“المنظومات التربويّة العربيّة والتحدّي المعرفي؛ مداخل للنقد والاستشراف” لرشيد الجرموني
النقد
عن دار نور للنشر بدوسلدروف بألمانيا، صدر للباحث المغربي في علم الاجتماع، الدكتور رشيد جرموني؛ أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة جامعة مولاي إسماعيل بمكناس؛ كتاب جديد (ط 1 / 2017) بعنوان:” المنظومات التربويّة العربيّة والتحدّي المعرفي؛ مداخل للنقد والاستشراف”.
بدا الباحث السوسيولوجي؛ مسكونًا منذ الاستهلال بالهاجس المعرفي وهو يستعرض أبرز تحدّيات السياق الدولي والعربي الراهن، لذا صرّح بأن هذا” السياق يفرض علينا أن نتوقّف عند أهم عامل حاسم في النهوض بمجتمع المعرفة في المنطقة العربيّة، وهو المنظومة التربويّة والتعليميّة… وقفة تأمّل ونقد واستشراف للمستقبل”/ (رشيد جرموني2017 ).
لكن ما الذي دفع الباحث للربط بين المعرفة والتعليم والتنمية؟
يقول معلّلًا: ” لأن المتمعِّن في تجارب الأمم المتقدِّمة والتي حقَّقت نواتج في رصيدها العلمي والمعرفي، يخلص إلى أن التركيز على المنظومة التربوية، يشكِّل أولى الأولويات التي يمكن من خلالها بناء النموذج التنموي المنشود”.
من هنا انبرى الباحث السوسيولوجي؛ لمساءلة المنظومة التربويّة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ لكن الملاحظة التي استرعت انتباهه، تتمثّل في سيادة مفارقة غريبة وهي ازدياد الإنفاق المالي على التعليم في هذه المنطقة ولكن دون أن يحقِّق النتائج المرجوَّة.
في ضوء ما سبق؛ يؤسِّس الباحث السوسيولوجي فرضيَّة بحثه الأساسيَّة والتي تؤكِّد ” أن فشل منظومات التربية والتكوين في المنطقة العربية، ليس مردّه ضعف الامكانيات الماليّة واللوجستيكية والموارد البشرية اللازمة بقدر ما يعود إلى غياب رؤية تنمويّة واضحة المعالم والآفاق”.
يبدو الدكتور رشيد جرموني حريصًا على مقاربة الظاهرة في بعدها الشمولي العميق دون البقاء عند حدود الظاهر؛ لذا اعتبر “الفرضية تستبعد التشخيص الاختزالي لواقع المنظومات التربويّة العربيّة، والذي يقف عند حدود المؤشِّرات الرقميّة والعدديّة بدون الانتباه إلى جوهر المأزق التنموي الذي لا زالت تتخبّط فيه أغلب الدول العربية، مع التأكيد إلى أنَّ الأزمة في العمق هي: تخلف المؤسّسات التربويّة عن أداء مهماتها الرياديّة والحضاريّة الكبرى”/ (رشيد جرموني2017).
إن أزمة منظوماتنا التربويّة ليست بسيطة في نظر الباحث السوسيولوجي؛ حيث يقول:”وقد أكدنا الطابع المركّب لأزمة المنظومات التربويّة في المنطقة الشرق أوسطيّة، وهي التي حدّدناها في ثلاثة عناصر: أزمة انطلاق، وأزمة اشتغال، وأزمة مآل وسيرورة”.
وقد سعى الباحث لمناقشة هذه الفرضيّة من خلال تحليل أربعة عناصر أساسيّة، التشخيص والتداعيات والأسباب ومداخل الإصلاح. في ظل تصوره الذي ينطلق من الطابع المركّب لأزمة المنظومات التربويّة في البلاد العربيّة، وهي التي يقول الباحث: ” حدّدناها في ثلاثة عناصر: أزمة انطلاق، وأزمة اشتغال، وأزمة مآل وسيرورة.
ففيما يخصّ العنصر الأوَّل في هذه المقاربة، فقد وقف فيه الدكتور رشيد جرموني ” عند أهم المظاهر التشخيصية لواقع المنظومات التربويَّة في الوطن العربي، كفشل هذه المنظومات في تحقيق تعميم للتمدرس في كافة المستويات، وكذا في لا تكافؤ الفرص بين المتعلمين، ممّا يؤدّي إلى نوع من الهدر التنموي الكبير، هذا بالإضافة إلى ضعف المعارف الأساسيّة المقدّمة في مؤسّسات التربية والتكوين، للمتعلمين حسب التقويمات الدولية العالمية في هذا الصدد. علاوة على هشاشة الحكامة التربويّة في أغلب النماذج التربويّة العربيّة”.
