النقد الثقافي كما هو عند أصحابه يكشف الأنساق الثقافية التي تحت الجمال البلاغي أما النقد الأدبي فيحدد بالدرجة الأولى القيمة الفنية والجمالية وقد تأثرت بلدان عربية عدة بهذا التيار بعد أن أثبت قدرته على كشف المخبَّأ تحت عباءة الجمال كأحد المبادئ المنتمية للمناهج الحديثة.
الثقافة عند ريمون ويليامز ( 1921-1988) مفكر ماركسي ( روائي وناقد بريطاني) : نظام دلالي يقضي حتمًا بالنظام الاجتماعي المعين إلى حتمية استكشافية.
أما عند العالم الأنثروبولوجي البريطاني إدوارد بانت تايلور ( 1832-1917) فهي : ذاك المركب المعقد الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاقيات والقوانين والقدرات الأخرى وعادات الإنسان المكتسبة بصفته عضوًا في المجتمع الأكبر.
أما كريستوف جينز فيجعلها حالة للفكر فالشخص يصبح مثقفًا حينما يتجه صعودًا نحو فكرة الكمال مهتدفًا لشيء ما ومعتنقًا له في إنجاز وطموح إنساني وفي رأيي أن الثقافة أعقد من ذلك فهذه الصورة خاصة عند كريستوف جينز لا تعدو أكثر من تعريف للمثقف أو المفكر لا للثقافة التي هي أوسع من ذلك فهناك كم هائل من الثقافات فهناك الثقافة الاجتماعية والثقافة التاريخية ( الكلاسيكية ) والثقافة الجمالية ( الفنية ) والثقافة الصناعية والثقافة الزراعية والثقافة التكنولوجية والثقافة الشعبية وغيرها بما أنها ممارسات سلوكية للمكون البشري لكن المتعارف عليه أنها تخص الحالة الفكرية للإنسان الذي يفكر في المجتمع في شكل فلسفي وتتصل بالأدب كثيرًا.
وقد عرف بعضهم النقد الثقافي: بأنه نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعًا لبحثه وتفكيره ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها “
إن أول من بلور مصطلح النقد الثقافي هي ” تيودورا دورنو” ( 1931-2020) ولها كتب بارزة مثل كتاب “Gender Trouble ” وهو من الأعمال الأساسية في دراسات النوع الاجتماعي ، حيث تقدم فيه دورنو نظريتها حول التداخل بين الجندر والهُوِيَّة. وتعدُّ حتى بعد رحيلها مرجعًا للطلاب والباحثين في مجالات الدراسات الثقافية والنسوية.
إن مبتكري مصطلح النقد الثقافي الغربي يرون: إننا في حاجة إلى فهم الاستعمار، والنفي، والهجرة، والتجوال، والتلوث، والعواقب غير المقصودة، إلى جانب الدوافع الشرسة للجشع، والشوق، والقلق، لأن هذه القوى المزعجة هي التي تشكل في الأساس تاريخ الهوية واللغة وانتشارها إضافةً إلى الثقافة الشعبية وتأثيرها عليهما فالثقافة ليست مجرد ترفيه بل هي وسيلة لإعادة إنتاج القيم والأفكار السائدة بل وإحداث فكرة جديدة أو نقض فكرة قديمة وأكثر من ذلك يمكن أن تستخدم الثقافة كأداة للسلطة والسيطرة من خلال تعزيز الهياكل الثقافية المهيمنة ويضاف كذلك التنوع الثقافي كجزء لا يتجزأ من الهوية وهي ما يجعل السؤال مُلِحًّا عن الشرعية الثقافية وفي الوقت نفسه يتعين علينا أن نضع في الحسبان استمرار الهويات الثقافية على مدى فترات طويلة للغاية في مواجهة الاضطرابات الجذرية التي تتنقل بنا من طبقٍ إلى طبق وتحملنا من موجة إلى موجة حتى أصبحنا نسمع ما بعد الحداثة وفي رأيي سيأتي ” ما بعد بعد الحداثة” هذه الهويات التي يبدي عدد كبير من الناس استعدادهم لتقديم تضحيات قصوى من أجلها، بما في ذلك الحياة نفسها وبعيدًا عن الاعتراف بهذه الجدلية، هناك حاجة ملحة إلى معالجة ما قد نسميه “الثقافة الجامدة” فأنت ترى أن الغربيين كونوا علامة فارقة جدًا وبعيدين أكثر عندما قاموا بتشريح المجتمعات والجندرات والهويات والسلطات في نقد ثقافي شامل ونافع أما العرب الذين أخذوا منهم هذه الفكرة فانظر إلى منتجاتهم فلا تسمع من الغذامي أكثر من أن المتنبي شحات عظيم هذا ونحوه في إنتاج لا يتسم بالإبداع ولا بالجدية الثقافية التي نراها عند الغرب ولا يراد به أكثر من التصدر الساحيِّ.
