تتوالى الأيام والأحداث على أرض فلسطين، عامًا بعد عام. ويستدعي هذا التطوّر الدائم مزيدًا من النقاش بيننا، ومزيدًا من توضيح الحقائق. من خلال تأمُّل بعض النقاط التي يكثر الحديث عنها في مثل هذه الأوقات. وسأدوِّن هذا بأسهل ما يمكنني من عبارة، وأبسط ما أصل إليه من تصوّر كي أشارك أوسع مدى ممكن من القرَّاء الأفاضل. ولا أخفي أحدًا سرًّا؛ فإن ما نتداوله اليوم سويًّا قد يكون تفريجًا عن نفس صاحب السطور -وكذا الشعور عند كل الصادقين- من أن تصيبه مصيبة، وهو يشاهد مع عشرات الملايين ما يحدث في عمليَّة “طوفان الأقصى”، وما تبعه من أحداث بدأت في السابع من أكتوبر 2023م. فإنَّ شعور العجز عن إنقاذ أخ يستنقذك من محرقة قد يصيب أي شريف سليم النَّفس بجلطة.
فهذه بعض إجابات لبعض أسئلة شاعت أو ظواهر طفحت على سطح الأحداث، في مجال الفكر العربي.
- أما سئِمتُم من النقاش؟!
أول ما يستحقّ التوضيح، هو شرعيَّة النقاش واستمرار التداول والتدارُس في ظلِّ الأحداث؛ فكلما جدَّ جديد واحتدمتْ الأحداث في فلسطين، وجدنا سائلًا يسأل: أما سئِمتُم من النقاش؟ أما آن لنا أن نعمل ونحرِّك الأحداث على الأرض؟ .. وهذه نقطة تستحقّ التوضيح حتى يكون الردّ عليها مبسوطًا في أذهان الجميع.
بدايةً، أشعر -تمام الشعور- بضيق صدر مَن يطرح هذا السؤال، وأقدّره. لكنْ أوضح للسائل الناقم هذه النقاط بالترتيب:
- لا تعارض بين العمل والنقاش، كي نتعجب من أن نناقش ولا نعمل. فهذا النوع من التساؤل عن جدوى النقاش الدائم والقعود عن العمل؛ يُطرح على مَن في مقدوره العمل الآنيّ الحاليّ الفوريّ، لكنه يعزف عنه إلى نقاش في غير محلٍ.
- أنوِّه إلى حقيقةٍ عامّة عن علاقة النقاش والعمل؛ أن العملَ فرعٌ عن التصوُّرِ، وتقديرِ الموقف الكلي، ورؤيةِ ما يحدث رؤيةً صحيحةً، وإلا صار العمل ضارًّا لا نافعًا.
- سؤال جدوى النقاش يُطرح ويُثمَّن، ويزداد رسوخًا أثناء تصوُّر مشهد الوعي العربي والإسلامي تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة ثابتًا؛ أقصد بذلك أن وعينا (صورة المسألة الفلسطينيَّة في الذهن العربي) مُوحَّد -إجمالًا- مُتَّفَقٌ عليه، بلا خوفٍ من تبدُّل أو تزييف. وأسأل: هل هذه هي الحال الآن؟ الإجابة واضحة: لا. فالساحة العربية تشهد الكثير من محاولات التزييف وتبديل الموقف كليَّةً تجاه القضية، وبثِّ رُوح اللامُبالاة في نفوس العرب تجاه فلسطين، بل بدأ تجريف الوعي يدخل حيوزًا غايةً في البشاعة؛ من خلال بثِّ رُوح الكراهية لفلسطين، والمناضلين عليها داخلها وخارجها. وهذه المؤشرات -التي كانت موجودةً دومًا، لكنها زادتْ بعنفوان ضاغط على الواقع العربي- أضافتْ معركة وعي، جوارَ معركة الأرض[1]. وقد بُذلتْ في سبيل إقحام هذه الدعاوى جهود سامة، تستدعي نقاشًا موسَّعًا، وتداولًا حقيقيًّا، وإبرازًا لوسائل الإقناع الناجحة في معركة الوعي فيما بيننا.
- وأخيرًا، أنوِّه إلى ضرورة التداول المستمر لكافة قضايانا الفكريَّة المصيريَّة بيننا؛ لأن أية أمة؛ ما هي إلا مجموع من “أجيال مُتداخلة”، كلُّ جيل يُعاشر ويحيا مع ما سبقه من أجيال؛ إلى أنْ يبقى هو نفسه الجيل الأكبر، ويعيش مع أجيال لاحقة به. وكلُّ جيل يحتاج إلى توضيح هذه القضايا له؛ ليتصورها صورةً صحيحةً سويَّةً، وعليه يتصرف التصرف الصحيح. فمتى كانت القضية مُتضِحةً لك؛ فهي أقل وضوحًا عند الجيل الأصغر. ولنفهم هذا ونستحضره دومًا.
خلاصة ما في نقطة “شرعية النقاش في وقت الاحتدام” أن النقاش شرعي متاح، بل ضروري مطلوب في كل وقت. ولا يعتبرنَّ بعضُ المُتحمسين أن النقاش إماتة للقضية وللتصرف، بل هو إحياء لها في الحقيقة. على أن نتنبَّه إلى أمر هامٍّ؛ أن النقاش ذو غرض، وليس غرضًا في نفسه؛ فالنقاش لإحياء القضية، ولوضوح التصور، وللرد على كل مُغرض، وللاستعداد لغيره من الأعمال، ولاستحضار رُوح الاستنفار للتضحية وقت التضحية.
- ماذا يحدث؟ وهل صحَّ تصرف الهجوم؟
وفي تناول ما حدث، منذ السابع من أكتوبر؛ وقع الكثيرون في عيب فكريّ؛ هو “الجزئية في تناول المشهد”، فقد فصلوه عن السياق العام للأحداث، بلا مبرر واضح للفصل. وتداولوا الاشتباك المبدوء من جانب أهلنا، وكأنه ابتداء لحدث جديد! وأخذوا يتباحثون -تحت ضغط الجهود السامة التي أشرنا إليها- عن مدى شرعيَّة ما حدث. والحقّ أن ما حدث في “طوفان الأقصى” هو ما حدث قبل “طوفان الأقصى”؛ وهو ما يحدث منذ قرابة قرن من الزمان؛ فنحن في “حالة حرب” -إذا لمْ تكن تعلم-.
و”الحرب” ليست مُقاتَلَةً بين جانبين -أو أكثر- في وقت واحد، حتى يفنى أحدهما أو ينصاع لرغبة الغالب فحسب؛ بل الحرب -في حالات كثيرة- تكون حلقات وتسلسلات، بعضها بعد بعض؛ تشهد الكثير من حلقات الهزيمة، وحلقات النصر؛ وأيام العزة، وأيام العار؛ والأبطال المُقدَّمين والأنجاس المُتخاذلين. فليست الحرب بهذا التصوُّر موقفًا واحدًا متى انتهى توقفتْ الحرب، ومَن قاتل بعدها فقد بدأ حدثًا بعد أنْ لم يكن. وفي هذه الحالات من الحروب بين الأقوام المُتنازعة، ومع اختلاف ميزان القوى بين جانب يملك كل القوى وجانب لا يملك إلا ما يتوكل على الله به؛ تُسمَّى الحال الحربية أو التحارُبيَّة “نضالًا”؛ يُنافح فيه الجانبُ الأضعفُ الجانبَ الأقوى.
ومتى تمادينا وفكَّرنا جزئيًّا مع مَن يفكرون في مدى “شرعية ما حدث” -وأنا هنا لا أدافع عن فصيل بعينه، بل أنظر للقضية كلها-؛ فلا أدري داعيًا يُخرجنا للقتال أقوى من يأتي من يسلبنا أرضنا، ومصادر ثروتنا عليها، ويضمُّ إليه أراضينا الزراعية، ثم يمُنُّ علينا أن نعمل فيها أُجراء؛ لتُنتج له قوتًا وثمراتٍ يتقوَّى بها على إكمال احتلالنا، أو يُصدِّرها ليكتسب ثروةً فوق ثروة. ولا أعرف سببًا يُخرجنا للقتال أقوى من أن تتواضع فئة -أيْ تضع من قدر نفسها-، وتمثِّل دور ضحية الاضطهاد والمحرقة أمام الأمم؛ لتجد لها مكانًا تدَّعِي أنه “أرض بلا شعب”، رغم أنها أرضنا، وأقوامنا يقطنون عليها، ويمتلكونها حقًّا، لا غصبًا. فيكون الموقف والمَقال من الدول الغربية أننا -وبالمخالفة والاستغفال، والكيد الظاهر والباطن-: سنُوطِّن هؤلاء اليهود المساكين، وهم شعب بلا أرض؛ في تلك الأرض التي بلا شعب. دون ظلم لأحد، ودون انتقاص من حق أحد!