أمّا فيما يتعلّق بالعنصر الثاني؛ أي التداعيات، فيتكوّن من إبراز تجليات أزمة هذه المنظومات، وقد رصدها الباحث جرموني من خلال عنصرين أساسيين: ” وجود “أزمة” قيميّة كبيرة بدأت تنخر – ليس فقط مختلف حوامل المؤسّسات التربويّة- بل العنصر البشري وهم المدرّسون والمربّون والباحثون العاملون في هذه المؤسّسات، وثانيهما التصحّر المعرفي الذي ضرب منطقة العالم العربي، ممّا ينذر بوجود نزيف حقيقي لواقع – ليس فقط للمؤسّسات التربويّة- بل يتعدّاه ليشمل واقع ومستقبل التحدّي المعرفي بالمنطقة العربيّة”/ (رشيد جرموني2017 ).
ومن أجل بيان العوامل المفسّرة لتردّي واقع المنظومات التربويّة العربيّة، لجأ الباحث السوسيولوجي إلى تخصيص العنصر الثالث لإبراز بعض من هذه العوامل والتي يمكن إجمالها بحسبه ” في ثلاثة عناصر: العوامل السوسيوسياسيّة، والعوامل السوسيوثقافيّة، وأخيرا العوامل السوسيوتنمويّة”/(رشيد جرموني2017 ).
وقد صرّح رشيد جرموني أنه توسل بـــ”منهج نقدي، لا يقف عند لحظة التشخيص لحال المنظومات التعليميّة، بقدر ما يسعى إلى تجاوزها إلى لحظة التفكير في اجتراح الحلول أو المداخل الممكنة لتجاوز مشهد التدهور”.
وفي الختام بسط الباحث رشيد جرموني ما سمّاه آفاقًا للتحاور والنقاش والاستشراف، ومن خلالها، قدّم مجموعة من البدائل والحلول تتلخّص في الآتي:
— استنبات التنمية من الداخل وبالاعتماد على الكفاءات والقدرات والإمكانات الذاتية للبلدان العربية.
– النظر في المستقبل بنوع من التبصّر العقلاني والحكامة التربويّة العالية وبنوع من التملّك الجيّد لمفاتيح العلم في المستقبل.
– ترسيخ المجتمع الديموقراطي والالتفاف حول المشروع المجتمعي المتكامل والهادف والمنسجم مع خصوصيّات المجتمع.
– إيلاء الأهميّة القصوى لمنظومات التربية والتكوين والبحث العلمي، وترسيخ مجتمع المعرفة، بالتفكير في إنتاج المعرفة.
– التفكير في إطلاق ورش الابتكار والاختراع والمنافسة العلميّة في المنظومات التربويّة بالمنطقة.
– بلورة مشروع تنموي مجتمعي شامل ومتوافق بشأنه؛لأنه هو الأجدر على الإجابة عن أسئلة محرقة وحارقة : ماذا نريد بالمنظومة التربوية؟
ختاما، إن كتاب الدكتور رشيد جرموني يعتبر إضافة نوعيّة، فضلا عن تمتّعه براهنيّة سياقيّة قويّة ومعبّرة، فهو ذو قيمة معرفيّة وعلميّة كبيرة، ستغني لا شك المكتبة العربيّة في هذا الموضوع.
ولعل الأهم في مقاربة الباحث جرموني، هو المنهج العلمي النقدي والمقارن المعتمد في التوصيف والتشخيص والتحليل والتعليل؛ لا سيما والباحث ذو خلفية سوسيولوجية؛ حيث سحب أدوات المنهج بتبصّر إجرائي حاول جاهدًا النأي عن الشطط والتأويل المتعسِّف وقول ما لا تقوله الخطابات الرسميَّة؛ فضلا عن الواقع الذي يحبل بالإشكالات التي شخّصها بدقة خاصة.
إن القيمة العلميّة والعمليّة لهذا المنجز، تتجسَّد أيضا في خلفيته البيبليوغرافيّة المتنوّعة والغنية؛ والتي جعلت الباحث يؤثر الإنصات للنظريات العلميّة ذات الصلة بقضيّة التعليم والتنمية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
كما أن انفتاح قدرته الاقتراحيّة على الاجتهادات المتعدِّدة، واستبعاد إعمال الرأي الفردي؛ أهّلاه لتقديم خلاصات واستنتاجات وحلول تتمتّع بنوع كبير من المصداقيّة العلميّة والقابليّة للتعديل والتطوير والمطارحة.
وسيظل هذا الجهد مساهمة لا غنى لمنطقتنا العربيّة والافريقيّة عنها لا سيما في ظلّ استمرار البحث عن خلاص لمآلات الإنفاق المتزايد على التربية والتكوين دون الوقوف على الآثار الإيجابيّة المخطّط لها من لدن الخبراء والمدبّيرين السياسيّين والاقتصاديين.
___________
*أستاذ باحث، رئيس المركز المغربي للأبحاث مآلات
*المصدر: التنويري.