الفقه هو الثلاثة الأنواع: العقائد، والأخلاق، والأحكام الشرعية العملية، وما يندرج تحتها أو كما يطلق عليه المستشرق جورج بوسكي القانون الإسلامي وهو الذي ينظم حياة الناس، ولا يكون ذلك إلا من خلال العلماء، وكما نعلم أن الفقيه أو العالم هو منظومة مفاهيم وليس جسمًا مجرَّدًا من لحمٍ، ودم، وربما أحسن أربع شخصيات ندلف منها إلى موضوعنا هي شخصية ابن عباس، وأبي هريرة وابن عمر، وأبيه عمر؛ فأبو هريرة كما تذكر كتب الحديث يروي حديثًا كما في الترمذي (توضأوا مما مست النار ) فقال له ابن عباس (أنتوضأ من الحميم ) وهو الماء الحار، ويقصد ألسنا نتوضأ بالحميم فكيف نتوضأ مما منه نتوضأ؛ فقال أبو هريرة يا ابن أخي إذا سمعت حديث رسول الله فلا تضرب له الأمثال، والأمثال هي الأقيسة العقلية وتجدها عند عائشة عندما ردت أحاديثًا أو تأولتها فالصحابة أو التابعين تذاكروا عندها ما يقطعُ الصلاةَ فقالوا يقطعُ الصلاةَ الكلبُ والحمارُ والمرأةُ فقالت عائشةُ رضيَ اللهُ عنها لقد عدَلتُمونا بالكلابِ والحَميرِ وقد كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلي إلى وسطِ السريرِ وأنا عليه مضطجعةٌ والسريرُ بينه وبينَ القِبلةِ فتبدو لي الحاجةُ فأكره أن أجلسَ بين يدَيهِ فأوذيهِ فأنسلُّ من قِبَلِ رِجلَيه انسلالًا، وقد كان الرأي منتشرًا في العراق بكثرة، ولذلك لا عجبٌ أن يكون لديهم فقيه كأبي حنيفة، ولكن الأعجب أن يكون لديهم فقيه كأحمد ابن حنبل؛ حتى قالت عائشة لامرأة سألتها لماذا تقضي الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة ( أحرورية أنتِ ) تعني به أعراقية أنت؛ لأنهم أهل الرأي؛ والحجب المؤثرة على الخطاب الفقهي كثيرة كحجاب النفس وما ينطوي عليه من أفكار، وتصورات ولذلك يكون السؤال هنا هل تتم عملية الاختيار الفقهية بحرية مطلقة؟، وبإرادة خالصة؟ وتوجيه عقلي محض لا تشوبه شائبة النوازع النفسية، ومناطق اللاشعور التي تؤثر في العملية الفقهية. يقول ابن حزم: ((فإنَّ اليقين قد صحَّ بأنَّ الناس مختلفون في هممهم، واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، وينفرون عمَّا سواه، متباينون في ذلك تباينًا شديدًا متفاوتًا جدًّا، فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس، ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد، ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف، ومنهم جانح إلى لِين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة، ومنهم مُعتدل في كل ذلك إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار، ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء، ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلًا )). وهناك أيضًا حجاب العادة حيث تتشكل منطقة رمادية من النصوص والسلوكيات البشرية، وأقرب مثال على ذلك مسألة المرأة والمبالغة في التضييق عليها حيث يمتاز الرجل العربي ؛ كما هو معروف بغيرته المفرطة، مع وجود نصوص قد يفهم منها أنها تدعم النظرية الذكورية تجاه المرأة ؛فيمتزجان معًا إلى أن تصبح العادة هي الحاكمة، والمهيمنة على النظرة الفقهية التي تخص المرأة، وهناك أيضا حجاب البيئة، وفي هذا يذكر الشيخ عبدالرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء رحمه الله أنه في الزمن السابق كان ينتشر القول بتكفير اللابسين ملابس عسكرية، وهذا القول اندثر تمامًا الآن مع دخول الحضارة، والمدنية على الناس، ولذلك فإنك ستجد فرقًا شاسعًا بين عالم نشأ في إطار مذهب فقهي واحد ومدرسة واحدة وأسلوب حياتي جاف وبين عالم نشأ في محضن حضاري ومتنوع وحياة ثرية ؛ ستجد الأول أقرب إلى الشدة والآخر أقرب للاعتدال، والسماحة، وهناك حجاب الاستبداد، وهذا واضح من اسمه حيث ينساق العالم مع الطبقة السياسية الحاكمة، ويكيف النصوص طبقًا لرغبات تلك الفئة ؛ فتنقلب الموازين، ويفقد الشعب بوصلته الحضارية، والاقتصادية. فكما ترى اختلاف العلماء في مآخذهم، وتأثير بيئتهم ومنازعهم النفسية عليهم ؛ فابن عمر مثلاً كما يذكر عنه تلميذه نافع عندما سألوه عن حياته فقال لا تطيقونها،وهو