المسلمون والمدنيَّة.. التعايش الصعب
مولاي محمد اسماعيلي
من الأسئلة العالقة التي شكلت إزعاجاً كبيراً للعقل الإسلامي في العقود الأخيرة هي كيف بإمكانه أن يتعايش مع التطور الذي يشهده العالم في كل جوانب الحياة المختلفة، كيف يمكن للإنسان المسلم أن يلتزم بدينه في ظل “المغريات” الجديدة التي تتكاثر أمام عينيه في كل يوم؟ كانت هذه الأسئلة وغيرها مؤرقة للعقل المسلم وللعلماء المسلمين على مدى عقود من الزمن، وكانت محط استفسارات لا تنتهي من طرف الناس، يطلبون فتوى من هذا “الشيخ” أو ذاك، يستفسرونه عن جواز استعمال تقنية جديدة جاد بها العلم في الغرب أو في الشرق، أو لدى هذه الدولة أو تلك، فلم يكن أمام عدد كبير من “الشيوخ” إلا أن أفتوا بعدم جواز استعمال هذه الأشياء الجديدة، وعدم مسايرة الجديد في التقنية والتطور التكنولوجي بدعوى أنه يخالف بشكلٍ صريح الدين الإسلامي وتشريعاته التي ظهرت لهم أنها تتنافى مع هذه الأشياء الجديدة التي لم يكن لهم عهد بها من قبل.
لقد قام عدد من علماء المسلمين في بداية القرن الماضي بتأليف كتب بكاملها من أجل إثبات عدم جواز استعمال تقنية جديدة، أو آلة تم صنعها حديثاً، وذلك لأسباب عديدة وتختلف من عالم إلى آخر، وحسب رؤيته للموضوع واستنتاجاته حول ما يراه أمامه، فمن قائل بأن الآلة الفلانية فيها تشبه بالحيوانات وهي إذن من تندرج ضمن التصوير المحرم الذي نهى عنه الإسلام حسب زعمه، ومن قائل بأن هذه الأشياء تعتبر من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن قائل بأن الأمر هو من صنع الكفار، ولا يجوز استعماله أو الاستفادة منه ما دام أنه صنع من طرف أيد نجسة ومن قبل أناس لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، حتى أن بعضهم ذهب أبعد من ذلك بكثير حين اعتبر أن التطور العمراني الذيي يشهده العالم، هو من علامات الساعة التي ستعجل بقيام الساعة ونهاية العالم، فأي عقل هذا الذي يعتبر التقدم والتطور وتحسين ظروف العيش والحياة من علامات الساعة؟
نفس العقل المريض الذي يعتبر المدنية سبب كل الشرور، ما زال يسيطر على عدد كبير من فئات المجتمع الإسلامي في عصرنا الراهن، ما زال يسيطر على عدد كبير من فئات المجتمع الإسلامي في عصرنا الراهن، فلا يزال هناك من يعتبر ان التطور البشري والتقني الذي يشهده العالم مجرد كذبة بوح، لا يجب تصديقها والإيمان بها، لأنها ستزول وسيعود الإنسان إلى البدايات الأولى حين كان يستعمل الوسائل الطبيعية غير المصنعة في حياته، وخير مثال على ذلك ما نراه كل يوم على شاشات القنوات الفضائية الدينية العربية، حيث لا يمر وقت إلا ونسمع الشيخ الفلاني أو الشيخ العلاني يسب المدنية وينتقد التطور الذي وصل إليه الإنسان، وينزل بوابل من الشتائم على الغرب وتقنيته المتطورة التي يصفها عدد من هؤلاء “الشيوخ” بالفتنة التي فتن الله بها المسلمين ليختبر بها إيمانهم يومياً، وللأسف نسي هؤلاء وأمثالهم أن هذه القنوات الفضائية التي يتحدثون من خلالها إلى الناس، كانت إلى الأمس القريب محرم النظر إليها، وقد قال بعضهم عن من أدخل شاشة التلفزة إلى بيته كمن أدخل شيطاناً إلى بيتهن ولأن الأمور لا تقاس وفق هذه المعايير فقد تنازلوا عن القول بحرمة شاشة التلفزة، واقتصروا التحريم على القنوات الفضائية الغنائية والماجنة، كما يسمونها، ونسوا أن من صنع كل هذه التقنيات التي تشتغل بها التلفزيونات عبر كل بقاع العالم أناس حسب تصنيفهم هم من الكفار الذين لا يجب أن يتعامل معهم الإنسان المسلم أو يقتني بضاعتهم.
المتتبع لتاريخ الفتوى المعاصرة لدى علماء الإسلام المعاصرين، يجد أن هناك تراجعاً كبيراً بين فتاوى صدرت في بداية القرن الماضي، وفتاوى صدرت في الوقت الحالي حول موضوع واحد، فقد عرف تاريخ الفتوى لدى المسلمين تحريم ركوب السيارة والطائرة والقطار وغيرها من وسائل النقل، ولم يحللوها إلا بعد أن جاءت الفتوى التي تعتبر هذه الوسائل في خانة الدواب التي يجوز استعمالها، وإلى الآن ما زالت تزخر المكتبة الإسلامية في الخليج وشمال إفريقيا وغيرها من المناطق في العالم الإسلامي بكتبٍ ضخمة، كان همها الأول هو الرد على من يجيزون أي شيء جديد يجود به العلم البشري، ولا يألون جهداً في تقديم الأدلة والشروحات والتفسيرات والشواهد التي تؤكد كلامهم.
