
الأفكارُ المتكاثرةُ في المنظومةِ الثقافيةِ تُمثّلُ إنتاجًا مستمرًّا للعلاقاتِ الاجتماعية، وتوليدًا دائمًا للعمليةِ الإبداعيةِ على الصعيدين: الإنسانيّ والماديّ، ممّا يدفعُ باتّجاهِ تطويرِ رؤيةِ الإنسانِ لذاتهِ، ورؤيتهِ لمجتمعهِ.
وهذه الرؤيةُ المزدوجةُ للذاتِ والمحيطِ تُؤسّسُ نظامًا فلسفيًّا تراكميًّا يفحصُ التّصوّراتِ الحياتيّة، ويختبرُ التأمّلاتِ الوجوديّة، ويمتحنُ الظّروف المعيشيّة.
وهذا يُؤدّي إلى تقويةِ الصّلةِ بين الفكرِ والتّطبيقِ من جهة، وتفعيلِ الوعيِ بأهميةِ الحياةِ الثقافيةِ للفردِ والجماعةِ من جهةٍ أخرى.
وإذا كانت الأفكارُ تتحوّلُ مع مرورِ الوقتِ إلى مواقفَ حياتيّةٍ وحالاتٍ إبداعيّة، فإنّ عناصرَ الحياةِ الثقافيّةِ تتحوّلُ مع ضغطِ الواقعِ الاستهلاكيِّ إلى رُموزٍ كامنةٍ في المشاعرِ المقموعة، والأحلامِ المكبوتة، والذكرياتِ المستترة.
ووظيفةُ الإنسانِ الأساسيّةُ هي استخراجُ هذه الرموزِ الكامنة، وحقنُها بالحريّةِ والحيويّة، وإعادةُ بعثِها إلى الحياة. وهذا يعني تحوّلَ الثقافةِ إلى حياةٍ داخلَ الحياة، وانتقال القيم الإبداعيّةِ من الهامشِ إلى المركز، ممّا يحمي المجتمعَ من الفجواتِ المعرفيّة، والثغراتِ المخفيّةِ في مصادرِ الوعيِ الاجتماعي.
إنّ الوعيَ الاجتماعيَّ لا يُحرّرُ الإنسانَ منَ الخوفِ والعجزِ فحسب، بل أيضًا يمنعُ المجتمعَ من الوقوعِ في الفراغ، ويحمي الحضارةَ من انتحارِ المعنى، ويحرُسُ التنوُّعَ الثقافيَّ من العدم، ويحفظُ الشعورَ من الاستلاب، ويُبعِدُ الشخصيّةَ الفرديّةَ والسلطةَ الاعتباريّةَ للكينونةِ الإنسانيّةِ عن الاغتراب.
والوعيُ الاجتماعيُّ يُولدُ من رحمِ اللغة، ويتشكلُ في الأطرِ المرجعيةِ لمصادرِ المعرفة تاريخيًا وحضاريًا. وإذا كان التاريخُ يكتبه المنتصر، والحضارةُ يُهيمنُ عليها الطرفُ الأقوى، فإن اللغةَ يُفجّرُ طاقتها الرمزيةَ الطرفُ الأكثرُ إبداعًا. والإبداعُ لا يتكرسُ كحقيقةٍ واقعية إلا إذا تخلصَ من الجمود، وتحررَ من الانكماش، وأفلتَ من الانغلاق. والإبداعُ لا يتجذرُ كمعرفةٍ جماعيةٍ خلاصية إلا في ظل الانفتاحِ المدروس، والتواصلِ المنطقي، وتلاقحِ الأفكار مع التطبيقات، مما يساهمُ في تشييدِ الهويةِ الإبداعية على الخصوصية، وتأسيسِ السلطةِ المعرفية على الذاتيةِ الثقافية، بعيدًا عن الحلولِ المستوردة، وعقدةِ الشعورِ بالنقص، والشعورِ بالدونية.
وإعادةُ تفسيرِ التاريخ، وإعادةُ اكتشافِ اللغة، تمثلان خطين متقاطعين في بؤرة مركزية واحدة، هي كينونةُ المجتمع، وتجسدان نسقين متكاملين في إطار مرجعي واحد، هو كيانُ الإنسان. والوعيُ الاجتماعيُّ هو نقطةُ التوازن بين كيان الإنسان وكينونة المجتمع، وهو أداةُ الحفرِ في أعماقِ الشخصيةِ الإنسانية، وأبعادِ السلطةِ المجتمعية، مما يؤدي إلى تكريسِ اللغةِ كحالةٍ إنسانية ضمن شروطِ تفسيرِ التاريخ، وإخراجِ الفعلِ اللغويِّ من تراكمِ الألفاظ، إلى رحلةِ البحثِ عن المعنى في الفكرِ والوجود.
وكُلَّما تعزَّزَ دورُ اللغةِ في سبرِ أغوارِ النفسِ الإنسانيةِ، ورصدِ التحوُّلاتِ العميقةِ في بنيةِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، تجذَّرَ دورُ الثقافةِ في عقلنةِ اللامعقول، وإنَسِنَةِ إفرازاتِ الماضي ومعطياتِ الحاضرِ وقيمِ المستقبل، وتحويلِ التجاربِ الإنسانيةِ إلى مصادرِ معرفيةٍ على تماسٍ مباشرٍ مع الفعلِ التاريخيِّ والفاعليةِ الحضارية. وهذا النشاطُ اللغويُّ والثقافيُّ يُخلِّصُ الإنسانَ من عبءِ التأويلاتِ المصلحيةِ للتاريخ، ويحرِّرُ الذاكرةَ الحضاريةَ من جلدِ الذاتِ والخوفِ من المستقبل، ويطهِّرُ العلاقاتِ الاجتماعيةَ من احتكارِ الحقيقةِ المطلقةِ والوصايةِ على الآخرين.
واللغةُ تستمدُّ حياتَها من حركتها المستمرة نحوَ المعنى، والثقافةُ تستمدُّ حيويَّتها من اندفاعِها الدائم باتِّجاه الهوية. والحياةُ والحيويَّةُ وجهان لعملةٍ واحدة، يُوجَدان معًا، ويغيبان معًا. وحركةُ اللغةِ ليست نقلةً ميكانيكية في الزمانِ والمكان، وإنما هي نقلةٌ في الشعورِ والوجدان، واندفاعُ الثقافةِ ليسَ وظيفةً روتينية، وإنما هو توظيفٌ للشعورِ والوجدان في الوعيِ التاريخيِّ والذاكرةِ الحضارية، من أجلِ إعادةِ الإنسانِ إلى إنسانيته، بوصفِه كائنًا حيًا وكِيَانًا حرًا وكينونةً إبداعية. والإنسانُ هو مركزُ التاريخِ والحضارة، ومحورُ العمليةِ الإبداعيةِ في الزمانِ والمكان. وبِدون إنسانيةِ الإنسانِ لا يُمكن أنسَنةُ التاريخِ القائمِ على الصراع، وبِدون إبداعِ الإنسان لا يُمكن عقلنةُ الحضارةِ القائمةِ على الاستهلاك.
_________
*إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
*المصدر: التنويري.