(دراسة ابستمولوجيَّة في النظرية السوسيولوجيَّة المعاصرة)
يعتبر الإطار التحليلي بمثابة البوصلة المعرفية والمنهجية لتوجيه سير مراحل الدراسة، فالهدف المنشود من تطوير إطار تحليلي نظري هو تحليل النتاج الفكري والمعرفي لرواد الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر موضوع دراستنا الحالية. لذلك فإننا قبل الخوض في تحديد ملامح العناصر البنائية لإطارنا التحليلي (الاتجاهات النقدية المعاصرة)، سنحاول عرض لمحة تاريخية موجزة لعدد من الأطر التحليليةالتي تبناها بعض المشتغلين بالنظرية السوسيولوجية([1])، وهي كالآتي:
– الإطار الأول: يستند إلى تحليل النظرية السوسيولوجية بالنظر إلى سياقها الاجتماعي الذي برزت منه، في محاولة أولية لفهم قضاياها النظرية، ويعتبر هاري بيرنزBarner في كتابه ” الفكر الاجتماعي من البدعة إلى العلم ” Social Thought From Lover to Science من المحاولات الأولى في هذا المجال، ويضاف إليها محاولة هانز موس Hans Mauss في كتابه ” تاريخ الفكر الاجتماعي ” of Social Thought History.
يعتمد هذا الأسلوب في تحليله للنظرية السوسيولوجية بالاعتماد على السياق الاجتماعي الذي انبثقت منه النظرية، كمثال على ذلك دراسة النظريات التي ظهرت في المجتمع اليوناني، أو المجتمع الإيطالي، أو الإنكليزي، أو الفرنسي…إلخ. حيث يسعى هذا الأسلوب إلى ربط بعض القضايا ببعض أحداث السياق الاجتماعي، وأحياناً أخرى يعالج النظرية بتحليل مفاهيمها وقضاياها الأساسية دون ربطها بأحداث معينة في السياق، من خلال إبراز انتمائها لهذا المجتمع أو ذاك فقط([2]).
يعاب على منهجية هذا الإطار في تحليله لأبعاد النظرية الاجتماعية، إغفال فاعلية السياق الاجتماعي، سواء المحلي أو الأشمل، حيث نجد أن قضايا كثيرة من النظريات ليست سوى تجريد لبعض التفاعلات الواقعية هذا من جهة. ومن جهة أخرى يتجاهل هذا الأسلوب في غالب الأحيان وضع النظرية السوسيولوجية في سياقها الفكري، فالنظرية السوسيولوجية هي حلقة في تطور نسق التفكير العلمي، حيث نجد أن كثيراً من مفاهيم هذا النسق وقضاياه قائمة في بناء النظرية موضع الدراسة ولو في إطار نسقي جديد، إضافةً إلى أن هذا الأسلوب في التحليل يتجاهل الوظيفة الإيديولوجية للنظرية الاجتماعية، وهي الوظيفة التي برزت بوضوح في فترة الحرب الباردة([3]).
– الإطار الثاني: يتمثل هذا الإطار بأسلوب التحليل العلمي، وهو أسلوب يعتبر أن النظرية السوسيولوجية مجرد حلقة في تطور أو نمو التفكير العلمي، ويرى المؤلف دون مارتندال في كتابه ” طبيعة ونماذج النظرية الاجتماعية ” The Nature and Types of Social Theory، أفضل من مثل هذا الأسلوب، حيث يرى أن النظرية تشكل إحدى وحدات نسق التفكير العلمي، بهذا يشكل ما سبقها مقدمات لها، وهي تشكل بدورها مقدمات لما سوف يأتي بعدها. ويدخل في نطاق هذا الأسلوب أيضاً التحليل الذي قدمه كل من بيرسي كوهن Percy Cohen في كتابه ” النظرية الاجتماعية الحديثة ” Modern Social Theory وجون ركس john Rex “ قضايا أساسية في النظرية الاجتماعية ” وغير ذلك من التحليلات العديدة التي تبنت هذا الأسلوب.
