حروب الردَّة
تغلغل الإسلام منذ ظهوره حتى هذه اللحظه في كل زمان و مكان، وكان هذا التغلغل مؤثّراً للغاية ( بغض النظر عن المسمّيات الأُخرى لوصف التغلغل فالبعض يطلق عليه فتوحات والبعض الآخر الاحتلال) وكان تأثيرة واضحاً في إعاده بناء السلوكيات والقيم والأفكار وحتى المعرفة.
وفي ظلّ ظاهرة العنف الديني ومع ازدياد ظهور التنظيمات المسلَّحة التي تمارس ” الجهاد ” عن طريق تأويلات نصوص دينيَّة حتى تضيف شرعيَّة وقدسيَّة على هذا العنف، يتعيَّن علينا الوقوف هنا حتى نقوم بفحص وتدقيق قواعد أفكار هذه الجماعات التي تستمدّ منها هذه الشرعيَّة والقدسيَّة.
لذا وجب أن نعود لأهم حدثين في مجري التاريخ الإسلامي وأشهرهما، ألا وهما * حروب الردَّة *بدايه الفتوحات الإسلاميَّة خارج نطاق شبة الجزيرة العربيَّة.
والحدثان نجدهما في وقت خلافة الصديق أبو بكر التي لم تزد خلافته عن عامين وثلاثة أشهر، حينما تولى الخلافة بعد وفاة النبي محمد ﷺ 11 هجرياً و 632 ميلادياً.
تأتي حروب الردَّة بتشابك وخلط مابين الديني والسياسي، لأنه من المؤكَّد لديّ أنها حروب سياسيَّة نظاميَّة وليست دينيَّة.
تحوَّلت قيم الإسلام إلى إيدلوجيا ومن ثمَّ هذه أصبحت الإيدلوجيا هي الحكم؛ أي أنَّ الدين الإسلامي لم يصبح مجرَّد دين ومعتقد به تشريعات وقوانين للمسلمين، بل أصبح إيديولوجية دولة أو إيديولوجية لمشروع دولة، ومن هنا تحوَّل القرآن الكريم من مصدرٍ للتشريع إلى دستور الدولة أو دستور النظام.
*ماذا يعني مصطلح الردَّة:
الردَّة لغة: الرجوع عن الشيء لغيره، وشرعاً: الرجوع عن الإسلام.
إنّ النصوص التأسيسيَّة، لتشريع حدّ الردّة، كمثل حديث النبي: “أًمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنني محمَّد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله” 1.
وحديث آخر هو “من بدَّل دينه فاقتلوه”، الذي ورد في صحيح البخاري، نقلاً عن أبي بكر الجزائري فى “منهاج المسلم 2.
وحديث أخير؛ “لا يحلّ دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب (المتزوّج الزاني) والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”، في صحيح البخاري 3.
*هذه النصوص التأسيسيَّة، عبّرت عن فرض النصّ الديني بذاته، في دعم أُسس النظام وتقويه شرعيَّة النظام وقتها في ظلِّ واقعٍ ذي صراع عسكري.
*التشابُك ؛
يبدو أنَّ المحرِّض الرئيسي كما ورد في صفحات وكتب التاريخ الإسلامي، أنّ الدافع والمُحرِّض الرئيسي لهذه الحروب هو الامتناع عن دفع الزكاة من بعض القبائل.
كانت سياسة الرسول مُحمَّد تتَّجه نحو توحيد العرب تحت راية الدين الإسلامي في مؤسَّسةٍ تتخطّى النظام القبلي، واستطاع أن يؤسِّس جماعةً دينيَّة سياسيَّة جسَّدت كيان دولة، فدخل العرب عامَّتهم في هذا الدين بالإضافة إلى أنَّهُ كان مثاليًّا في سلوكه. إذ سوَّى في المُعاملة بين القبائل المُختلفة، ولم يمل إلى الأهل والعشيرة. وهكذا تمَّ توحيد القبائل في شبه الجزيرة العربيَّة في دولةٍ واحدة يرؤسها النبيّ ومركزها المدينة المُنوَّرة.
لكن هذه الوحدة التي أسَّسها الرسول كانت مُفكَّكة في بعض المواضع، حيث إن الإيمان لم يترسَّخ بعد في قلوب حديثي المؤمنين وأيضاً القبائل التي كانت على أطراف شبة الجزيرة فلم يكن يوجد سوى أشكالٍ من التحالف السياسي مع المدينة، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ الدُخول في الإسلام كان قرارًا سياسيًّا استهدفت به زعامات القبائل المُحافظة على كيانها، وتحاشي خطر المُسلمين عليها.
وخاصَّه أنَّ المُدَّة الزمنيَّة بين دُخول هذه القبائل في الإسلام ووفاة النبيّ كانت قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنوات، بالمُقارنة مع المُدَّة التي استغرقها استقرارُ الدّين الإسلامي في مكَّة والمدينة، البالغة عشرين سنة. كما أنَّ هذه القبائل الضَّاربة على الأطراف كانت تمُرُّ بمرحلة تحوُّلٍ سياسيٍّ لتتخلَّص من الضغط الفارسىيّ الواقع عليها، بالإضافة إلى الصراعات الداخليَّة بينها على النُفوذ ولذلك تفاوت الإيمان لديهم بين القوة والضعف.
