تراجيديا الغياب العربي عن ساحة العلم والفكر
عبد علي السعيدي
“يا كميل، العلم خير لك من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال، وصنيع المال يزول بزواله..” (الإمام علي بن أبي طالب).
يستوقفني كثيراً قول المتنبّي: ” يا أمَّةً ضحكت من جهلها الأًمم” ويثير في أعماقي الكثير من التساؤلات عن حقيقة المجد العربي.. أهو حقيقة أم وهم؟ خصوصاً حين نتذكَّر أنَّ هذا الشاعر الفذ عاش عصر العرب الذهبي على مستوى حركة الفكر والإبداع والتدوين.. وكان وقتها يمثِّل ما يشبه مؤسَّسة إعلاميَّة عملاقة في أيّامنا هذه مقارنة بعصره، إذا كان ملمّاً بدقائق المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي وتفاصيله… ويبدو لي أنّ مشكلة العالم العربي تكمن في طبيعة العقل العربي المغروس بتراب القبيلة والمعبّأ يقيم الصحراء والمؤمن بدين الفقهاء الذين لم يكتفوا بحرمانه من رؤية الله، بل عملوا جاهدين على أن يحولوا بينه وبين معرفة ذاته والنظر إلى الكون من حوله.
تناول الكثير من الباحثين تراجيديا الغياب العربي عن ساحة العلم والتكنولوجيا والفكر، وقد نجح الكثيرون في تشخيص الأسباب الكامنة وراء ذلك الغياب الطويل، غير أن سبباً واحداً لم يحظ بالاهتمام المطلوب رغم كونه، كما أعتقد، المصدر الأهم لكل الأزمات وأساس جميع المشاكل. لقد بدأ العد التنازلي لدورنا الثقافي والحضاري منذ اللحظة التي تمّ فيها التآمر على الإنسان الفرد وتغييب دوره لمصلحة المؤسّسة الاجتماعية أو السياسية والدينيَّة. وقد تبنّت السلطتان الدينيَّة والسياسيَّة شعار الدفاع عن الله من خلال قتل الإنسان! ليس قتله جسداً بل تغييب وعيه إلى يوم يبعثون.. ولم يعد تاريخنا سوى تاريخ الحاكم بأمر الله والمفتي النائب في التفكير عن عباد الله .. تلك هي القصَّة ببساطة.
ليس في تاريخنا قيمة للفرد ولنتاجه بعيداً عن الجماعة، فلا يمكن للمرء أن يعيش عيشة راضية مرضيَّة ما لم ينتمِ لجهةٍ ما، ولا يمكن لصوته أن يصل للآخرين إلا من خلال السلطة وإعلامها.. أما الشعب فهو مجموعة أولئك الأفراد المهمّشين المقموعين المستعبدين على كل الأصعدة.. فحين نطالع تاريخنا لا نجد لهم أوصافاً في كتب السلاطين والفقهاء سوى ما يشير إلى ضآلتهم في عين الحاكم والمفتي على حدٍّ سواء، فهم الرعية والدهماء والعوام والسواد وما شابه! ولهذا لم تجد تلك الجموع بدا من السير في ركاب الذين يملكون الدنيا والآخرة معاً في رحلةٍ طويلة ومضنية إلى المجهول.
أزمتنا أزمة إنسان فقد قيمته ولهذا فقد إرادته وسلّمها طواعية بيد رعاته غير الأمناء ولا يمكن معالجتها إلا بان نرد للإنسان الفرد اعتباره.. أن نمنحه حريته في التفكير والاعتقاد والنقد.. أن نعيد له حقّه في اليش الكريم الذي يليق به كونه هو وحده “خليفة الله في الأرض”.. وحين يؤمن الإنسان العربي بحقّه في التفكير والعيش بعيداً عن وصاية السلاطين والكهنة، حينها تحل جميع العقد، وهذا بالضبط ما حصل لقرينه في الغرب.
ليس لدينا أزمة موارد مادية ولا بشرية، ما لدينا أزمة وعي خلقت أزمة حكم، والنتيجة أنَّ أزمة الحكم تلك التي بدأت بمعاوية ولم تنته بالقذافي وأمثالهم هي التي أسهمت في الإرباك والشلل في كل مناحي تاريخنا وجميع تفاصيل حياتنا.
وكي ننتقل من تشخيص العلّة لتوصيف العلاج ينبغي أولاً أن نمتلك شجاعة مواجهة الذات.. ذاتنا التاريخيَّة والمعاصرة بكل تعقيداتها وعقدها.. لا بد أن نتخلّص أولا من أوها العظمة التي كثيراً ما نهرب إليها حين تصفعنا سياط الواقع بقسوة. كان سقوط الخلافة العبّاسيَّة على يد المغول أول تلك الصفعات ولم تكن هزيمة حزيران 1967 آخرها، ولكنّنا لم نتعظ ولم نقف إزاء ذواتنا كما وقف اليابانيّون بعد أن دمّرتهم الحرب العالمية الثانية، فصحّحوا وجهتهم وغيّروا مسارهم واستطاعوا قيادة العالم تكنولوجيّاً لعدة عقود وما يزالون.