كتب جوته في آخر حياته عام 1826 بأنه ” لا وجود لفن وطني ولا عِلْمٍ ِ وطني فكلاهما مثل كل شيء جيد ينتمي إلى العالم بأسره ولا يمكن تعزيزه إلا بالتفاعل الحر بين كل من يعيشون في نفس اللحظة الراهنة ” وهو ما يعرف بالأدب العالمي وقد تكون جائزة نوبل أحد هذه المساعي الإنسانية كتب أحدهم تعليقًا على كلام جوته إن ذا من شأنه أن يحرر العبقرية البشرية من ضيق الأفق المقيت الذي تتسم به المجتمعات والثقافات والدول القومية المتنافسة ويتجرأ بعد ذلك ليطلق على هذا العمل الكبير اسم الحلم نبوي ” prophetic dream” الذي قتل بأبشع صورة في قرنين من الكراهة وسفك الدماء.
وعند كلامنا على الماضي الذي يرحل معنا في رحلة طويلة لأنه الصانع الأول لكثير من المستقبل وهذا الماضي قد يتجزأ إلى أجزاء عدة قريبة ملاصقة أو بعيدة نازحة غير أننا لا نلبث أن نقف أمام نموذجين الأول: يتركز في السلطة من الفرس إلى الإغريق ومن اليونان إلى روما ومن روما الإمبراطورية إلى سلسلة من الأنظمة الطموحة في الدول القومية الناشئة هذا في الغرب ومثله في العرب فمن النبوة إلى الخلافة إلى الدولة الأموية فالدولة العباسية إلى ما بعدها بوضع مقارب للحالة الغربية أما النموذج الثاني : فهو الذي طوره علماء اللاهوت بطرائقهم المعروفة وتدرجات كتبهم وكثير من العمل الديني المتدرج ما بين المسيحية والعهد القديم وهذا عندنا تماما ولكنه انتقل إلى المذاهب الفقهية بعد رحلة طويلة من الآراء والمدارس فمن النبوة إلى الصحابة فالتابعين فمن بعدهم وكل من النموذجين له موارده الغنية وآلياته التي بواسطتها يستولي بها على الأنظمة الثقافية القائمة أو يقوم بإعادة تشكيلها في نظامٍ ثقافيٍّ آخر.
فالنقد الثقافي كما ترى عمل نقدي غربي كبير قُزِّمَ من قبل العرب الذين أخذوه عن أصحابه الغربيين وشوهوه تشويهًا كبيرًا.
