهرة نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر عناوين الكتب التالية: “المنهاج في ترتيب الحجاج” للباجي، “معونة الجدل” للشيرازي، “الميزان واللسان أو التكوثر العقليّ” لطه عبد الرحمن، الحوار ومنهجيَّة التفكير النقديّ لحسان الباهي…
- ثانيًا: المفكِّرون العرب مارسوا التفكير النقديّ بقوَّة وذكاء تجاه تراث غيرهم عبر التاريخ، ومن بين الكتب التي قامت بهذه المهمَّة نذك؛، كتاب الشكوك على بطليموس لابن الهيثم، الشكوك على جالينوس لمحمد بن زكريا الرازي…
- ثالثًا: المفكِّرون العرب مارسوا التفكير النقديّ على تراثهم أيضًا، ومن أشهر الكتب الفلسفيَّة التي حضر فيها هذا النوع من التفكير نذكر: تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي، تهافت التهافت للوليد ابن رشد، نقد العقل العربيّ لمحمد عابد الجابري، نقد نقد العقل العربيّ لجورج طرابشي، تجديد المنهج في دراسة التراث لطه عبد الرحمان…
خلاصة الكلام السابق، هي أنَّ بداية الحديث عن التفكير النقديّ والدعوة إلى اتِّخاده سبيلًا لتقويم الفكر والسلوك، لم تبدأ فقط – كما يعتقد – البعض انطلاقًا من سبعينيَّات القرن العشرين مع ريتشارد باول، لندا ألدر، جيرالد نوزش، ورش غوسغروف وغيرهم من روَّاد حركة التفكير النقديّ التي نشأت في أمريكا، بل إن هذه البداية ضاربة في جذور تاريخ الفكر اليونانيّ والعربيّ أيضًا. لكن الذي يهمّنا الآن ليس هو التأصيل التاريخيّ لنشأة فلسفة التفكير النقديّ، فهذه الفلسفة عمومًا ساهمت في بنائها حضارات عدَّة على مرِّ التاريخ، وما زالت تحتاج لكثير من التطوير لمواكبة تقدُّم التاريخ، بل ما يهمّنا هو تنبيه المثقّفين في مجالنا التداوليّ، إلى ضرورة الاستفادة من كل ما تمَّت مراكمته حول التفكير النقديّ – عربيًّا وغربيًّا – والنضال من أجل إدماج تدريس طلّابنا هذا النوع من التفكير لتمكينهم من التفكير بأنفسهم في ما يطرح عليهم من قضايا وإشكالات وحجج، عوض تربيتهم على الاتِّكال والتسليم الساذج بكل ما يتلقّونه من المحيط.
______________________
1: جميل صليبا،المعجم الفلسفيّ، الجزء الأول، دار الطبع الشركة العالميَّة للكتاب ش م ل، ص.317.
2: حسان الباهي، جدل العقل والأخلاق في العلم، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى 2009، ص.15.
3: ننصح القارئ الكريم هنا بقراءة مجموعة من الكتب التي تدرس المغالطات المنطقيَّة وكيفية الكشف عنها، ومن بين أبرز هذه الكتب المؤلَّفة باللغة العربيَّة نذكر: كتاب حسان الباهي الحوار ومنهجيَّة التفكير النقديّ الصادر عن مكتبة افرسقيا الشرق سنة 2013 الطبعة الثانية، كتاب المغالطات المنطقيَّة للدكتور عادل مصطفى الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة سنة 2007.
4: للاضطلاع اكثر على خصائص التفكير النقدي يمكن الرجوع إلى كتاب حسان الباهي، الحوار ومنهجيَّة التفكير النقديّ، الصادر عن مطابع إفريقيا الشرق سنة 2013، الطبعة الثانية، ص من 153 – 154. وكتاب عمرو صالح يس، التفكير النقدي: مدخل في طبيعة المحاججة وأنواعها، الصادر عن الشبكة العربيَّة للأبحاث والنشر سنة 2015، الطبعة الأولى.
*المصدر: التنويري.