بعكس ابن عباس الذي كان يميل للدعة ويجالس الشعراء كعمر ابن ربيعة ويستملح أشعارهم، وفي هذا يقول أبو جعفر المنصور لمالك بن أنس حين دعاه لتأليف كتابٍ يجتمع عليه الناس : (يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودوِّن كتابًا، وجنِّب فيه شدائد عبد الله ابن عمر، ورخص عبد الله ابن عباس..) فابن عباس الفقيه العقلاني على النقيض تمامًا من ابن عمر العابد الزاهد، ويتضح هذا في الحكاية التالية : سئل ابن عباس عن أرجى آية في كتاب الله فقال {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }[البقرة:260] وسئل ابن عمر ؛ فقال أرجى آية {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}[الزمر:53] فابن عباس ؛ لأنه كان يعاني الأمور العقلية، والتأمل الفكري كانت أرجى آية عنده تلك التي قال فيها النبي ﷺ: ( نحن أولى بالشك من إبراهيم )، وأما ابن عمر فإنه لما كان العابد الزاهد ؛ فإنه تعلق بالآية التي كانت تدور على مغفرة الذنوب لأنه كان يخشى على نفسه من نفسه، وابن عباس كان يخشى على نفسه من عقله . وابن عمر على النقيض من أبيه عمر بن الخطاب الذي قال فيه النبي ﷺ: ( فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه ) ؛ فإنه امتنع عن توزيع أرض السواد على المقاتلين، وجعلها للأجيال القادمة، وهذا هو التفكير الاقتصادي، ومقتضى التخطيط التنموي للمستقبل، كما عطل سهم المؤلفة قلوبهم ووجه ذلك أن إعطاء المؤلفة قلوبهم في زمن النبي ﷺ كان قائما على علة وهي دفع أذيتهم عن المسلمين، والاستعانة بهم على غيرهم، ونحو ذلك؛ فلما أغنى الله عنهم حين قويت شوكة الإسلام، واشتد ساعد المسلمين انتفت العلة الباعثة على إعطائهم ؛ فمنع هذا العطاء. ومسألة تعليل النصوص من أدق المسائل التي اختلفت فيها الآراء حتى قال الشاطبي في الموافقات ((الثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء، وما يقترن بها من القرائن الحالية، أو المقالية الدالة على أعيان المصالح في المأمورات، والمفاسد في المنهيات)) وقال وهو بصدد توجيه هذا النظر وترجيحه: « إن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياء وأمر بأشياء وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردا من الالتفات إلى المعاني، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه وشراؤه؛ كبيع الجوز، واللوز، والقسطل في قشرها، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب ؛ كالديار والحوانيت المغيبة الأسس، وما أشبه ذلك مما لا يحصى، ولم يأت فيه نص بالجواز، ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلا ؛ لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا، مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي، ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده)).وابن القيم رحمه الله تعرض لهذه المسألة في كتابه إعلام الموقعين حيث قال ((والتعويل في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني ، وللتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم، ومراده يظهر من عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فهمه من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان)) وقال ((والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي ﷺ ﴿ ما ذا قال آنفا﴾ وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله (( فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا )) فذم من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم، وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه وتارة من عموم علته والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني،والفهم والتدبر)).وقد كان الصحابة يعللون النصوص على عهد النبي صلى الله عليهم وسلم، ويقرهم على ذلك ففي أعلام الموقعين لابن القيم: وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنفهم؛ كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة فصلوها ليلا، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس.