يؤخذ على هذا الإطار أنه لا يهتم كثيراً بالنظر إلى النظرية السوسيولوجية على اعتبار أن بعض قضاياها انعكاساً للتفاعل الاجتماعي القائم، فهو لا يحاول ربط أي من المقولات النظرية بتفاعلات السياق الاجتماعي. كذلك يؤخذ على هذا الأسلوب أنه يغفل تماماً الوظيفة الإيديولوجية للنظرية الاجتماعية، مقتصراً على المستوى الابستمولوجي في معالجته للنظرية الاجتماعية([4]).
– الإطار الثالث: يسمى هذا الإطار لتحليل ودراسة النظرية السوسيولوجية بإطار التحليل التاريخي، وهو الإطار الذي يسعى إلى أن يؤصل للبداية التاريخية لظهور مفاهيم النظرية الاجتماعية وقضاياها الرئيسية، محاولاً أن يبحث عن هذه الأصول أما في المجتمعات القديمة كالمجتمع اليوناني القديم، أو المجتمعات الشرقية (كالصين، والهند، ومصر)، وحتى في أوروبا خلال القرون الوسطى، ثم يحاول بعد ذلك تتبع الانتقال والتحول والتطور التاريخي للمفهوم بغية معرفة الكيفية التي وصل إليها بشكله و مضمونه الحاليين. حيث يعتقد هذا النوع من الأطر التحليلية أن النظرية السوسيولوجية هي نتاج لتراكم تاريخي معرفي عبر قرون عديدة من الزمن، لذا نجد أن المنظر الذي يوظف هذا النمط من التحليل يميل دائماً إلى البحث عن الجذور والأصول المعرفية، إضافة إلى تحديد القضايا النظرية العلمية التي تشكل بناء النظرية في وضعها الراهن.
نلاحظ وفقاً لهذا النوع من الأطر التحليلية أنه يوفر قدراً هائلاً من المعلومات ذات الصلة ببناء النظرية الاجتماعية، وهو جهد الذي يفيد في الأغراض الأكاديمية (التعليمية)، إلا أنه لا يذكر شيئاً عن العلاقة بين القضايا النظرية من ناحية وأحداث السياق الاجتماعي من ناحية أخرى، إضافة إلى أنه لم يذكر شيئاً عن المتضمنات الإيديولوجية لأي نظرية من النظريات، باعتبار أن رواد هذا الاتجاه ينفقون كل جهدهم في معالجة الجوانب المعرفية للنظرية، بالمقابل نجد أن هذا الإطار تجاهل تماماً الوظائف الإيديولوجية لأي نظرية من النظريات. ويمكن اعتبار كتاب بيترم سوركين P. Sorokin ” النظريات الاجتماعية المعاصرة “ Contemporary Sociological Theories أفضل من مثل هذا الاتجاه([5]).
– الإطار الرابع: سعى هذا إلى تحليل النظرية الاجتماعية بالنظر إلى السياق الاجتماعي، بحيث يعتبر عالم الأمريكي المعاصر ألفن جولدنر Alvin Gouldner من أهم ممثليه ويعتبر كتابه ” الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي ” of Western Sociology The Coming Crisis من أفضل الكتب التي جسّدت هذا النوع من الأطر التحليلية في دراسة النظرية الاجتماعية المعاصرة بهدف فهمها وتحليلها وتفسيرها.
يسعى هذا الاتجاه إلى التركيز على بعدين رئيسين: الأول أن النظرية السوسيولوجية هي انعكاس لأحداث السياق الاجتماعي على الصعيد المحل الذي تتصاعد دوائره في الاتساع حتى السياق العالمي. فقضايا النظرية تعكس أحداث الواقع الاجتماعي وما يحدث فيه من تفاعل، إضافة إلى علاقة السياق المحلي بالسياقات المحلي الأخرى في إطار النظام العالمي، وما يقع في الأخير من أحداث وتفاعلات. فالنظريات السوسيولوجية الشاملة أو ذات الرؤية الكلية اتجهت إلى رفض بعضها البعض في فترة الحرب الباردة، لكنها بدأت تنجذب إلى بعضها البعض في فترة الوفاق الدولي، وذلك ينطبق على العلاقة بين النظرية الوظيفية والبنائية الوظيفية في علم الاجتماع المعاصر. أما البعد الثاني فإنه يتمثل في تأكيد هذا الإطار بصورة محدودة على البعد الإيديولوجي للنظرية السوسيولوجية وأن أكد هذا الاتجاه على البعد الابستمولوجي للنظرية السوسيولوجية فإنه يميل في كثير من الأحيان إلى التذكير ببعض الوظائف الإيديولوجية للنظرية وإن احتلت مكانه ثانوية في هذا التحليل. نضيف إلى ذلك أن هذا الإطار يغفل نسبياً الحديث عن الأصول المعرفية للنظرية، أو النظر إلى النظرية باعتبارها وحدة في نسق التفكير العلمي([6]).