وإذا أردت أن تعرف مقدار هذا التشوه في النسخ العربية فسأوضح لك هذا غاية الوضوح فبترارك الشاعر والفيلسوف الإيطالي أحد أبرز الشخصيات الأوروبية في عصر النهضة دعا إلى الرجوع إلى الكلاسيكيات القديمة الرومانية واليونانية بالذات فجمع المخطوطات القديمة ودرسها وأحياها من جديد هو وغيره من الفلاسفة فماذا بعد انظر إلى تركي الحمد المفكر السعودي المعروف ماذا صنع أخذ هذه الفكرة الرجعية وأقصد بها رجعية لغوية أي إلى ما كان قبلُ ودعا بالرجوع إلى المرحلة الجاهلية أي ما قبل الإسلام فانظر إلى البون الشاسع بين الرجلين بترارك الذي يريد فِكْرًا وتجديدًا وبين تركي الحمد الذي يريد أسلوب حياة ترتفع فيه المحرمات والممنوعات الشرعية لأن من المعلوم أن الجاهلية لم تحمل في طياتها فكرًا ولا تنويرًا إلا في أسلوب حياة معين يفتقده تركي الحمد حيث لا عقيدة ولا توحيد ولا تصنيفات لأحد من الناس بما أنه لا يذم آلهة العرب مع أن كثيرًا من المشكلات التي في المجتمعات الإسلامية هي من تراكم الفقهيات غير المنقحة التي تفنن أصحابها في تضييق المتسع وتوسيع المضيق فاتسعت دائرة الممنوعات والأحوطيات وشُدِّدَ على الناس ودين الله رحمة دين إنساني يعطي الآخر حقه من الوجود وحظه من الاختيار قائم على الدولة المدنية لا الدولة الدينية.
( نرجع إلى ما كنا فيه )
فالثقافة نستطيع أن نقول إنها التراث الاجتماعي الممتد من اللحظة الآنية إلى ما قبلها من التاريخ ويشتمل على العناصر المادية الموروثة والعادات والقيم والأيدولوجيات والسياسيات جميعها كلها إنها أنماط معاشة وأنساق اجتماعية متوارية خلف تصرفاتنا وأعمالنا وحياتنا التي ندأب فيها ومن بين تلك الأعمال النتاج الأدبي لأنه صورة عنا قطعة من أفكارنا عن أنفسنا ومعتقداتنا ومن منهجنا الذي ارتضيناه في الحياة.
إن الناقد الثقافي( الغذامي ) لا يرضى بالحضارة كما سأبين ذلك إنه ضد الحركة الحضارية التقدمية فهو يتحدث كأنه يمثل الطبيعة النقية الخالية من العيوب التي وجه سهامه إليها إنها نوع من السماوية غير الممكنة لنا إن كثيرًا من الأشياء التي ننتقدها نمر بها فعلى سبيل المثال الذين ينتقدون الطبقات السياسية يمارسون نوعًا من التصرفات التي تناسب أحجامهم الصغيرة في المجتمع فتجد عندهم عدم العدالة أو الانتقام أو الجور الباطش ولكنه بحسبهم صغير جدًا لا يكاد يرى وهؤلاء هم البشر لا أحد يخلو من هذا لذلك كان الله أرحم الراحمين والأعلم بعباده أما باب الدعاوى فهو واسع جدًا.
إن الناقد الثقافي من نفس جوهر الذي يزعم أنه متفوق عليه عندما يحاول أن يظهر أنساقه المتوارية للعيان.
إن عدم كفاية الذات التي انتقدها هيجل في دفاعه عن الوضع الراهن لأنها تحكم بحكم ظرفيتها وضيقها على قوة الموجود فالنقد الثقافي في تركيزه على الجوهر المختفي بين ثنايا النصوص ظنًّا منه أنه يبرز ما كان غائبًا ليس أكثر من عملية إخصاء للثقافة التي أثارت غضب بعض الفلاسفة منذ زمن روسو وأخيرًا دعاة الالتزام من أجل الالتزام حتى أصبح النقد الثقافي عجلًا يعبد ويقدس في الأدب الحديث.
إن النقد الثقافي للظواهر الفكرية والفنية داخل النص محاولة لفهم التناقض بين فكرته الموضوعية وبين هذا الادعاء الموجود فيه من خلال تحليل شكلها ومعناها وهو ما يعبر عنه باتساق العمل نفسه أو تناقضه في مع البنية الموجودة ولا يتوقف هذا النقد عند الاعتراف العام بعبودية العقل الموضوعي الذي يحدده الناقد وفق ما يراه بنظرة تكاد تكون فلسفة قائمة أو حاكمة أو وقتية فالمجتمعات والأفكار في تطور دائم فيسعى إلى تحويل هذه المعرفة إلى إدراك متطور للشيء نفسه.