ثم متى ظهرنا -نحن أصحاب هذه الأرض- التي ادعيتم أنها بلا شعب، وطالبنا بحقنا في أرضنا؛ تحوَّل اليهود المساكين إلى عصابات صهيوينة، ترتكب مجزرةً بعد مجزرة لتقهرنا، وتُوسِّع من نطاق اغتصاب الأرض، ثم تُنشئ كيانًا سياسيًّا لها، وتُسمِّيه دولةً. بل تستدعي كل أحلامها القديمة، فيما ورد في سِفر “التكوين”، الإصحاح 15 الذي به بالنصّ: “في ذلك اليوم قطع الرَّبُّ مع أبرام مِيثاقًا قائلًا: لنَسلِكَ أُعطي هذه الأرض من نهر مِصرَ إلى النهر الكبير نهر الفُرات”[2]. (وفي هذا السياق أنصح بمُشاهدة الفيلم الوثائقي الفلسطيني “طريق سيدي”، حيث تتبع فيه المخرج الفلسطيني “نزار حسن”، طريق أجدادنا على أرض فلسطين، ليكشف الحقائق لمَن غابت عنه وللأجيال الجديدة[3]).
وتتوالى الأعوام، ويتقدَّم الاحتلال في غرضه، ويُضيِّق رقعة الوجود علينا -نحن أصحاب الأرض- حتى ما بقي في فلسطين إلا بضع كيلومترات هنا أو هناك. والبقية محتلة، يعمل أهلها عند الاحتلال بأجر! ويتداولون هذا الأجر بالعُملة اليهودية التي أصدرها الاحتلال، الذي ينظر لبقية الفلسطينيين على أنهم خدم له، أو مرحلة مع الزمن سيعبرها. هذا، ويُضيِّق الصهاينة على غزة جدًّا في الطعام والشراب والوظائف والمعايش؛ حتى أن أصدقاء لي داخل غزة كانوا يشتكون مُر الشكوى من الأحوال المعيشية في فترات الهدوء.
وما يحدث اليومَ من مجريات فاحشة في العدوان والتقتيل؛ مجرد استكمال تنفيذ الخطة. والتي يتضح منها أن الهدف الرئيس هو محاولة دفع البقية إلى أرض عربية أخرى “سيناء”، بأي ثمن، أو على الأقل التمهيد لهذا في الحلقة القادمة من الصراع. وهذا واضح من سيادة التفكير الحربي على التفكير السياسي طوال الأيام السابقة؛ فإنهم مُصرُّون على تحقيق أقصى إفادة على الأرض، بدفع أكبر عدد للرحيل؛ بغض النظر عن صورة الدولة اليهودية في العالم. وهنا لنا وقفة مع مسألة صورة الدولة اليهودية.
فلعلنا في حاجة إلى الكشف عن مدى محافظة اليهود على صورتهم؛ فهُم من أشد الأقوام حرصًا على ذلك. ومنه أن الكيان يصرُّ منذ الحرب العالمية الثانية، ومنذ أحدث “أكذوبة المحرقة اليهودية” على أن يصور نفسه أمام العالم الغربي خاصةً؛ أنهم قوم مُسالمون اضطهدهم الجميع، وأُقيمت لهم المحارق في الماضي، وفي الحاضر الفلسطينيون يعتدون عليهم ويظلمونهم. ولعل القارئ الصغير سنًّا لا يعرف أن الكيان من أجل هذه الصورة اخترع فكرة “الإرهاب”، وغذَّاها تغذية وئيدةً ووطَّنها في عقلية المواطن الغربي، ثم نقلها إلى البيئة العربية عن طريق وسطائه؛ لتُثمر -على مدار غالب العقدين الأخيرين- ما نشهده الآن على الساحة من فظاظة في وصم أية مقاومة بوصمة “الإرهاب”، وتصنيف أية قوة تقاومه تحت هذا الصنف.