هناك من رجال الدين المسلمين في زمننا الحاضر، من يعتقد في قرارة نفسه بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض وإن الإنسان لم يصل يوماً إلى سطح القمر، وأن هذه الأمور مجرد أكاذيب يروجها العلمانيون واللادينيون للنيل من رسالة الإسلام، تكذيب ما جاء به القرآن من حقائق علمية، وطرف آخر يُتقن فقط امراً واحداً وهو القول بإن كل ما يصل إليه الغرب من إنجازات واكتشافات علمية موجود لدينا في القرآن منذ أربعة عشر قرناً، بل ويفتخر في ترديد هذا الخطاب الانهزامي السلبي الذي يعتقد أن الفضل له، بل هو في الحقيقة لمن تعب واجتهد حتى وصل إلى تلك الحقيقة العلمية، ولتكن حينها في القرآن أو في الإنجيل، فلا ضير أن تكون في كل الكتب إذا كان الإنسان الذي هو مركز هذا الكون وخليفة الله في أرضه سيستفيد منها وستساعده على تحقيق الاستخلاف وتطويع هذا العالم من أجل جعله أكثر رخاءً وازدهاراً، وأفضل لعيش كريم لكل بني البشر مهما كانوا.
منح الله تعالى هذا الإنسان عقلا يفكر به، ليساعده على اكتشاف أسرار هذا العالم واستكشاف خباياه، ولأن المسلمين خذلوا هذا العقل ولم يقوموا باستخدامه واستثماره على أحسن وجه، فإن الآخرين آمنوا به واستعملوه بطريقة جيدة، فوصلوا إلى حقائق علمية كان الأولى أن يصل إليها المسلمون ما دام كتابهم القرآن الكريم يأمرهم في كل وقت وحين باستعمال العقل والتدبر والتفكر، ولكن للأسف هم أصروا على وضع هذا العقل في الثلاجة وعدم استعماله، وعندما يصدمهم الآخرون بشيء جديد أو يبدعون شيئاً مفيداً للإنسانية بدون استثناء، تتحرك فيهم نزع المقاومة الشرسة لهذه الأشياء الجديدة، ولا يتقبلونها إلا بعد مرور وقت طويل.
المدنية هي اجتهاد إنساني لا مجال فيه للتصنيفات العصبية والدينية، وكلما وصل الإنسان مهما كانت ديانته أو قبيلته أو جنسه أو عرقه، إلى اكتشاف علمي وإبداع عمراني يجب على الآخرين أن يتقبلوه ويقبلوا عليه لأنه في الأخير يندرج ضمن مصلحتهم جميعاً، وسيستفيدون منه مهما اختلفوا في الانتماءات والديانات، فحال الإنسان لم يتحسن إلا بعد أن راكم إنجازات علمية ضخمة في كل المجالات بدءاً بالطب والتقنية والتكنولوجيا الحديثة، مروراً بالصناعة ووسائل النقل، وصولاً إلى العمران والبنيات التحتية التي جعلت حياة الإنسان اكثر يسراً وسهولة وأكثر تواصلاً، فالمدنية والتطور الذي يشهده العالم أفاد الإنسان كثيراً (في نظري) من أجل التعرف أكثر على الله تعالى مبدع هذا الكون وخالق كل شيء، فكلما تطور الإنسان إلا وتيقن بأن نظام هذا العالم صنعه مبدع عظيم هو الله تعالى، ولأن الله تعالى جعلنا خلائف له في الأرض، فجميل أن يرانا مبدعين خلاقين في هذه الأرض، كما لا يستقيم أن يرانا مفسدين في الأرض كما ذكر في الكتاب العزيز، وهو للأسف الشق المظلم في المدنية، حيث استغلها بعض الناس من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية على حساب المصالح العامة للجميع، فأهلكوا الحرث والنسل، وأتوا على الأخضر واليابس، فظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، فأذاقنا الله تعالى بأس بعض الذي عملنا.
روح الإسلام تتماشى مع المدنية النقية التي تضع مصلحة الإنسان فوق أي اعتبار، فلا تناقض بينهما، وقد حان الوقت ليقطع المسلمون مع حالة الشك الدائم والمستمر الذي يتعاملون به مع أي شيء تجود به المدنية المعاصرة، فتضيع أزمنة بحالها في نقاش أمور تافهة يثبت التاريخ والزمن أنها واهية، وقد آن الأوان لكي يخرج المسلمون من حالة التنافي والتناقض التي يعيشونها بشيوخهم ومريديهم، بين إقبال فعلي على المدنية وعيشها بكل تفاصيلها، وخطاب لا يمل ولا يكل في انتقاد هذه المدنية والنيل منها في كل المنابر، أليس عيباً أن يشد شيخ الرحال إلى بلدة من البلدات لكي يقدم فيها للناس درساً دينياً عن الزهد في الدنيا (وكيف كان الرسول والصحابة زاهدين في الحياة) وهو يركب أفخم أنواع السيارات ويلبس في يده اليمنى ساعة تقدر بآلاف الدولارات، ويتكلم مع الناس في هواتف خلوية قد تكون أذكى منه، وفي الأخير يلعن المدنية والتقدم الذي جاءت به، ويشتكي إلى الله الغرب الكافر ومن يسانده من بني جلدته من المسلمين على ما جاؤوا به من فتنة للمسلمين من هواتف وإنترنت وتطور، فأي تناقض هذا وأي فكر يقبل على نفسه أن يعيش هذه المفارقة وهو يحس بالتوازن والاطمئنان؟