إن التبصر في سلبية الثقافة لا يكون ملزمًا إلا عندما يكشف عن حقيقة أو زيف تصور ما، أو نتيجة أو ضعف فكرة معينة ، أو تماسك أو عدم تماسك بنية قائمة ، أو جوهرية أو فراغ مجاز حاصل . أو فكرة تنتمي إلى مجموعة نفسية أو أخلاقية أو أيديولوجيا ما فليست المسألة فنية بحتة وعندما يجد أوجه قصور فإنه لا يعزوها على عجل إلى الفرد ونفسيته، اللذين يشكلان مجرد واجهة للفشل، بل يسعى بدلًا من ذلك إلى استخلاصها من عدم قابلية التوفيق بين لحظات الموضوع ذاته وهو يسعى إلى منطق المعضلات الوجودية ، وعدم قابلية المهمة نفسها للحل إلا بردها إلى شبكة متسلسة عبر عنها هذا الموضوع واستخلصها الناقد الثقافي وفي مثل هذه التناقضات يدرك النقد تناقضات المجتمع. فالعمل الناجح وفقًا للنقد الثقافي، ليس هو العمل الذي يحل التناقضات الموضوعية في انسجام زائف فلا يكون أكثر من نص بلاغي ، بل هو العمل الذي يعبر عن فكرة الانسجام الثقافية من خلال تجسيد التناقضات بإبراز النقاء الإنساني بصورة غير مساومة في بنيته الداخلية. في مواجهة هذا النوع من العمل يكون الحكم “بأنه مجرد أيديولوجية” . ولكن في الوقت نفسه يثبت النقد الداخلي أن العقل كان دائمًا تحت تأثير تعويذة لا أحد يستطيع أن يحددها أحسن تحديد فهو عاجز بمفرده عن حل التناقضات إلا في سطحية مجردة غير عميقة تدعو إلى المبادئ المعروفة أو تقررها بشكل حتى أن أكثر التأملات الجذرية للعقل في فشله الخاص محدودة بحقيقة أنها تظل مجرد تأمل، دون تغيير الوجود عما هو عليه.
فالربط بين معرفة المجتمع ككل وبين انخراط العقل فيه وبين المطالبة الكامنة في المحتوى المحدد للموضوع بأن يحصل إدراكه على هذا النحو الذي يراه الناقد الثقافي هو عمل تشويهي مبتور فاللوحة الفنية التشكيلية التي رسمها الفنان تندمج فيها الفكرة الإنسانية مع العمل الفني المبدع فلو افترضنا أن الرسام سطر فكرته كتابةً لمَا أثارت أحدًا مع أن كثيرًا من الإنتاجات الأدبية والفنية في القرون الماضية لها سمة الكلاسيكيات التي تخلو من القيم الحداثية فمحاكمتها إلى هذه القيم الجديدة محاكمة غير عادلة وعلى هذا فإن الديالكتيك الذي يمارسه بنحو ما الناقد الثقافي بخلق جدليات داخل النص ينفي بعضها بعضا ليخرج بالصورة المشوهة وهذا نوع من الهيرمينوطيقيا التي لم يستطع أن يجريَها على النص الديني واستعاض بها النص الأدبي الكلاسيكي فلا يستطيع أن يسمح لأي إصرار على الدقة المنطقية بأن يتعدى على حقه في الانتقال من جنس إلى آخر أو أن يلقي الضوء على موضوع منغلق في حد ذاته من خلال إلقاء نظرة على المجتمع تساعده في رحلته الاستكشافية أو أن يقدم للمجتمع الفاتورة التي لا يستطيع الموضوع أن يسددها من خلال الحفر التي سقط فيها ليأتي الناقد الثقافي في هيئة مسيح الثقافة الذي يبرئ النص من علله الجسام التي انطوى عليها وهذا ما يعني إلغاء لفترة حضارية اهتمت بالبلاغة والمحسنات ليصبح النص عمل إنساني محض متجرِّدًا من كل قيمة فنية إلا ما اجتمعت عليه إنسانيّة العصر الحديث وهي إنسانية لا توجد في كثير منها في غير النصوص ورفوف المكتبات أما الحياة فهي أقسى من ذلك بكثير وهذا النتاج تطور ووجد بين فئتين فئة الأدباء الكلاسيك الذين درسوا الدراسة التقليدية وركزوا على المنتج القديم واتبعوا السلف في مناهجهم المعروفة من لغة وأدب وبيان وبلاغة وفئة أخرى درست في الجامعات الغربية وأخذت بزمام المنصات الإعلامية وأتت بمناهج جديدة كليًّا ولكنها لا تعدو أكثر من نسخ مشوهٍ وغير عميق فلا يوجد عندنا مفكر عربي مستقل عن هذه الفئة لنقول إنه أتى بشيء خارج عن الغرب وأخيرًا فإن التعارض بين المعرفة التي تخترق من الخارج والمعرفة التي تثقب في الداخل يصبح موضع شك في نظر المنهج الديالكتيكي، الذي يرى فيه عَرَضًا لذلك التجسيد الذي يضطر الديالكتيك الحق إلى اتهامه.