ولعلنا في حاجة إلى الكشف عن أن اليهود -من فرط إرادتهم ترسيخ فكرة اضطهادهم- يستغلون السينما -بوصفها أحد أكبر محركات الوعي في العصر الحديث- أسوأ استغلال؛ فما يمر عام منذ عقود طويلة، إلا ويخرجون فيه عشراتِ الأفلام التي تتناول ما يدَّعُون أنه حدث لهم من اضطهاد، وعشراتٍ أخرى تُظهر الشخصية اليهودية مُسالمةً وادعةً، تحمل راية التغيير للأفضل للعالم أجمع[4].
ولعلنا في حاجة إلى الكشف عن أن اليهود يجهدون في السيطرة على الوعي في كل مكان، وفي الوعي الغربي خاصةً، يُشكِّلونه بما يريدون، بالقوى الناعمة تارةً، وبالخشنة تارةً.
وأكتفي هنا على السيطرة الفكرية الخشنة بمثال واحد، لأستاذ الأدب الفرنسي “روبير فوريسون” (وهو يشبه عبد الوهاب المسيري عندنا؛ حيث هو الآخر مدرس أدب، تفرغ لدراسة الصهيونية)، وكتبه ممنوعة في أوربا، ومحظور تداولها لأنها تفضح حقيقة المحرقة والأكاذيب الصهيونية. يقول الكاتب “أمير العِمَري” في تقديم أحد كتبه: “إن معظم -إنْ لم تكن كل- كتب وكتابات روبير فوريسون ممنوعة في فرنسا، ومحظور تداولها في معظم الدول الأوربية (الديمقراطية)؛ طبقًا للقوانين المُقيِّدة لحرية البحث والتفكير في موضوع واحد فقط، يتعلق بجماعة بشرية صغيرة العدد نسبيًّا في العالم كله؛ هي الجماعة اليهودية، والموضوع المقصود هو موضوع “الهولوكوست”، أو الإبادة الجماعية المزعومة التي تعرَّض لها اليهود، إبَّان الحقبة النازية في ألمانيا، قبل أكثر من نصف قرن”[5].
وأقصد بما سقتُهُ هنا؛ أنهم يعتبرون ما يجري جزءًا شديد الأهمية من خطتهم، إلى حد المغامرة بالصورة التي يحافظون عليها أشد المحافظة، مع توالي التنديد الشعبي الغربي بما يفعلون، في ظل عصر التواصل الاجتماعي وسيولة انتقال المعلومات. فهذا يؤكد على إصرارهم تحقيقَ التهجير بأي ثمن. ورغم أن هذه الخطوة بالنسبة للقراءة السياسية المعاصرة تمثل تقدمًا ضخمًا؛ فإنها من منظور عربي إسلامي محضُ تقدُّم؛ فكلُّ هذه الأرض عربية إسلامية، والكيان يريدها جميعًا، ويريد كسر الإسلام الذي هو أكبر أعدائه؛ بمُخطط الإرهاب وبغير الإرهاب (أقصد بمخطط الإرهاب أنه صنع هذا الغول القِيَمي الذي سمَّاه الإرهاب، ليحتوي به كامل البناء الإسلامي شيئًا فشيئًا). فالمُخطَّط مُخطَّط مُثابرة، مَن يعضُّ على يد الآخر حتى النفس الأخير.
- كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟َ!
من الظواهر التي شاعتْ في هذه الأزمة الأخيرة؛ أنَّ بعضًا من المثقفين والعوام رفعوا شعار “ننتظر ردَّك يا الله”. وأنَّ كثيرًا أبدوا الاعتراض الشهير “كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟”، ومتى تماشينا مع هذه المقولة سنصل إلى الكفر الصريح: “كيف يكون الله موجودًا مع هذه الشرور؟”.
أما عن الشعار “ننتظر ردَّك يا الله” فقد يكون نتاج قلة الحيلة، وضعف الوسيلة من أناس ليس بيدهم شيء، لكنْ يجب أن نذكِّر أنفسنا بأمور سأوردها في آخر هذه الفقرة عن هذا الشعار. أما عن السؤال “كيف يسمح الله بكل هذه الشرور؟” فالأصل هنا أن نحرر فهم الدنيا في التصور الإسلامي؛ لنبين سوء هذا التصور.