تتلخّص مأساتنا أنّنا متأزمون نعان يمن وعي الأزمة، ولهذا نحن الصنف الأكثر سوءاً من الجاهلين. وقد ذكر الباحثون أسباباً متعدِّدة لتوقّف رحلة العرب من البدائيَّة للمدنيَّة، أهمها غياب المراكز البحثيَّة التي تشخّص معطيات الواقع وترسم الخطط للمستقبل كما يحصل في الدول المتقدّمة.. ومن بين تلك الأسباب:
- حالة الفقر والحرمان والتهميش وحجم البطالة في أغلب المجتمعات العربيَّة، فالجوع “أبو الكفّار” كما يصفه الشاعر مظفّر النوّاب وهو السبب الرئيس والخطر في تحطيم إنسانيَّة الإنسان وقتل جميع مواهبه وقدراته وحصرها في التفكير بلقمة العيش فقط.
- هيمنة الفكر السياسي المستبدّ والفكر الديني المتعصّب في الحياة العامّة، وكلاهما يخافان جميع أشكال التطوّر والتقدّم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي، ويسعيان للتشبّث بالماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاصر. كما يحرّمان جميع أشكال حرية الفكر والاعتقاد بما فيها حقّ الإنسان في ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكرهما، فضلاً عن ممارساتهما، وبهذا يسهمان في شلّ حركة الإنسان نحو السير في ركب الحضارة المعاصرة.
- عدم اهتمام السلطات المذكورة خصوصاً والمجتمعات العربيَّة بشكلٍ عام بأهمّية البحث العلمي والاكتشافات العلميَّة، لهذا يغيب التشجيع والدعم المادي والمعنوي للباحثين، ومن ثمّة تختفي الرغبة في الإبداع والاختراع. والسبب في ذلك حرص الحاكم ومن يسيرون في ركابه على تربية المجتمع في مراحله الأولى وفق مناهج تربويَّة تقوم على الحفظ والتلقين الاستذكار الذي لا يستثير في المتعلّمين روح الخلق ولتساؤل والإبداع.
- قلّة الدعم المالي المخصّص للبحث العلمي وللباحثين، بل إنَّ بعض الدول العربيَّة ليس لديها مخصّصات ماليَّة تتعلّق بالبحث العملي، ويرتبط هذا السبب بسابقه.
- حجم الفساد الإداري والمالي الناتج عن الفساد السياسي والتشريعي وما ينتج عن ذلك من معايير حزبيَّة وفئويَّة ومذهبيَّة تختفي عندها معايير الكفاءة والأهليّة، وهذا السبب مرتبط بطبيعة أزمة الحكم التي أشرنا إليها فيما سلف. فمسرحيَّة الحكم في العالم العربي هزيلة الإعداد والإخراج حتى حين تلبس مسوح الديمقراطيّة.
- 6. عدم وجود استراتيجيّة شاملة للبحث العلمي في جميع بلدان العالم العربي، الأمر الذي أدّى إلى ما يشبه حالة من الفوضى البحثيَّة، فمنتهى غاية معظم الباحثين العرب هي إمّا الحصول على الترقية واللقب العلمي أو للحصول على المال من دور النشر.. مضافاً إلى حقيقة أنّ معظم ما يكتب في الجامعات العربيَّة ليس سوى اجترار لما سبق تناوله في كريسِ لثقافة الاستنساخ بامتياز.
وخلاصة القول إن جميع تلك الأسباب ترجع بشكلٍ وآخر لأصل المشكلة وسبب الأزمة وهي تهميش دور الفرد لصالح الحزب أو الفئة أو السلطة.. لا يمكن أن نتوقّع من الحاكم عندنا أن ينفق على العلم الذي يفتح عيون الناس على أبواب السماء، فضلاً عن أسرار الأرض، وكلنا يعلم أنّ كلمة السرّ لدخول مملكة السلطة في عالمنا هي تجهيل المجتمع وتجويعه. والسبب أننا نفتقر لنظريَّة شاملة للحكم تقوم على عقدِ اجتماعي واضح المعالم يحدِّد بدقّة علاقة الحاكم والمحكوم كما عند غيرنا.. السلطة عندنا أما استخلاف لـ”ولي الأمر” من قبل أصحاب الحلّ والعقد لتصبح طاعته مقرونة بطاعة الله والرسول أو حاكميَّة إلهيَّة يتولّى فيها الفقيه الولاية المطلقة على جميع العباد دون علم منهم.
نحن لا نمتلك نظريّة حكم في حقيقة الأمر، لأنّنا نأخذ أحكامنا من حكّامنا وفقهائنا وهم أكثر من شوّه ماضينا وحاضرنا وحتى مستقبلنا. الحل يكمن بتغيير تلك المعادلة الظالمة ومهمَّة المفكّرين والكتّاب والمثقّفين الغيورين على بلدانهم وشعوبهم والمؤمنين بشرف الكلمة.. لن نتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام حتى لو أنشانا ملايين المراكز البحثيَّة ما لم تؤمن بقيمة الإنسان ونعيد له اعتباره واستقلاليَّة وعيه وثقته بنفسه وقدراته، حينها سيتحرِّر من عبودياته المصطنعة وعندها سوف يصنع المعجزات. ولله درّ ابن أبي طالب حين خاطب الفرد قائلاً: ” لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرّاً…”.