مثال تطبيقي
ولو أخذنا مثالًا تطبيقيًّا على هذا، وهو حكم المرتد الذي يدخل تحت مسمى حرية الاعتقاد ؛ فإننا نستطيع أن نحمل أحاديث قتل المرتد على معنى أو علة المحارب الذي يهدد أمن وسلامة المجتمع، وهو تأويل يؤيده ظاهر القرآن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }[البقرة:265] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}[الكافرون:6] والحديث الذي في البخاري (أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَع رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ : أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ : أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا ” ). وهو صريح في أمرين أن الرسول لم يقل له إن تركك للإسلام يقتضي قتلك ولا تبعه ولا أرسل خلفه من يقتله بل علق على فعله بقوله (المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها ) وهو صريح في خبثه وارتداده، وفي حديث آخر كما في كتب السيرة حين كان يعرض نفسه على القبائل «لا أُكره أحدا منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء» فالنبي هنا ينفي عن نفسه الإكراه، بل أكثر من ذلك يعلن صراحةً، أنه يقبل أن يدخل تحت حماية سلطة غير مسلمة ليبلغ دينه، فالإكراه، أو إلغاء وجود الآخرين، بما يحمله هذا الوجود من أبعاد متعددة، صفتان ليستا من الإسلام. ويمكن أن نضيف لهذا الاستدلال ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية من أن من جاء من المدينة هاربًا إلى قريش لا ترده قريش للرسول ﷺ، وكان ذلك في السنة السادسة للهجرة، ولن يهرب لقريش إلا من ترك دينه، ومع ذلك لم يطالب النبي برده ؛ فلو كان حدًّا لما تهاون فيه النبي ﷺ وهذا ما يؤكد أنه عقوبة تعزيرية، أو مخصوص بمن حارب. بل أحيانًا في قضية تعليل النصوص تكون الحاجة ماسة له حتى يتفق النص مع الواقع ويكون أقرب إلى الفهم والتصديق فحديث (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا). سيق على مقتضى أحوال أهل المدينة حيث كانوا أصحاب زرع ينتهون من أعمالهم قرب مغيب الشمسِ حين تحين الصلاة ؛ فيصلون ثم يذهبون إلى بيوتهم منهكين فيتعشون ويثقلون عن صلاة العشاء فينامون والفجر كذلك حيث تكون عندما تشتد لذة النوم وأما الآن فإن أخف صلاة هي العشاء حيث يخرج الناس منها إلى اجتماعاتهم ومصالحهم المختلفة، ولذلك تكون صلاة العصر الآن هي الأقرب أن تكون أثقل الصلوات إذا نظرنا إلى النص وعللناه حيث يرجع الناس من اعمالهم قبلها ؛ فيأكلون وينامون فتثقل عليهم وهذا ما يجعلنا نفتح بابًا في النظر إلى النصوص وتطبيقها على الواقع والأخذ بما هو أليق وأكمل وأقرب إلى دلة النص ومفهومه.
وفي مثال آخر تجد آية { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[النساء:34] فالشيخ الشعراوي رحمه الله على سبيل المثال يقرر مسألة الضرب بطريقة غريبة جدًا ويقول هل نحن أرحم بها من ربها،وهذا فيه بعدٌ عن روح الشريعة وليس على طريقة من تفهَّم مقاصدها ؛ لأن الحرفية واللفظية هي أضر شيء بالمجتمع والناس ؛ فالنص يحتاج إلى أكثر من الوقوف المجرد على الألفاظ، ولو رجعنا إلى فقه السلف رحمهم الله تعالى لوجدنا عطاءً يقول لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها وهذا هو الفقه الذي نحتاجه لمن يعرف ممارسة النصوص واستنباطاتها لا هؤلاء الفقهاء اللفظيون المجردون للنصوص من روحها والمتجردون من علم قصود الشريعة فالذي ينبغي أن يفتى به الآن في كل المجامع الفقهية تحريم ضرب المرأة إما معايشة اتفاق أو فراق بالمعروف وهذا الذي نصت عليه الآيات الحاسمات .