وفي هذه المسألة خلط ضخم، ومغالطة شنيعة؛ فإن أصحابها السائلين ينسون أن الله هو مَن أرسل لهم هذا الظلم، اختبارًا وابتلاءً، ويغفلون ألَّا شيء في كون الله يقع دون إرادة الله ومشيئته. بل كأنَّهم في سؤالهم قد تصوَّروا لعبةً تسمى الدنيا، وضمُّوا الله إلى معسكر فيها، وكأن المعسكر الآخر (الشر) قد أتى وقام واقتدر أهلُهُ عليه دون علم أو إرادة من الله المُبدئ والمُعيد. وفي هذا من التقزيم لمقام الألوهية -والعياذ بالله- مما تصنعه حماقة الإنسان، وضغط اللحظة الراهنة عليه.
فالله هو خالق كل شيء، ومريد كل شيء، لا يحدث إلا ما أراد، ولا يقع إلا ما يشاء. ووقوع الضر على المؤمنين في حيز الدنيا؛ ليس إلا من مُجريات الاختبار الذي أخبرتنا العقيدة الإسلامية به، مثله مثل وقوع الخير وإسغاب النِّعَم على الإنسان. ولعل كامل هذا المعنى في قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[6]. بل شدَّد القرآنُ التذكيرَ بالابتلاء بالمصائب والبلايا والفاجعات: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[7]. وقال تعالى مُبينًا عن موقف مشابه لما نحن فيه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)[8].
وهكذا نرى التصوُّر العَقَدِيَّ للبلايا والمحن في الإسلام واضحًا. فما الحياة الدنيا إلا اختبار، يبتلي الله فيها عباده جميعًا. وأقصد بعباده هنا العبودية القهرية لا الاختيارية، أيْ كل الناس، لا العباد المؤمنين وحسب. يُقلِّب عليهم أحوالَ الخير وأحوالَ الشر؛ أيامَ الرخاء وأيامَ الشدة؛ سنواتِ الازدهار، وسنواتِ الجدب. وكلُّ شخص في هذه الدنيا على تعاقب الأحوال بين الشدة والرخاء؛ مطلوب منه الإيمان بالله والعمل الصالح، اللذيْنِ جاءا مُقترنَيْنِ في آيات متكاثرة، منها إخباره -تعالى- عن يوم القيامة: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[9].
ولم يسمح أصحاب هذا السؤال لعقلهم بامتداد التساؤل: ولِمَ لمْ يساعد الله النبي -وهو المُرسَل منه- وهو مضطهد داخل مكة، مُحاصَر بين أعداء له؟! ولِمَ ترك المؤمنين للمُشركين يفتنونهم قبل الهجرة؟ حتى قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[10]؟ بل لِمَ لمْ يجعل الله الناس تصدِّق النبي وكلَّ نبي منذ بعثه (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)[11]؟ .. وكلُّ “لِمَ” تجرُّ لِمَ حتى النهاية؛ لأنه مبدأ مُغالِط. فالله لم يجعل الأرض جنةً، بل وعد مَن يؤمن ويعمل صالحًا بالجنة؛ والله لم يجعل مُجريات الدنيا آخر المطاف، بل أوَّلَه وعليها يُحاسب كلُّ امرئ. بل أبدى القرآن لومًا وتقريعًا لمَن سوَّى بين اختبار الله له وابتلائه إيَّاه وعذابات الدنيا (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)[12].
وقد ردَّ القرآن على هذا التصور الطفولي الخاطئ مراتٍ؛ منها قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) السجدة 13. بل ردَّ عليه بإجمال الحكمة منها (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) الأنعام 35. ولا أريد الإطالة، ولسنا في مدوَّنة عقديَّة؛ لكنْ بقي أن أقول (وهو ما يتعلق بأصحاب الشعار الأول): إن رؤية الإسلام للدنيا عامة شاملة، أراد الله بها خلافة الإنسان ليُقيم أمانته على الأرض. وكلُّ امرئ مُطالَب بالإيمان، وكلُّ امرئ مُطالَب بالعمل الصالح. فأمَّا مَن استُشهِدَ دون ماله أو عرضه أو أرضه على دين الله؛ فما أرى إلا أنه أحسن غاية الإحسان حتى مماته، وأنها أفضل ميتة أكرم الله بها أهلها. لكنَّ الإشكال في كلٍّ منا؛ فكلٌّ منا ما زال يحيا ويُختَبَر في هذا الموقف العصيب الذي نشهده، وليحرص كلٌّ منا على أن يُخلِص لجماعة المؤمنين، ويهتمّ بهم غاية الاهتمام، وأن يقدم لهم أقصى ما يستطيع وما يكون في مقدوره.
