المقالاتثقافة وأدب

بلاغة المدنَّس في قصَّة اللِّص للأديب الإيطالي ليوجي بيراندللو

الأدب العالمي

لم تكن الدَّناسة في الأدب إلا فتيلا يوشكُ أن يلتهبَ فيفجِّر كوامن القداسةِ الراسخةِ في مخيالِ العامةِ بقوةِ التشريعِ الدينيِّ والتعنيفِ الاجتماعيِّ، وقد آنَ لهذا المصطلح أن يغتدي مثل الديناميتِ الذي يلغم حوافَ النص تلبيةً لرغبة تمردية جامحة اعتملت المثقفين والأدباء وهم يرونَ فصيلًا من الساسةِ بمعيَّةِ رجالاتِ الكهنوت يحاولون إخاطةَ شرانقَ وهمية يبتلعون بها كل صرخةٍ تستأهل النأي بنفسِها عن مزمار الراعيِّ.

إنَّ البلاغة في أسمى تجلياتِها هي عصفُ السَّائد بالكلامِ الموجز، أي “تقويض الأبنيةِ السُّلطوية بلغةٍ اندفاعيةٍ تكادُ تجترح مقولاتٍ تجديدية تتأسَّسُ على الثورةِ المنجيةِ من قوانين تعيقُ ارتقاء الفكر نحو مجالاتٍ أكثر حرية”[1].

ولن يكونَ للبلاغة حليفٌ يُعينُهُ على معركته سوى من خلالِ الارتكانِ إلى تدنيسِ من أضحى مقدَّسًا بوسائط سلطويَّة ودينية واجتماعية قاهرة تفتعلُ تحنيط النص المراوغ الذي يستهدفُ ترويض عقولِ العامةِ وطمسِ نورانية التفكير السَّديد الموفي إلى تجديد في نوعيةِ الأسئلةِ المتواترة التي أرهقها مرانُ الاجترارُ والمبالغةِ في طاعةِ المقولاتِ الأشدِّ هتكًا لمصبَّاتِ التأويل والتفسير.

بالعودةِ إلى عنوانِ قصةِ اللِّص للأديبِ الإيطاليِّ ليوجي بيرنادللو فهي تمثِّلُ حالةً من الانشطار النفسيِّ للرجل البائس المدعو دون دالجنا بينَ الالتجاءِ إلى الكنسيةِ والتمسُّحِ بجدرانِها رغم أنها لم تمنحُه سوى شحناتٍ عاطفية مؤقتةٍ يلوذُ بِها لتجاوز محنةِ فقدانِ بناتِهِ الخمس وهن على التوالي: مرجيتا.. أنجليكا… مادلين… نينا.. أنيتشا بسببِ داءٍ عويصٍ ألَّم بهنِّ، أو العودةِ إلى صديقِه البار دون بارتللو الشخصية التي أشعلت نار كراهية تجاه أساقفة الكنسية بخطابها المدنس، لكنَّها لا تنفكُّ في الكرمِ والعطاءِ وإطعامِ ابنةِ دون دالجنَا الوحيدةِ التي لم يمسُّها نبالُ المنية لكنَّها مازالت عالقة في وحلِ المرضِ وقريبا سيكون مصيرها مشابها لإخوتِها الخمس.    

تجسدُّ شخصية دون بارتللو أعتى درجاتٍ المفارقةٍ فهو الدؤوب على طعنِ القساوسةِ بلسانهِ الساخر الذي لا يخلو من العجائبيةِ:

“إنَّ القسيس لا ينظرُ إليك على كرسيِّ الاعترافِ إلا كما ينظرُ القط إلى الفأر كل ما يبتغيهُ هو أن يلتهمكَ وأنت في أضعفِ ساعاتِ حياتِكَ”[2].

تتلهفُ المشابهة إلى اجتراح نسقِ دلاليِّ موازٍ بين القط من حيثُ نظراتهِ المشرئبةِ لافتراسِ الفأر والقسيس الذي يبتغي طحنَ كرامةِ المؤمنِ المسيحي من أجلِ أن ينال من جيوبهِ بما يعيلهُ على زيادةِ ثروتهِ، وعليهِ تتنمذج وفق وتيرة بلاغية تصاعديَّة وهذا لتدنيسِ الخطاب الكنسيِّ كونهُ يتأسَّسُ على خطابٍ مواربٍ ينشُد ترسيمَ طبقاتٍ من الجهلِ المقدَّس في عقولِ العامةِ.