– الإطار الخامس: يتبنى هذا الإطار أسلوب التحـليل الإيديولوجي، ويعتبر أرفنج زايتلن Irving Zeitiln في كتابه “الإيديولوجيا وتطـور النظرية الاجتماعية” Ideology and The Development of Sociological Theory أفضل من مثله في هذا الصدد. حيث يتصور هذا الإطار كيفية نشأة النظريات وظهورها استجابةً لبعضها البعض. بمعنى أنه إذا كانت النظرية الماركسية قامت بتحليل النظام الرأسمالي ونقده، لتحديد القوانين التي تحكم التحرك نحو المجتمع الشيوعي، التي ترى فيه الماركسية المجتمع الأكثر اكتمالاً والذي يتخلص من التفاوت الطبقي ويحقق العدالة الاجتماعية، فإننا نجد بالمقابل عدد من النظريات الأخرى التي ظهرت كرد فعل مضاد على النظرية الماركسية فأخذت تحاول تفنيد النظرية الماركسية، في محاولات جادة للدفاع عن المجتمع الرأسمالي. فالنظرية السوسيولوجية من خلال هذا الأسلوب أصبحت تدافع عن واقع معين، أو تدين آخر، بهذا نجد أن الوظيفة الإيديولوجية في هذا الإطار قد برزت باعتبارها أكثر الوظائف أهمية و وضوحاً([7]).
يهتم هذا الإطار نسبياً بالنظر إلى النظرية السوسيولوجية كوحدة في تطور نسق التفكير العلمي، وقد يسقط تأثير إحداث السياق الاجتماعي على مقولات النظرية السوسيولوجية، غير أن التأثير الواضح يظل منسوباً للمتغير الإيديولوجي بالأساس([8]).
وبعد هذا العرض المبسط لبعض الأطر التحليلية السابقة، التي حاولت دراسة وتحليل النظرية السوسيولوجية، فإننا نقترح إطاراً تحليلياً خاصاً لدراسة واستخلاص الأسس النظرية والمنهجية للاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، وهو يتكون من العناصر التالية([9]):
1– التيارات الفكرية كمرجعية أولية للتنظير والنقد الاجتماعي: نسعى من خلال هذه الفقرة إلى استعراض وتبيان التيارات والروافد الفكرية التي اعتمد عليها مفكري الاتجاهات النقدية كأساس وقاعدة معرفية في الانطلاق منها للاسترشاد بنقد الواقع الاجتماعي بما يتناسب مع المعطيات الواقعية المتجددة، لهذا يمكن اعتبار أن هذه المرجعية الأولية قد أثرت تأثيراً مباشراً في تبلور معظم الأفكار النظرية للمدرسة النقدية المعاصرة من هذه التيارات، على سبيل المثال: ” الفلسفة المثالية الهيجلية، الفلسفة النقدية الماركسية، الفلسفة الفرويدية فيما يتعلق بالحضارة، فلسفة الحياة، العقلانية الفيبرية “. حيث كان لها دوراً أساسياً ومحورياً في إنضاج وبلور المنطلقات النظرية والمنهجية للاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر.
نجد أن التيارات الفكرية بهذا المعنى تشكل جوهر العلاقة بين النسق الفكري العام من جهة، وبين النظرية موضع التحليل والاهتمام من جهة أخرى، ففي إطارنا المقترح سنحاول جاهدين من خلال معالجتنا للأسس النظرية والمنهجية للاتجاهات النقدية المعاصرة وضعها أو تحديد موقعها على خارطة التيارات الفكرية العامة([10])، بهدف تحديد ورصد ما يلي:
أ- توضيح مدى تأثير هذه التيارات الفكرية على بعض القضايا النظرية والمنهجية للاتجاهات النقدية موضع الدراسة والبحث.
ب- معرفة أهم القضايا التي اتفقت أو اختلفت معها الاتجاهات النقدية، وما هو موقفها منها من خلال سعى رواد الاتجاهات إلى بلورة رؤية تحليلية نقدية لهذه التيارات.
ج- التعرف على المداخل المنهجية التي اقتبستها الاتجاهات النقدية من التيارات الفكرية وآلية توظيفها في خدمة قضاياها النظرية المعاصرة([11]).
2– الحياة الشخصية للمنظر: تلعب شخصية المنظر دوراً أساسياً في بناء النظرية، من حيث تأثيرها على بناء النظرية السوسيولوجية، بهذا فإننا نجد أن للأحداث الشخصية تأثير نسبي على طبيعة الظواهر التي يصدى لها المنظر بالتحليل والبحث، ومن ثم التعميمات والقضايا التي وصل إليها من خلال دراسته لهذه الظواهر والأحداث، فعلى سبيل المثال نجد أن هناك تأثير ليهودية كارل ماركس على موقفه من الدين، وهناك تأثير لانتماء إميل دوركايم لمقاطعة الالزاس (موضع التنازع حينئذ بين ألمانيا وفرنسا) على أفكاره فيما يتعلق بروح الأمة وعقلها الجمعي. كذلك هناك تأثير للبعد اليهودي لمنظري الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر على الكثير من أفكارهم. وكذلك كان هناك تأثير للحياة الشخصية لباريتو على الكثير من أفكاره النظرية كدور الصفوة أو الموقف من الاشتراكية([12]).
تعتبر الحياة الشخصية للمنظر من أهم المتغيراتالتي لها تأثير كبير على نتاجه الفكر والمعرفي، وخاصة في العلوم الاجتماعية ذات الصبغة الإنسانية، في جانب آخر نجد أن كل نظرية سوسيولوجية عبارة عن نظرية سياسية ضمنياً، فإن كل نظرية سوسيولوجية يمكن اعتبارها نظرية شخصية، لكونها تعبر بصورة حتمية عن الخبرة الشخصية للأفراد الذين ألفوها على الرغم من أن هناك افتراض يقتضي العمل به على استبعاد الجوانب السياسية والإنسانية عند تأليف النظرية السوسيولوجية على اعتبار أنها مستقلة افتراضياً.
يسعى علماء الاجتماع في العادة إلى دراسة وقائع معينة في العالم الاجتماعي يرونها الحقيقة، وأياً كانت اتجاهاتهم في فلسفة العلم، فإنهم يحاولون تفسيرها بالنظر إلى شيء ما يرونه حقيقياً، إذ ينسب علماء الاجتماع الحقيقة إلى وقائع معينة في عالمهم الاجتماعي([13]).
تستقى هذه الوقائع من الافتراضات الكامنة للمنظّر التي تستند إليها بنية النظرية السوسيولوجية، بحيث تتطور هذه الافتراضات من خلال خبرة الإنسان في حياته الخاصة وحياة الجماعة التي ينتمي إليها والطبقة التي تشكل إطاره الاجتماعي، فهذه الافتراضات هي التي تحدد طبيعة نظرة الإنسان إلى عالمه المحيط، بالإضافة إلى أنها تفرض علينا اختيار البنية النظرية التي تتسق ووجهة نظرنا([14]).
تلعب هذه الافتراضات دورها الأساسي باعتبارها تقدم أسس الانتقاء، أي الاهتمام والتركيز على موضوعات معينة دون أخرى. حيث نجد أن النظريات المختلفة قد تختلف من حيث طبيعة الجوانب التي تركز عليها في بناء المجتمع أو الموضوعات أو الظواهر التي نتعرض لها بالبحث أو الدراسة، فتأكيد ماركس على المتغيرات الاقتصادية وفائض القيمة كأساس لنمو النظام الرأسمالي على سبيل المثال، يتناقض مع تأكيد ماكس فيبر على المتغير الثقافي والقيم البروتستانتية كأساس لنمو الرأسمالية المعاصرة، ويرجع هذا بالأساس إلى تباين الافتراضات الكامنة عند كل منهما بحيث جعلته يركز على مكونات أو عناصر معينة في بناء المجتمع دون أخرى([15]).