ولنستمع -جميعًا- إلى وصية الرجل الصالح الذي آمن من قوم فرعون، وهو يُلخّص المشهد الكلي: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[13].
- المنافقون ودرس الامتحان والثبات
كنتُ في صغري أحب وأستلطف الآيات التي تتناول الكافرين صراحةً، أو المؤمنين صراحةً؛ لكنني كنت غافلًا عن آيات كثيرة في القرآن الكريم تتناول فئة المنافقين، كنت أعجب لِمَ بسط القرآن القول في المنافقين وفي صفة النفاق خاصةً، في أمة الإسلام وأمم سابقة. لكنني حينما كبرت عرفت السبب واضحًا في دنياي. وفي هذه المحنة نشهد الحكمة من آيات النفاق العديدة في القرآن؛ فلا صوت يعلو فوق صوت النفاق الخبيث في هذا الاختبار.
كنت وأنا صغير أعجب؛ لِمَ يدعو القرآنُ لإخراج هذه الفئة من القتال في أوقات اشتداد المحنة وأُزُوف القتال (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[14]. أليس استكثار العدد أولى؟ -هكذا فكرت وأنا صغير-. لكنني اكتشفت السبب في كبري.
يا الله! يا لها من كاشفة فاضحة تلك الاختبارات التي يُؤذن الله بابتلائنا بها -كما فهمنا سويًّا أعلاه-! .. وسبحان مُمحِّص القلوب بأيدي المواقف! فما بين “ولي أمرٍ” أمانتُهُ مَعقودة بالتحرُّك؛ فإذا به يتثابط في القيام بدوره، ليظهر وكأنَّ الموقف هو الذي ألجمه (وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ)[15]. وبين “ولي رأيٍ” أمانته في توعية الناس؛ فإذا به قد أضلَّ الناس، وسعى فيهم سعي السوء، يشوه المناضلين المنافحين القائمين بحق الله، وهُم في أقسى الظروف وأشظف الأحوال. ولنذكر تحذير القرآن منهم (وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ)[16].
فإن الهدى هدى الله، والحق أبلج واضح. وإن هاتين الفئتين من أُولي الأمر وأُولي الرأي المنافقين رسبوا في اختبارهم، فلا ترسب معهم. وادعُ بدعاء الرسول ﷺ أن يُميتك الله على الإيمان؛ فقد كان يدعو “يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك”. وجاء في القرآن تنبيه على هذا (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)[17].
- مُفارقة صحَّة الإسلام وانتكاس أهله
من المفارقات العجيبة في هذا الدين، أنه ينتصر في كل حال، ويتأكد في كل موقف. كما قال الله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[18]. ومن أعجب دلائل صحة الإسلام؛ دليل سُفُول حال أهله المُنتسبين له على حرفٍ، آخر الزمان، وهو حديث تداعي الأمم الشهير. “يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ. ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ . فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ”.
فكأن المشهد قد حُشد حشدًا، ووُصف وصفًا ما أدَّقَه وأبلغه، في هذه الكلمة من جوامع كَلِم الرسول ﷺ. وأعيد التنبيه لمَن يتداولون الحديث أن المقصود من الحديث ليس الاستسلام، والقعود عن النهوض، وتثبيط الهمم؛ بل العكس هو الصحيح بمفهوم المُخالفة. فالمطلوب هو الفرار والخلاص -الفردي والجماعي- من هذه الحال. عملًا بالحديث -وحديث بحديث- “إنْ قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”. وهذا حديث آخر يلخِّص الحل الفرديّ: “احرصْ على ما ينفعك، واستعنْ بالله ولا تعجزنَّ”. فليحرص كلٌّ على عمل الصحيح؛ مهما رأى من مُخالفةٍ له في هذا العصر، وليحرص كلٌّ على كلِّ ما يقدر عليه من عمل.
