النموذج الأخلاقي السبينوزي
العبوديَّة، الأنانويَّة، الضرورة والحتميَّة الخاضعة لنظام الطبيعة
تقديم:
من خلال وضع مقاربة نقديَّة وتقويميَّة لكتابات سبينوزا، وما سنتطرَّق إليه بشكل مختصر جدا في هذا المقال، سنجد أنَّ الآراء في تقويم فلسفة سبينوزا قد اختلفت، فقد اعتبره البعض مثالا للملحدين؛ أي عدم اعترافه بالحريَّة والاختيار، كما ألغى الحريَّة الإنسانيَّة المتمثِّلة في أطروحته حول إرادة الإنسان المكبَّلة، وأيضا تقييمه لمفهوم الأخلاق الذي يندرج في أشكال ثلاثة فقط.
فهناك ثلاث صور للمثل العليا والحياة الأخلاقيَّة، أولها ما دعا إليه بوذا والمسيح من فضل الرحمة واللين والمحبَّة التي تدعو إلى المساواة بين الناس، وتدفع الشر بالخير وتعبير الحبّ هو الفضيلة. وثانيها ما دعا إليه مكيافيلي ونيتشه من فضائل العنف والرجولة التي تدعو إلى عدم المساواة بين الناس والتي تعتبر القوَّة هي الفضيلة. وثالثهما أخلاق سقراط وأفلاطون وأرسطو التي تنكر إمكانيَّة تطبيق النوعين الأوّلين، فهي بذلك أخلاق تعتمد على العقل، والفضيلة عندهم هي العقل، فالفضيلة في الأولى هي الحبّ والفضيلة في الثانية هي القوَّة والفضيلة في الثالثة هي العقل، ويجيء سبينوزا ويوفِّق بحركة لاشعوريَّة منه بين هذه الصور الفلسفيَّة المتنافرة والمتضاربة، ويحبكها في وحدة منسجمة، ويقدِّم لنا نظامًا أخلاقيًّا متكاملًا ومتناغمًا، أساسه وحدة الوجود.
-العبوديَّة بما هي نقص لقدرة الإنسان:
يكشف عنوان الباب الرابع بوضوح، عن تقييم باروخ سبينوزا لمثل هذه الحياة “في عبوديَّة الإنسان، أو في قوى الانفعالات“. حيث يُعرّف العبوديَّة بأنها “نقص قدرة الإنسان على كبح وتهدئة انفعالاته. والإنسان الخاضع لانفعالاته، لا يكون سَيد نفسه، بقدر ما يكون عبدًا لسلطة الحظ، ورغم أنه كثيرًا ما يرى الأفضل لنفسه، فإنَّه ينقاد نحو الأسوأ”. إنَّها كما يضيف باروخ سبينوزا” آفة في النفس” أن يعاني المرء جراء حبّه لشيء “عُرضة للكثير من التقلُّبات، والذي يَستحيل أن يمتلكه كليًّا.”
-فكرة الأنانويَّة المهيمنة:
تمثِّل القضيَّة العشرين في الجزء الرابع من (علم الأخلاق) ركيزة لهذا التأويل لفكرة الأنانويَّة المهيمنة عند سبينوزا، فنجده يقول:” بقدر ما نجد في البحث عمَّا ينفعنا أي بقدر ما نجد في حفظ كياننا وبقدر استطاعتنا عليه، نكون فضلاء، وعلى العكس، إذا أهملنا ما ينفعنا، أعني حفظ كياننا، كَّنا عاجزين”.[1]
ومن خلال هذه القضيَّة العشرين نستنتج أنه، كلما استطاع الإنسان أن يسعى جاهدًا من أجل تحقيق مصلحته الخاصة – أي أن يحافظ على كيانه – كلما وهِبتْ له فضائل أكثر. وعلى نقيض ذلك، بقدر ما يهمل الإنسان مصلحته الخاصَّة أي يهمل الحفاظ على كيانه، فسيصير عاجزًا تجاه كينونته، مغتربًا لذاته وفاقدًا لماهيته، ومستلبًا لوجوده الفعَّال. أمَّا الفضيلة فتبقى هي عين قوَّة الإنسان نفسها، والتي تحدِّدها ماهيته وحدها.
يقِرّ سبينوزا هنا على نحو بَيِّن، أنَّ الشخص قد “يهمل مصلحته الخاصَّة”، لذا تبدو هذه الفقرة متعارضة مع فكرة الأنانويَّة الأصيلة. أضف إلى ذلك، أنَّ هذه الفقرة تنصّ على أنَّ المرء فاضل بقدر سعيه إلى المثابرة في الوجود. للفضيلة دلالات ميتافيزيقيَّة في كتاب (علم الأخلاق)، فضيلة شيء ما تعني قوته في ذات الوقت. لكن لا يمكن إنكار أنَّ للمصطلح دلالات أخلاقيَّة أيضا، ولذا تشير القضيَّة العشرون وحاشية القضيَّة الرابعة والأربعون في الجزء الرابع إلى أنَّ محاولة الحفاظ على الذات عن وعي، يعتبر أمرًا صائبًا، في حين إنَّ إهمال الحفاظ على الذات يعتبر أمرًا خاطئًا.
-إشكاليَّة الخير والشر:
نظريَّة سبينوزا في الأخلاق نظريَّة نسبيَّة، وتجدر الإشارة إلى أنَّ الخير والشر يقالان بمعنىً نسبي، حتى إنَّ شيئا يقال حسنا أو قبيحا حسب الزاوية التي نعتبره منها ، فنحن نسمي خيرًا ما نعرف تمام المعرفة التامَّة أنه نافع لنا وليس مجرد تصور عقلي غير موجود واقعيًّا. وذلك يظهر جليًّا في نظرة سبينوزا الطبيعانيَّة لمفهوم الخير عندما يتحدث في الباب الرابع ” الخير ما نعلم علما يقينا أنه ينفعنا،أعني بالشر على العكس، ما نعلم علما يقينا أنه يحول دون فوزنا بخير ما “[2]
ويكون سبينوزا بذلك عالج مسألة كبرى، وهي تلك التي تخص صدور الشر في العالم والذي أرجعه إلى الإنسان في حد ذاته، والذي ينجم من سوء استعماله للعقل في كبح انفعالاته السلبيَّة التي تكون مسبِّبًا له في نقص قدرته ككائن على حفظ ذاته، أي تلك الانفعالات التي لا تساعده على الاستمرار في الوجود “فالرغبة المتولدة من العقل تجعلنا نسعى إلى الخير بصورة مباشرة، وتجنب الشر بصورة غير مباشرة”، فإذا كان العقل يمتلك فكرة واضحة عن هذه الانفعالات تصبح انفعالات إيجابيَّة.
سيادة فكرة الضرورة:
أهم طابع يُمثِّل النظريَّة الأخلاقيَّة عند اسپينوزا هو القول إن الإنسان لا يقف بمعزل عن الطبيعة وقوانينها؛ فسبينوزا قد انتقد بشدة أولئك الذين تصوروا الإنسان على أنه “يقف من الطبيعة كأنه دولة داخل الدولة، ويظنون … أنَّ له سلطانًا مطلقًا على أفعاله، فنقطة البداية الأساسيَّة في هذه النظريَّة الأخلاقيَّة هي شيئًا لا يتحكَّم فيه سوى ذاته.”[3] إنَّ الإدراك العلمي للارتباط بين الإنسان وبين الطبيعة بوجه عام؛ ومن ثم تأكيد سيادة فكرة الضرورة في مجال الإنسان بدوره، «فمن المحال ألا يكون الإنسان جزءًا من الطبيعة، أو ً أن يكون قادرا على ألا يتأثر إلا بالتغيرات التي يمكن فهمها من خلال طبيعته بوصفها العلة الكافية لها. وأهم ما استحدثه سبينوزا، نتيجةً لهذه النظرة إلى الإنسان، هو أنه نزع عن عالم الإنسان الباطن قناع الصوفيَّة والغموض الذي كان السابقون عليه يُخفونه به، وأدرجه ضمن الظواهر العلميَّة الخاضعة للبحث والتحليل، وبحثه — كما قال في مقدَّمة الباب الثالث من «علم الأخلاق» — «كما تُبحث الخطوط والمسطَّحات والأجسام». وهكذا أكَّد أنَّ الهدف من علم الأخلاق ليس الوعظ والإرشاد، وإنما هو الدراسة والبحث والفهم، فنقل بذلك الأخلاق من مجال «ما ينبغي أن يكون» إلى مجال «ما هو كائن»، وأكَّد أنَّ مهمته بوصفه باحثًا أخلاقيٍّا ليست أن يحتقر أو ينتقد، وإنما أن يفهم الطبيعة البشريَّة على ما هي عليه.
وهكذا تجاوز اسپينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي، وأنكر بالتالي «عالم الغايات» الذي تركَّزت فيه الأخلاق المثاليَّة بأسرها. وهذه الصفة الأساسيَّة تفسِّر الطابع الفريد الذي تتميَّز به الأخلاق عند اسپينوزا؛ فالأخلاق من وجهة نظر معيَّنة مستحيلة في مذهبه، وهي من وجهة نظر أخرى أساس ذلك المذهب والعنصر الجوهري فيه، ومن المستحيل تفسير هذا الازدواج الغريب، إلا من خلال الارتباط الوثيق بين موضوع الأخلاق، وهو الإنسان، وبين ضرورة الطبيعة في مجموعها الكلِّي والحتمي الذي يسير به الكون والإنسان كذلك.
الحتميَّة الخاضعة لنظام الطبيعة:
لقد شكَّلت مسألة الحريَّة موضوعا ذا أهميَّة كبيرة في المسائل الفلسفيَّة التي تعبِّر عن الوجود الإنساني، وذلك راجع لكونها كانت دائما وباستمرار مرتبطة بالفعل الوجودي الذي يمارسه الإنسان في حياته، والذي يثبت من خلاله قيمته كإنسان وكينونته كموجود باحث عن أجوبة لتساؤلاته. لقد تعددت البحوث الفلسفيَّة حول الحريَّة بدءًا من المفهوم وصولاً إلى التنظير للحريَّة على يد صاحب علم الاخلاق: باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza)، الذي حاول بناء فلسفته الأخلاقيَّة خصوصا في الباب الخامس والختامي لكتابه هذا، داخل نسق تحكمه الحتميَّة الخاضعة لنظام الطبيعة الذي يعتبر الإنسان جزءًا منه وخاضعًا هو أيضا لهذا النظام الذي يتحكَّم في تصرُّفات وانفعالات البشر الأساسيَّة. ومادامت سائر الأفعال في نظر سبينوزا تسير وفق حتميَّة ثابتة، بحيث يمكن النظر إلى الإنسان على أنَّه آلة مفكِّرة، تخضع في تصرفاتها لنظام الكون الشامل، ولا يتمتَّع بإرادة حرَّة.
إن الحريَّة إذن هي الفعل وفق الضرورة الطبيعيَّة للأشياء، والحريَّة هي فهم للآليَّات التي تسير بها الأشياء، وهي تتحقَّق في خلق انفعالات مضادَّة للانفعالات، وهذا وارد في القضيَّة السابعة من الباب الرابع ” لا يمكن كبح انفعال أو القضاء عليه، إلا بانفعال مناقض له أو أشدّ منه “[4]
خاتمة:
من خلال هذا البحث السريع الذي حاولت فيه أن أتناول بعض القضايا المهمَّة والأفكار الصلبة التي تمكِّننا من فهم نسق سبينوزا الأخلاقي، نستنتج أنَّ أخلاق سبينوزا، أقصى ما نستطيع أن نطلق عليها هي إنَّها أخلاق يونانيَّة في جوهرها مسيحيَّة في ظاهرها، وهذا يتجلى في الطرح الذي قدمه سبينوزا لمفهوم الحبّ ووظيفته الرفيعة في التغلُّب على النزعات السيِّئة كالحسد والحقد والبغض والكبرياء وتحقير الناس بعضهم لبعض وتصغيرهم لبعض، فسبينوزا لا يرى علاجًا لأمراضنا الاجتماعيَّة، إلا بالتخلَّص من هذه النزعات والمشاعر السيِّئة، ومن أجل ذلك نحتاج لتوليد الحبّ كي يفقد البغض قوّته ويذوب. إنَّ سبينوزا في هذا السياق “يعتبر أنَّ محاولة الفهم هي الأساس الأوَّل والأوحد للفضيلة ” [5].
[1] علم الأخلاق، سبينوزا، ترجمة : جلال الدين السعيد، ص 250
[2] المرجع نفسه ص 233
[3] انظر مقدمة الباب الثالث من علم الأخلاق، سبينوزا
[4] المرجع نفسه ص 239
[5] ويل ديورانت، قصة الفلسفة، ص 229
*المصدر: التنويري.