لأن الدعوة المثالية المجردة هي دعوة تناقض الديالكتيك الذي يقوم على الفكرة ونقيضتها لأن الغالب في مثل هذا ليس أكثر من برجوازية مصغرة أقرب إلى طوباوية لا تتعدى الأوهام البارانوية.
وسبب هذه المقالة التي قاربت إلى نهايتها أني كنت في مساحة على منصة X استضافت الدكتور عبدالله الغذامي وقد كنت سعيدًا بالحضور واستمعت إلى اللقاء كاملًا وكنت أريد المداخلة وأتيح لي ذلك ولكن الوقت ضاق عنها وفي رأيي المتواضع أن إماتة النقد الأدبي وإحياء النقد الثقافي هو هدم لعجلة الحضارة الإنسانية فقد نتفق مع النقد الثقافي في مسألة الإصلاح الاجتماعي والثقافي الإنساني في بعض جوانبه عندما تكلم الدكتور عن المؤودة قديمًا والموؤدة حديثًا هذا في باب الإصلاح الاجتماعي أدخَل وربما يكون عمل الناقد الثقافي في هذا أقرب إلى نبي النقد الإصلاحي أما مسألة حياة النقد الثقافي فلنا أن نسأل ما بعد ذلك أليس هو إعلاء للقيم الإنسانية الحقة وإلا ما الهدف منه فليس النقد للنقد لابد من هدف هنا وأنا هنا لا أتلكم على النقد الثقافي كما فهمه الغرب بل على النقد الثقافي للنصوص الأدبية مع أننا لا نسلم أن تلك النصوص تخلو من قيمة إنسانية ومع ذلك كما ذكرت هي معبرة عن عصرٍ كان كذلك وهذا الانسياق مع القيم الإنسانية الحداثية أجد فيه سلْخًا لمكون حضاري قديم واتهامه بالقصور جريًا ومتابعةً ، لا غير لشيء غربي حادث مسيارةً لموضة غالبة وهنا أنقلك إلى مقولة لحسان بن ثابت عندما قال له ابنه أو غيره أن شعره قبل الإسلام يختلف عن شعره بعد الإسلام فقال : إن الإسلام حرم الكذب وهنا تجتمع كل معاني النقد الثقافي الإيجابية حيث تجردت الإنسانية في أبها صورها ولكن عند ذلك حرمنا رونق الحضارة لذلك جاء عن بعض السلف إني لأروح عن نفسي ببعض الباطل وقال سورين كيركجارد الفيلسوف الوجودي المؤمن إن الفاصل بين الإله والإنسان هو الخطيئة فالإله لا يخطئ وهذه هي المعضلة فالحضارة الإنسانية في أحد وجوهها هو الخطأ لذلك كلما تقدمت الحضارة تأنثت والمرأة كما نص الحديث اعوجاج فالحضارة في أعلى درجاتها هي اعوجاجية لذلك كانت النبوة والخلافة على منهاج النبوة ثلاثين سنة وبعد ذلك كان الانفتاح الحضاري الكبير وكما قلت هذه هي المعضلة الحقيقية التي تستعصي على الحل ولذلك فالنقد الثقافي باعتبار مؤداه هو وأد للحضارة وقتل للتنوع وهذا ما يعني أننا لا نستطيع أن نكون أنبياء ولا خلفاء على منهاج النبوة وهو ما يعني قيام الحضارة وهذا لا يعني عدم الاستمداد من الأصل بل هو الإعجاز بعينه عندما يشهد الأصل لقيام فرع حضاري عظيم وإن كان يدعو إلى معنى لا يستطيعه المجموع فيكون مؤسِّسًا لأصل ومقرًّا لفرع يخالف وإن كان هذا الفرع مبنيًّا عليه لذلك نحن نحترم الشيوخ الصادقين والأولياء المخلصين ولكننا لا نستطيع حياتهم والحياة بمجملها تناقض ما هم عليه فهل هم على الحق أم الحق ما نحن عليه لأننا نمثل الحضارة وهم يمثلون الأصالة وهذه هي النبوة عندما كان النبي مؤسسًا للحضارة التي تختلط بالخطأ اللازب الذي يتاب منه ويتكرر لأنه يعلم أن الناس لا يصبرون على حياته لذلك قال : لو دمتم على ما أنا عليه لصافحتكم الملائكة في الطرقات ولكنهم لا يستطيعون وآثاروا الحضارة التي هي الدنيا وهذا قدرنا لأننا لسنا أنبياء والناقد الثقافي العربي الجزئي أو المجزَّأُ أو المجتزء يريد أن يجعلنا أنبياء وأنى له ذلك وكما قلت النقد الثقافي في أحد جوانبه عمل إصلاحي وفي رأيي أيضًا أنه أخرج شيخ الدين الذي بداخل الدكتور عبدالله الغذامي فهو في النهاية عمل ديني بحت لمدرسة علمائية متأصلة ولكنها بشكل أدبي.
هذا رأيي في الكلام على النصوص الأدبية فقط لا على مجمل عمل النقد الثقافي عند الغرب فهو عمل محترم ومقدر أما النصوص الأدبية العربية خاصة فليست مكانًا لهذا فأنا مع المدرسة الشكلية الروسية الذي يعد ” فكتور شكلوفسكي ” أبرز مؤسسيها وهو من قدم مفهوم الانحراف وفكرة إحياء الإدراك من خلال الأسلوب دون النظر إلى الخلفيات الثقافية للنصوص الأدبية وهذا لا يعني ألا تكون النصوص مكانًا للبحث او النقد الثقافي على شرط ألا تلغي غيرها وفي هذا أذكر أن الدكتور عبدالله الغذامي استضاف شاعرًا من الأحساء في مقطع نشره على حسابه كان يكيل له المدح في أبيات ضعيفة جدًا شعريًّا فاغتفر لها ذلك ربما لإنسانيتها فهل نمارس النقد الثقافي عليه في هذا ونحلل شخصيته أنه رأى نفسه أيقونة أدبية معاصرة أو ملكًا فكريًّا يمدح كما تمدح الملوك أو نمارسه ذلك عليه في قوله : الحمد لله الذي جعلني معروفًا بأفكاري لا بأخباري لأنه ينكر السير الذاتية أليس هذا هو نَفَسُ المتنبي في شعره تشبه في كثيرٍ منها فحولة أدونيس التي صورها الدكتور عبدالله الغذامي واتهمه بها ولكننا لا نفعل هذا فهذا حق كل إنسان أن يرى أن له شيئًا وجوديًّا يميزه ويعطيه رمقًا للبقاء ؛ فالإنسان هو الإنسان والمتجردون في هذه الأرض قلة يعدون على الأصابع في كل زمن أولئك الرجال الذين خرجوا عن أنفسهم وآثروا الحقيقة وسعوا في مناكب الأرض من أجلها فهم للحق وبالحق ومع الحق وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
*المصدر: التنويري.