كذلك الأمر بالنسبة لافتراضات المجال التي يختارها المنظر والتي تعتبر من العوامل الأساسية التي تعتمد عليها بنية النظرية الاجتماعية، ويقصد بها مجموعة الافتراضات المرتبطة بالمجال الذي نعمل فيه، مثل الافتراضات المتعلقة بالتصور الطبقي للمجتمع، كذلك لعلاقات الطبقات الاجتماعية ببعضها البعض، فاختيار أي من الافتراضات المتعلقة بالمجال الذي نعمل فيه يقربنا هذا الاختيار من النسق النظري الأكثر تتطابقاً مع وجهة نظرنا. يعني ذلك أن النسق النظري للمنظر هو بمثابة المتغير التابع للمتغير المستقل وهو الحياة الشخصية للمنظر، فمن خلال معرفتها يمكن معرفة الدوافع الأولية التي جعلت آراءه وأفكاره على هذا النحو.
3– أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته: يسعى هذا العنصر التحليلي إلى إيضاح وقائع الأحداث وتفاعلاتها (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) التي حدثت في الواقع الاجتماعي خلال فترة زمنية معينة، فكان لها التأثير المباشر على توجيه النتاج الفكري للمنظر الاجتماعي النقدي إلى قضية فكرية معينة، لأننا كما نعلم فإن تلك الأحداث تلعب دوراً محورياً ولو بطريقة غير مباشرة في تبني المفكر (الباحث) لأفكاره النظرية التي ستصبح الموجه الأولي في معالجته ونقده لقضايا الواقع الاجتماعي، بهذا يمكن لنا اعتبار هذه الأحداث بمثابة متغيرات مستقلة ساعدت على إنضاج الفكر النقدي في علم الاجتماع بشكل عام والفكر النقدي للمدرسة النقدية في علم الاجتماع المعاصر بشكل خاص.
تعكس قضايا النظرية أحداث الواقع الاجتماعي، وما يحدث فيه من تفاعل، فعلى سبيل المثال نجد أن هناك علاقة وطيدة بين السياق المحلي والسياقات المحلية الأخرى في إطار النظام العالمي، وما يقع في الأخير من أحداث وتفاعلات. فالنظرية الشاملة (ذات الرؤية الكلية) التي هي خير دليل وبرهان على ذلك، اتجهت إلى رفض بعضها البعض خلال فترة الحرب الباردة، لكنها بدأت تعيش حالة من الوفاق فيما بينها خلال فترة السلم الدولي، فمن أبرز الأمثلة على ذلك العلاقة التي جسدتها الماركسية والبنائية الوظيفية في الآونة الأخيرة في علم الاجتماع المعاصر([16]).
4– تحليل الأبعاد البنيوية للاتجاهات النقدية المعاصرة: يسعى هذا العنصر إلى تتبع الأسس النظرية والمنهجية للاتجاهات النقدية بغية تحديد القضايا والمقولات الأساسية، التي انطلقت منها في معالجتها ونقدها لقضايا المجتمع، مع ضرورة السعي وراء الكشف عن الأسس المنهجية التي تبين لنا الكيفية التي تقترب منها الاتجاهات النقدية في فهمها وتفسيرها ونقدها للواقع الاجتماعي، لذا سيتم مناقشة وإيضاح أبعاد البنية النظرية التي تنقسم إلى قسمين أساسيين حسب البناء المنهجي لعلم الاجتماع([17]):
أ- الأسس النظرية للاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر: يعكس هذا العنصر الجانب الأساسي أو العيني لبناء النظرية. ونعتقد بشكلٍ عام أنه لا خلاف بين رواد النظرية الاجتماعية فيما يتعلق بالتغيرات المشكّلة للواقع الاجتماعي، ولكن يكمن الخلاف الرئيس بين مدارس علم الاجتماع في طبيعة ترتيب هذه العناصر بالنظر إلى بعضها البعض، وأيضاً في طبيعة العلاقة القائمة بينها. إذ تدرك غالبية النظريات الواقع باعتباره يتكون من المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية أو الدينية على سبيل المثال، لكنها تختلف حول المتغيرات ذات الأولوية، فبينما تؤكد الماركسية على المتغيرات الاقتصادية تؤكد نظرية إميل دوركايم على المتغيرات الاجتماعية، في حين نجد ماكس فيبر يعطي متغير الثقافة الأولوية الأولى، بينما يؤكد باريتو على فاعلية الصفوة كمتغير أساسي([18]).