يبقى كيف نفهم هذه المسألة:
١ – نعلم أن المجتمعات تتطور وتتقدم ولذلك قد تجد نصًّا يتيح لك شيئًا في أحوال معينة مخصوصة وقد تجد هذا النص ليس على سبيل الإيجاب بل على الإباحة كما هو هنا في الضرب مع كون متعلقه أو المراد بها مختلف فيه هل هم الأزواج أو الولاة وهذا يضعف أو ينوع دلالته ولا يجعلها جازمة .
٢- الشعوب قبل آلاف السنين كانت أبوية محضة وجافة وتتقبل المرأة من خلال مفهوم عام للطبائع ما يقع من الرجل وكان لا بد أن يعالج الإسلام هذا بحذر فيلمح له في نطاق دلالي غير حاسم ويقيده من جانب آخر بقوله ” ولن يضرب خياركم ” وبنهج الرسول الذي لم يضرب أحدًا من خدمه ولا أصحابه دع عنك نساءه وقد قال الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
٣- من هذا المنطلق راعى الإسلام هذا الطبائع وكان لا بد أن يعالجها وألمح في نصوص أخرى واضحة إلى المعاشرة بالمعروف وأنه الأصل في هذا ولذلك بعد تطور الحياة والمجتمعات ووصولها إنسانيًّا لمراحل متقدمة وما للمرأة الآن فالقول هو تحريم الضرب وهو مقطوع به من أصول الشريعة ومقاصدها.
٤- مع كل هذا حدد الضرب كخيار أخير وإن كانت الواو لا تفيد ترتيبًا عند النحاة لكن يفهم هذا من الفاء المتقدمة ومراعاة الأخذ بالأيسر فالأشد كما هو معلوم من قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح وغيرها من القواعد.
٥- هذا الخيار وجد عند حال واحدة، وهو نشوز المرأة والنشوز هو الارتفاع الشديد والعلو الكبير والممانعة الكبيرة مع تقييد الضرب بالسواك أو نحوه على جهة المعاتبة لا الإيلام وهذا كما قلت ناسب وقتًا معيَّنًا وحياة معينة اقتضت الشريعة معالجتها في وقتها ودلت على الأصل من نصوص أخرى.
٦- تقيد هذه الآية بآية أخرى ” وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير” فحددت الآية أن الصلح خير والإصلاح أولى فتحمل تلك الآية على هذه.
٧- أمرنا الله فقال {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم }[الزمر:55] في دلالة قصودية ومعنوية وإرشادية للتفقه الأحسن وهذا ما يعطيك نظرة أخرى للنصوص أكثر شمولًا ووعيًا بالواقع.
لذلك فصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان أمر متقرر، ولكن البلاء فيمن ينظر فيها ويقرر العنت للناس عندما ينحو منحًى جافًا يصادم الواقع اعتقادًا منه أنه بحرفيته هذه ينصر الشريعة ويؤيد الحق ويكون من أهل الله وخاصته وهذه دعوى عريضة لا برهان عليها إلا وهم المعتقد، واستغفال الجماهير الذي يقدسون المتشددين وهذا له منحى نفسي فالعامة لضعف تدينها تسقط التدين الذي ضيعته، أو تجده في ذلك المتشدد فتراها تميل إليه وتحبه مع كونها تريد التدين غير العميق الذي يوافق عاداتها، ولا تريد أن يكون لها قيامة حضارية وهذا بلاء الجماهير.
________
*خالد الغيلاني.
*المصدر: التنويري.