ونزلت هذه الآيات الكريمة، في سورة التوبة ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، وفي سورة الحجرات ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
واعتبروا الزكاة وقتها نوعاً من التبعيَّة و الذلّ لكن على الرغم من ذلك، لم تمنع تلك القبائل الزكاة في حياة النبيّ، إذ اعتبر مشايخها وأمراؤها أنَّهم أبرموا حلفًا أو عقدًا مع قائدٍ كبيرٍ يفوقهم قوَّةً وشأنًا، والعهدُ مُلزم، لا سيَّما وأنَّ الظُروف قد فرضت ذلك بعد أن اتَّحدت قُريش، وهي أقوى قبائل العرب، تحت راية الإسلام؛ لكن كما هو حالُ أيُّ عقد، فإنَّ صلاحيَّته تنتهي بِوفاة الشخص المُتعاقد معهُ وإبرام عقد جديد مع شخصٍ آخر. لذلك اعتقدت هذه القبائل أنَّ ما يجري في شبه الجزيرة العربيَّة موقوت بحياة النبيِّ مُحمَّد، وما أن توفي حتَّى حانت الفُرصه للانفصال عن الدولة الجديدة سياسيًّا وطرد عُمَّال الزكاة الذين كان الرسول قد أرسلهم للإشراف على جمعها وشرح أُمور الدين للناس، والارتداد عن الإسلام كنظامٍ سياسيٍّ وليس إلى الوثنيَّة أو الكُفر.
كما ذكرت فإِن الدافع والمُحرِّض الرئيسي لهذه الحروب هي الامتناع عن دفع الزكاة، وذلك ليس لسبب ديني لكن لأسباب سياسيَّة، ولرغبة القبائل في الانفصال تحت قياداتهم و تكوين تحالفات جديدة تخدم مصالحهم وأهدافهم الخاصَّة بعد مرحلة وفاة النبيّ محمد.
ونذكر إنه جاءت وفود القبائل التي رفعت راية العصيان، تفاوض الصدّيق، على رفض الزكاة وعدم تأديتها، وقد أشار الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب على أبي بكر الصدِّيق، بأن يصالحهم على ذلك، إلى أن تتحسَّن أحوال المسلمين، فرفض الصدَّيق، وقال: “والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه” 4.
يوضح الدكتور عاصم حفني، أستاذ العلوم الإسلاميَّة، في معهد الدراسات الشرق أوسطية في حواره مع الكاتب كريم شفيق، أنَّ خلاف أبي بكر مع عمر بن الخطاب، حول شرعيَّة قتال من يشهد بالشهادتين، يوحي بأنَّ سبب القتال لم يكن العقيدة؛ بل التدابير السياسيَّة والاقتصاديَّة الضروريَّة لقيام دولة الإسلام، ويمكن استنتاج ذلك من الرسالة نفسها، التي أمر فيها أبو بكر جنده، بعدم قبول غير الإسلام، ممَّن رجع عنهـا، ثم ربط ذلك بآدائهم “ما عليهم”، وليس متصوّراً أن يقصد بذلك ما لم يؤدّوه من صيام وصلاة، مدّة رجوعهم عن الإسلام، بل المتصوّر عقلاً، هو أداء ما امتنعوا عنه من زكاة، هي التي كانت سبباً في قتالهم.
يقول الباحث المصري، الدكتور أحمد صبحي منصور، في كتابه “حدّ الردّة” – و هو من أهم المراجع في اعتقادي الشخصي التي تحدَّثت عن هذا الموضوع- “إنّ حروب الردّة هي مجرَّد حركة مسلَّحة استهدفت القضاء السياسي على الدولة الإسلامية، وقد واجهها أبو بكر الصديق بالسلاح نفسه، ليدافع عن الدولة الناشئة، وبعد إخمادها دخل أبو بكر الصديِّق بالعرب، عصراً جديداً بالفتوحات في العراق والشام”.
ويشير، في المصدر نفسه، إلى أنّ ما فعله أبو بكر الصدِّيق، ليس مصدراً للتشريع، ولذلك خالفه عمر وبعض الصحابة، في اجتهاده السياسي؛ رغم أنّه أصاب في موقفه السياسي والحربي، واستطاع أن ينقذ المسلمين من تلك الهجمة القبليَّة المتخلِّفة.
إذن يتَّضح أنّ النبي، في تاريخيَّة ممارسته للنبوَّة، لم يخرج عن الإطار المنوط به من تبليغ الدعوة، دون تدخّل منه، وتعدٍّ عن كونه مخاطباً في الوحي، ومبلِّغاً للرسالة، دون أن تكون له يد أخرى مباشرة ورئيسة، استهدف من خلالها، إعادة بناء وتركيب الواقع الاجتماعي والسياسي، بحسب ما يتلاءم مع دعوته.
فالوحدة العربيَّة، التي كانت موجودة، لم تكن وحدة سياسيَّة؛ لأنّ النبيّ لم يؤسِّس لدولة ذات كيان سياسي، ونظام قضائي وإداري، كما لم يغيِّر من أساليب حكمهم، القائمة في شيء، ومن ثم لم يمسّ صلاتهم الاجتماعيَّة والسياسيَّة، بينما ظلّت الوحدة الدينيَّة العروة الوثقى والشيء الجامع بينهم.
المراجع:
١- صحيح مسلم وصحيح البخاري.
٢- صحيح مسلم وصحيح البخاري.
٣- صحيح مسلم وصحيح البخاري.
٤-حد الردّة. احمد صبحي منصور.
*المصدر: التنويري.