ولعلي هنا أستحضر مثالًا على الحديثَيْن الأخيرين؛ معركةً -وهي معركة فردية لا جماعية- هي المقاطعة الاقتصادية. التي قامت بها الشعوب العربية؛ بعدما رأت تقاعُس أولياء الأمر عن دورهم، وازورارهم عن أهل النضال؛ فما كان منهم إلا أنْ قدَّمُوا أقل ما بأيديهم، بالعزوف التام عن كل منتجات الأعداء (بالقطع وجود هذه المنتجات وسماحنا بأولويتها، وتقاعسنا عن الإنتاج ذنب يقع على من بيده الأمر). وقد أحدث هذا الخلاص الفرديّ الذي رآه الأفراد واستحسنوه بالغَ الأثر.
- تفاءلوا بالخير
وفي النهاية، أربط على قلبي وقلوب كل المؤمنين بالتذكير أن الله هو المُبدئ والمُعيد، وأنه وارث الأرض ومَن عليها، وأن التفاؤل واجب من استقراء النصوص الشرعية. ومنه حديث “عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له”. ووصلًا بالكلام أعلاه عن مشكلة الشر؛ نجد أن هذا الشر -من جهة ومن نظرة معينة- أظهر منا وفينا التفافًا حول شئون هذه الأمة، واستعدادًا خالصًا عند الكثيرين للتضحية بالمال -كاملًا في مواقف-، أو الدم، أو بما يحتاج له أخوه، وأنه عدَّلَ من سلوكنا وقوَّم من أحوالنا -ولو جزئيًّا-، وأنه أرانا الابتلاء في درجة قاسية ليُشهدنا أن مشكلاتنا الشخصية محض هراء، وأنه أرانا المنافقين منا لنميزهم عن الصالحين الصادقين، ولنستعيذ بالله أن نكون منهم، وأنه كان فرصةً للكشف عن ازدواجية الحاكمية الغربية في معاييرهم، وفرصةً لانتشار الوعي بين شعوب العالم الغربي عن حقيقة الصهيونية، وأنه دفع ملايين الغربيين للتظاهر من أجل القضية، وأنه كسر صورةً ظل اليهود محتفظين بها، مُحافظين عليها أمام العالم.
فهذا كون الله أمامنا، يُصرِّفه الله أنَّى شاء، ويرينا من آياته العجب، ويعلمنا أننا قاصرون عن إدراك الحكمة في كل ما نرى من تصاريف الدنيا. فسبحان الحكيم المُتعالي المُدبِّر!
[1] لنقاش أوسع في هذا الجانب، راجع مقالًا لي على الشبكة، بعنوان “هل فلسطين قضية الفلسطينيين وحدهم .. نقاش عقلي”.
[2] في مسألة النصوص الدينية اليهودية راجع مقالًا لي على الشبكة، بعنوان “انتفاضة الأقصى وأسفار اليهود الدينية”. وفي مسألة القضية الفلسطينية وعلاقتها بالعقيدة، راجع مقالي بعنوان “فلسطين قضية عقيدة إسلامية .. الأدلة والنقاشات”.
[3] الفيلم متاح على موقع “يوتيوب”، على أجزاء. وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية. راجع أيضًا مقالي عن الفيلم بعنوان “طريق سيدي .. كيف احتلت فلسطين بدقة”؛ وقد لخصت فيه مراحل احتلال فلسطين.
[4] انظر مثالًا واحدًا على هذه الأفلام في مقالي “جوجو أرنب .. فن الدعاية اليهودية”.
[5] كتابات في المراجعة التاريخية، أكذوبة المحرقة اليهودية، روبير فوريسون، من تقديم الأستاذ أمير العمري. روافد للنشر والتوزيع، ط1، 2017م. والكتاب متوفر على الشبكة للمراجعة والكشف عن الفضائح.
[6] الأنبياء، 35.
[7] البقرة 155 ، 156.
[8] الأنعام 42.
[9] التغابن 9.
[10] النحل 110.
[11] الأنعام 34.
[12] العنكبوت 10.
[13] غافر 38 – 40.
[14] التوبة 47.
[15] المنافقون 1.
[16] المنافقون 4.
[17] آل عمران 8.
[18] فُصِّلتْ 53.
*المصدر: التنويري.