بناءً عليه سيتم عرض المنطلقات النظرية الرئيسية للاتجاهات النقدية التي أصبحت مرجعاً أساسياً لتصور الواقع الاجتماعي ولمناقشة ومعالجة القضايا والمشاكل التي يعاني منها هذا من جهة، ومن جهة أخرى للكشف عن حجم الجهد الفكري الذي بذله مفكرو الاتجاهات النقدية في سبيل تكوين رؤيتهم السوسيولوجية التي تسعى إلى إعادة النزعة الإنسانية للإنسان بعد أن افتقدها في المجتمعات الصناعية المتقدمة بمباركة من الفلسفات الوضعية ذات العقلية الأداتية.
تعني المنطلقات النظرية (كما نعلم) بناء مجموعة من القضايا الفكرية التي تتداخل فيما بينها منطقياً، لكي تشكل التصور النظري للواقع الاجتماعي. مع العلم أن هذه القضايا التي سنحاول دراستها بالتحليل والنقد تتصل وبشكل مباشر بالإرهاصات الأولية لحركات النقد الاجتماعي السابقة التي قدمت خلاصة جهودها النظرية للاتجاهات النقدية المعاصرة – التي تعد امتداداً حيوياً لها- للاستفادة منها. بهذا تنعكس أهمية هذه القضايا على الصعيد العملي في أنها تقدم تصوراً مقترح للنموذج النظري الذي ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بالإضافة إلى موقفها من الفكر المضاد لها. كما يسعى هذا العنصر إلى الكشف عن مدى صوابية تلك المقولات في فهمها وتحليلها وتفسيراتها ونقدها للمجتمع والفكر، حيث سيتم إنجاز هذه العملية وفقاً للإطار التحليلي المقترح لهذه الدراسة.
ب- الأسس المنهجية للاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر: عرّف موريس أنجرس*Maurice Angers ، المدخل على أنه طريقة خاصة غير تقليدية في استعمال النظرية، وعند اقترانه بالمنهج يعرفه أنجرس بوصفه طريقة خاصة، غير تقليدية في استعمال النظرية، بصرامة، وبرغبة في التنظيم. ويعرف أحد علماء الاجتماع المدخل المنهجي بقوله: ” وهو يشير للتصور المنهجي لرؤية الواقع، وتناول ظواهره ونظمه ومراجعة الأنساق النظرية المصاغة حوله، ويتحدد المدخل المنهجي في ضوء المبادئ الأساسية والأسس المنطقة التي يستند إليها الباحث والتي تمثل الإطار المرجعي للمعالجة المنهجية “([19]).
يشير المدخل بمعناه الأولي إلى الطريقة المرنة لتناول البحث من منطلق نظري (اتجاه فكري أو مدرسة)، بحيث يشكل خلفية فكرية للباحث، وإذا كان التعامل من هذا المنطق يتطلب قدراً من المرونة فإن عملية التبني لأي تصور تحتاج إلى كثير من الصرامة والدقة والتنظيم، حتى يتمكن الباحث من الوصول إلى الوضوح النظري الكافي، والقدرة على رسم الخطوات المنهجية اللاحقة. فالمدخل المنهجي المحدد بدقة ووضوح يسمح للباحث بالاقتراب الدقيق و”المحسوب” من الواقع، ويمنحه القدرة على تحليل وإدراك وتفسير أبعاده، وهو يعقد نقطة أو حلقة الوصل بين الإطار المرجعي النظري والمنهجية المتبعة، فهو:
1. على المستوى التصوري يساعد على تحقيق التناسق المنطقي، وعلى تبصر جوانب الظاهرة المدروسة، وتبين أبعادها المختلفة، والاستفادة مما تقدم في ذلك من تحليلات ومفاهيم وقضايا.
2. وهو يسمح على المستوى العملي باختيار المناهج الملائمة للدراسة التي تجرى عن واقع بعينه وفقاً للمنظور المتبنى.
3. ونتيجة لذلك، فهو يحقق الانسجام بين الجانب التصوري للبحث والجانب التطبيقي والجانب التفسيري([20]). لهذا تعتبر محاولة فهم وتحديد القضايا المنهجية محاولة مهمة جداً لفهم المنطلقات الفكرية والنظرية للمدرسة النقدية، فالأسس المنهجية تتعلق بطبيعة الحال بتحديد ومعرفة المداخل المنهجية التي تمثل زاوية الاقتراب من ” القضية ” موضوع الدراسة، أي الكيفية التي يتم من خلالها دراسة الواقع الاجتماعي، وعليه يمكن القول إن المدخل المنهجي أكثر ارتباطاً ببناء النظرية لأن المقولات النظرية هي التي تفرض هذا المدخل أو ذاك. وبالمقابل فإن المدخل المنهجي بدوره هو الذي يحدد مناهج وطرائق البحث المناسبة في هذا البحث أو تلك القضية([21]).
خلاصة القول اعتمدت الاتجاهات النقدية في دراستها ونقدها للواقع الاجتماعي على العديد من المداخل المنهجية منها المداخل ذات الرؤية الكلية أو الجزئية، سواءً أكانت مثالية أو مادية. لذا نجد أن مفكري هذه الاتجاهات استقوا مداخلهم المنهجية من عدة تيارات فلسفية رئيسية منها: الفلسفة المثالية (الهيجلية)، والفلسفة النقدية الماركسية، والفلسفة الفرويدية فيما يتعلق بالحضارة، وفلسفة اللغة التحليلية، بهدف مساعدتهم على الاقتراب من الواقع الاجتماعي فهماً وتحليلاً ونقداً. تمت عملية الانتقاء هذه استناداً إلى الأبنية النظرية التي تضمنت تصورهم للواقع الاجتماعي ومدى صلاحيته لمعالجة مشاكله وقضاياه، بالإضافة إلى موقفهم الناقد من علم الاجتماع المعاصر الذي يهدف إلى إعادة النزعة الإنسانية له بعد أن افتقدها في إطار التنظير الوضعي المعتمد على العقلانية الأداتية([22]).
([1]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية – نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الأول، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص(57).
([2]) علي ليلة: النظرية الاجتماعية المعاصرة دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع (الأنساق الكلاسيكية)، دار المعارف، ط3، القاهرة، 1991، ص(83).
([3]) علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، ط1، 2005، ص(106-107).
([4]) علي ليلة: النظرية الاجتماعية المعاصرة دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع (الأنساق الكلاسيكية)،مرجع سبق ذكره، ص(84).
([5]) علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، ط1، 2005، ص(108).
([6]) المرجع السابق نفسه، ص(108-109).
([7]) علي ليلة: النظرية الاجتماعية المعاصرة دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع (الأنساق الكلاسيكية)،مرجع سبق ذكره، ص(85-86).
([8]) المرجع السابق نفسه، ص(86).
([9]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(61 وما بعدها).
([10]) علي ليلة: النظرية الاجتماعية المعاصرة دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع (الأنساق الكلاسيكية)، مرجع سبق ذكره، ص(87).
([11]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(62).
([12]) علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(108).
([13]) ألفن جولدنر: الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة وتقديم: علي ليلة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2004، ص(96).
([14]) علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(218) .
([15]) المرجع السابق نفسه، ص(234 ).
([16]) علي ليلة: النظرية الاجتماعية المعاصرة دراسة لعلاقة الإنسان بالمجتمع (الأنساق الكلاسيكية)، مرجع سبق ذكره، ص(85).
([17]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(65).
([18]) علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(111).
* أستاذ في علم الاجتماع، كندي الجنسية، شغل عدة مناصب عالية في الجامعات الكندية، وهو متخصص في مجال المناهج الاجتماعية، من أهم كتبه ” مقدمة عملية في منهجية العلوم الإنسانية ” الصادر عام 1997.
– Maurice Angers: Initiation pratique a la méthodologie des sciences humaines, éditions, Casbah, Alger, 1997.
([19]) السيد علي شتا: المنهج العلمي والعلوم الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، ط1، 2003، ص(17).
([20]) نور الدين زمّام: إشكالية المدخل المنهجي الإسلامي في حقل السوسيولوجيا، جامعة محمد خضير، مجلــة العلوم الإنسانية، بسكرة، ع (12)، نوفمبر، 2007.
([21]) علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(67).
([22]) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، مرجع سبق ذكره، ص(68).
_______
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.
*المصدر: التنويري.