لم يكتَفِ دون بارتللو بتدنيسِ أيقونةِ الرَّاهب عبر تحطيمِ واجهةِ قداستهِ التي اتخذها كوميضٍ برَّاق يوهم القطيعَ والغوغاءَ بسموقِ روحانيتِه وقدرتِها على نقلِهم من شقاء وكلحِ الدنيَا إلى مراتعِ النعيمِ مقابل دفعِ أموالٍ كثيرةٍ تزهق الذنوب جميعِها، بل ركنَ إلى تأليفِ صلواتٍ خاصةٍ بتراتيلَ أوجدها للمسحوقين والمهشمينَ والكادحين، فقد اعتاد أن يجمع كلَّ هؤلاء في الغابةِ ثم يركع متمتِمًا بصلواتٍ غريبةٍ هي “لعناتٌ لكلِّ ما عرفَ الناسُ من أديانٍ منزَّلة”[3]،

ثم ينتفِضُ قائلًا:

 هذهِ هي الصَّلاة لا كنيسة، لا مذابح إنما ركوعٌ في الخلاء مع الحشراتِ في المعبد الكبير الذي خلقهُ الله”[4].

ولكأنَّ دون بارتللو أراد نقل العبادةِ من فضاء مسلَّعٍ بقبابٍ من ذهبٍ وجدرانٍ من فضة ألا وهي الكنيسة إلى فضاءٍ فسيح أي الغابة حيثُ تتواشجُ فيهِ أصواتُ المخلوقاتِ الحقيرة كالحشراتِ بوقار الطبيعةِ وهنا لاريبَ يتأتى الامتلاءُ الإيماني والتشبُّع الروحانيِّ، عدا ذلكَ فإنَّ الحشرات هي الاهتزاز الدلالي بعينهِ في النسق القصصيِّ ذلكَ أنَّها صارت تحتلُ رتبة القدَاسةِ كونُها مشاركٌ أساسيِّ في قوامةِ العمليةِ التعبديَّة بمعنى أن الحشرات هي استعارةٌ مادية للمؤمن المسيحيِّ وهو ينسحق تحتَ نعالِ القساوسة، وعليهِ فإن التملص من هذهِ التلازمية: إيمان/ كنيسة هو الأنسبُ لتجاوز التمزُّقاتِ النفسية والاختلالات الاجتماعية للمجتمعِ الإيطالي المقهور ومن ثمَّة فالانتقال إلى متراجحة وظيفية أكثر اعتدالا وهي: إيمان/ الغابة، أينَ تندسُّ تلاوين من الحرية بين تلك الثنائيةِ دون الحاجة إلى وسيطٍ متسلط المقرون بشخصية الرَّاهب أو القسيس.

مهما انتقى الناس أقذع الأوصافِ وأشنعِ الألقابِ للرجل المشاكس دون بارتللو فسموهُ بالمجنونِ تارةً وبالساحرِ المأفونِ تمامًا إلا أنَّه لم يستنكف يومًا عن إعالةِ ابنةِ دون دالجنا الوحيدة أرسيليا بالدواء والرغيفِ.

بيدَ أن المخاوف بدأت تتسلسلُ إلى الرجل المؤمنِ دون دالجنا خشيةَ أن يتهمهُ الناس بالزندقةِ والانحراف لأنَّه رضيَ لنفسهِ أن يتقبل الصَّدقاتِ والمعوناتٍ من دون بارتللو المشهور عنهُ بمصادمةِ مواثيقٍ الكنيسةٍ بأسلوبٍ هزليٍّ شيطانيِّ، فشرعَ يبكيِّ قدَّام الكنيسيةِ أملا في العفافِ من ذنوبِ صديقهِ الملحد وصحبتهِ الفاجرة وهراءِ كلماتهِ النجسةِ في سبيلِ أن يُأكِلهُ الخبز كل ليلية، فكم كانَ شقيًّا دون دالجنَا وهوَ يُوافقُ على خطايا صديقهِ بارتللو في حقِ الكنيسةِ.

ثم لا يلبثُ أن يتهجم صوتٌ معارضٌ مجهولُ المصدر يُخبرهُ بأن يؤوبَ لصديقهِ فأسيليا نسيَها القديسون، وما كانَ لها لتعيشَ وتجدَ اللُّقمةَ لولا هذَا الملحدُ الدَّنِس”[5].

وسطَ هذهِ المناوشةِ بينَ العقلِ والقلبِ ارتأى دون دالجنا تقييدَ نفسهِ بأغلالِ الكنيسةِ وتعاليمها الاستبدادية فاستجمعَ قواهُ وصادرَ وفاءهُ في سجنِ الاجحافِ ثمَّ أطلقَ على صديقهِ وابلًا من الكلماتِ الخادشةِ لسمعةِ الصَّداقةِ:

قِف. قِف. مكانَكَ باسمِ الربِّ، عد من حيثُ أتيتُ أمرتني بهذا السيِّدة العذراء”[6].

اغتاظَ بارتللو من وقاحةِ صديقهِ وهو الذي دأَبَ على انتشالِ ابنتهِ من مستنقعِ المعاناةِ والضنك بإطعامِها وسقايتِها بالدواءِ القمينِ بتخفيفِ آلامِ الدَّاءِ.

ولا مندوحة أن ينحو بارتللو مذهبًا بلاغيًّا أكثر دنَاسةً من ذي قبل لما رأى من نقضِ الجميلِ ونكثِ العطاء الجزيل من قِبلِ صديقهِ المقرَّب، فقال غاضبًا:

دون دلاجنَا الأبرص المنحوس الذي يفرُّ منهُ الناس، صار يطردنيِّ من البيتِ، أحقًا أيتها الدودة القَذرة تعضُّ اليد التي منحتكَ الخبز”[7].

الظاهر أن السيد بارتللو استنفدَ كل بدائلهِ البلاغيَّة بأورامها الوصفية الخبيثة واستعارتها المدنسة نكايةً في صديقِه الوضيعِ دون دلاجنَا المصعوقِ من صوتِ العامةِ وخطابِهم الإكراهي: لا تقترب من المجنون بارتللو وإن أطعم ابنتَكَ فهو حليفُ الشَّيطانُ ورافع لواء الإلحاد!

انفضَّت عُرى الصداقة بين الرجلينِ بسبب تعارضِ القناعاتِ الدينية بعد أن جمعتُهما المحبَّة والألفة والمداومةِ على التشارك الإنسانيِّ في الخير والعطاء خاصة مع تعزُّز الوسيط التواصلي المتمثِّل في الفتاة المقهورة والبائسة أرسيليَا.

الآن ما على دون دلاجنا إلا التمسُّح بجدرانِ الكنيسة والتسلُّحِ بعقيدةِ الإيمانِ ريثما تتهيأ الكنيسةُ لإمدادهِ بالمؤونةِ الغذائية التي تعينهُ على كفالةِ ابنتهِ المتبقية من عنقودِ العائلةِ.

بيد أنَّ اتباع قناعاتك التي أُكرهت على التدايُنِ بها لا يعني البتَّة أن تفضيِّ إلى نتائج يقينية، ففي خضمِّ صلاتهِ المحمومة رأى دون دلاجنَا السيدة العذراء تلقمُه ذهبًا وفضَّة، فلا يبرح أن يستجمع تلك الغنائمَ بيديهِ المعرقتيِّنِ حتى ملأ الكيس عن آخرهِ وخرج يُغمغمُ شاكرًا القسيس الأكبر الذي منحهُ فرصة تلكَ الخلوةِ المثمرةِ!

خرج دون دلاجنا إلى الشارع وإذا بالصبيةِ والنسوة والشيوخِ يصيحون: لص.. لص.. لقد سرق بيت العذراء.

 لقد أُشبع المسكينُ كل صنوفِ الإهاناتِ: بصق، لطم، ركل، نعوت ساقطة، ثمَّ قيدوه وأرسلوه لمخفر الشرطة.

خذَل دون دلاجنا صديقه الكريم بارتللو تحت ضغوط الجماهير وحناجرهَا التي تزيغُ مع الأقوى لا مع صاحبِ الحقِّ، فَألزمتهُ فورًا بمبارحةِ صديقه فورًا كونه حليف الشَّيطان وخصيم الكنيسةِ، لكنه لم يتوقع أن يخرج صفر اليدينِ فلا مساعدات لابنته المريضة ولا تطميناتٌ من قبل الكنيسةِ بأنَّ إيمانك لن يتشتَّت تحت سلطةِ القهرِ، ناهيكَ عن عقوبةِ السِّجن بتهمةِ سرقةِ أغراضِ الكنيسة.

تُخبرنا القصة إذن بأنَّ بلاغة المدنس هي سند استقوائيِّ يلوذ بهِ المهمشون في سبيلِ فسخِ عقود الالتزامِ الاجتماعيِّ حيثُ النفاق مذهبٌ شائع، الانقياد دون القراءةِ والتمحيص ديانةٌ قهرية، العقول مختطفة في خنادِق التيهِ والجهل.

الكاتب: د. معطى الله محمد الأمين من الجزائر


 [1] يُنظر: حامد أبوزيد، التجديد والتحريم والتأويل، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2010، ص25

 [2] ليوجي بيراندللو، قصة اللص، تر: مصطفى محمود، مجلة الغد الثقافية، العدد: 1، مايو 1953، ص 43

 [3] قصة اللص، 44

 [4] ن، ص.

 [5]  قصة اللص، ص45

 [6] المصدر نفسه ص44

 [7] المصدر نفسه ص45

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات