المخاطر المحتملة لروبوتات الدردشة الدينيَّة
هناك زعم بأنَّ النماذج اللغوية الكبيرة Large Language Models (LLMs) المدربة على النصوص الدينية يمكن أن تكون سبيلاً للهداية والرشد وقتما طُلب منها، فما المخاطر المحتملة لذلك؟
*بقلم: ويب رايت/ ترجمة: سعودي صادق.
قبل وقت قصير من منتصف ليل أول أيام شهر رمضان المبارك من العام 1445 هجرية/2023 ميلادية، أعلن ريحان خان (وهو طالب مسلم يبلغ من العمر 20 عامًا ومقيم في مدينة كولكاتا الهندية)، في منشور على منصة LinkedIn، عن إطلاق روبوت دردشة باسم QuranGPT، وهو روبوت يعتمد على الذكاء الاصطناعي طوَّره خان ليجيب عن أسئلة ويقدم نصائح مستقاة من القرآن الكريم. خَلُدَ خان بعد ذلك للنوم لمدة سبع ساعات استيقظ بعدها ليتفاجأ بأن الروبوت قد توقف عن العمل جَرَّاء التدفق الهائل للزوار عليه. وقد استتبع ذلك كثيرًا من التعليقات التي جاء بعضها إيجابياً وبعضها سلبياً، في حين جاء بعضها الآخر بصيغة تهديدات مباشرة.
شَعُرَ خان في البداية بأنه تحت ضغط جعله يفكر في أن يُوقِفَ عمل الروبوت، لكنه عَدَلَ عن رأيه أخيراً وقرر ترك الروبوت يعمل؛ إذ يعتقد خان أن الذكاء الاصطناعي بمقدوره أن يكون جسراً يَصِلُ عَبْرَه الناسُ إلى إجابات بشأن أسئلتهم الدينية الجوهرية، وهو فهم يُعَبِّر عنه بقوله “هناك أناس يسعون إلى أن يكونوا أكثر ارتباطًا بدينهم لكن ليس لديهم استعداد لقضاء وقت طويل للتعرف على هذا الدين، فماذا يضيرني لو استطعتُ أن أساعدهم لتحقيق هدفهم بسهولة من خلال أحد الأوامر أو المُلَقِّمات؟” .
لقد استخدم روبوت QuranGPT حتى الآن ما يربو على 230 ألف فرد حول العالم، وهو واحد فقط من قائمة طويلة من الروبوتات المدربة على النصوص الدينية التي ظهرت مؤخراً، من بينها روبوت الكتاب المقدس Bible.Ai، وروبوت كتب الديانة الهندوسيةGita GPT، وروبوت الديانة البوذية Buddhabot، وروبوت الرسول بولس Apostle Paul AI – وهو روبوت دردشة مدرب على محاكاة عالم اللاهوت الألماني الذي عاش في القرن السادس عشر مارتن لوثر – وروبوت مدرب على أعمال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس وروبوت آخر مدرب على محاكاة كاهنة دلفي Delphi Oracle وهي راعية معبد أبولو.
على مدى آلاف السنين، قضى أتباع الديانات المختلفة أوقاتاً طويلة وربما حيواتهم كاملة في دراسة النصوص الدينية سعياً لفهم أكثر أسرار الوجود الإنساني تعقيداً مثل مصير الروح بعد الموت.ومع أنَّ مطورو هذه الروبوتات لا يتوقعون أن تطرح النماذجُ اللغوية الكبيرة حلاً للألغاز اللاهوتية القديمة، إلا أنهم يعتقدون أنه يمكن لهذه الروبوتات – من الناحية النظرية – أن تقدم إرشادات دينية في ثوان معدودة؛ مما يوفر الوقت والجهد على المستخدمين، ومردُ اعتقادهم هذا إيمانُهم بقدرة هذه الروبوتات على تمييز الأنماط اللغوية المعقدة ضمن أعداد هائلة من النصوص وتقديم استجابات على الأوامر أو الملقمات التي يطرحها المستخدمون بلغة تشبه لغة البشر (وهي ميزة تسمى معالجة اللغة الطبيعية، أو NLP).
ومع ذلك، يُعَبِّرُ العديد من اللاهوتيين عن تحفظات كبيرة فيما يتعلق بدمج النماذج اللغوية الكبيرة مع الدين، فها هي إيليا ديليو، أستاذة اللاهوت في جامعة فيلانوفا ]الكاثوليكية بالولايات المتحدة[ ومؤلفة عدة كتب عن التداخل بين الدين والعلم، تصف روبوتات الدردشة هذه بنوع من الاستخفاف بأنها “طرق سريعة إلى الرب” لأنها تعتقد أنها تقلل من الإفادة الروحية التي طالما حصَّلها الفرد بالطرق التقليدية من خلال طول الإقبال على النصوص الدينية. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد بعض خبراء الذكاء الاصطناعي من العلمانيين أنَّ استخدام النماذج اللغوية الكبيرة لتفسير النصوص الدينية إنما يعتمد على سوء فهم جوهري وربما خطير لهذه التكنولوجيا. ولكن، وعلى الرغم من هذه المخاوف، يتزايد استخدام المجتمعات المتدينة للعديد من أنواع وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المختلفة.
لقد أدى الذكاء الاصطناعي فيما أدَّى إلى سرعة ترجمة نصوص الكتاب المقدس، وهي العملية التي كانت تتم ببطء شديد وتتطلب جهداً جهيداً. فعلى سبيل المثال، تطلبت ترجمة المصادر القديمة التي شكلت ما عُرف باسم الكتاب المقدس للملك جيمس King James Bible، الذي نُشر لأول مرة عام 1611، تطلبت سبعَ سنوات وفريقاً من العلماء المتفانين. أما الآن، فإن النماذج اللغوية الكبيرة تُسَرِّع من ترجمة نصوص الكتاب المقدس؛ مما يسمح للعلماء بتوسيع الدوائر التي تصلها هذه الترجمة. ومن أمثلة أدوات الذكاء الاصطناعي في ترجمة نصوص الكتاب المقدس أداة اسمها Paratext وهي أداة تستخدم معالجة اللغة الطبيعية لترجمة المصطلحات المعقدة من الكتاب المقدس، مثل “التكفير عن خطايا البشر atonement ” أو “التطهير sanctification “، لإنشاء ما تسميه “الترجمات الأمينة للنصوص الدينية”. بالإضافة إلى ذلك، أطلق علماء الكومبيوتر بجامعة جنوب كاليفورنيا العام الماضي مشروعَ الغرفة اليونانية، وهو مشروع يهدف للمساعدة في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات التي لا يتوافر بها إلا عدد قليل من النصوص المكتوبة، هذا إن وُجِدَتْ من الأساس، من خلال استخدام واجهة روبوت يعمل بالذكاء الاصطناعي.
تُسْتَخْدَمُ النماذجُ اللغويةُ الكبيرةُ أيضًا في دراسة الاختلافات اللغوية بين ترجمات الكتاب المقدس. ففي ورقة بحثية مطبوعة تم تحميلها على موقع arXiv.com في وقت سابق من هذا العام، دَرَسَ فريق من الباحثين من عدة دول تحليلَ المشاعر (وهي عملية تدعم معالجة اللغة الطبيعية لاكتشاف التكافؤ العاطفي في النصوص) لتحليل موعظة يسوع على الجبل، وهي أحد أشهر نصوص العهد الجديد (“طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ…” مَتَّى 5: 5). وبعد تحليل خمس ترجمات مختلفة لهذه العظة، بما في ذلك الكتاب المقدس للملك جيمس، “وجد الباحثون اختلافات كبيرة في المفردات المستخدمة في الترجمات”، كما “اكتشفوا مستويات متباينة من الفكاهة والتفاؤل والتعاطف في الإصحاحات التي استخدمها يسوع للتبشير برسالته”.
هل للذكاء الاصطناعي القدرة على تجديد اللاهوت أو دراسة الدين؟ يشير عالم الكمبيوتر مارك جريفز، وهو مدير منظمة الذكاء الاصطناعي والإيمان غير الربحية التي تركز على التعامل مع المعضلات الأخلاقية للذكاء الاصطناع، يشير إلى أنه يمكن افتراضياً استخدام النماذج اللغوية الكبيرة لتحدي العقيدة الدينية التقليدية الراسخة، موضحًا هذا بقوله “إن اللاهوت لم يشهد تجديدًا يُذكر لقرابة 800 سنة، ويمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يساهم في هذا التحول نحو التجديد المنشود بعيدًا عن التفكير التقليدي… وخلق أفكار جديدة.”
وللتدليل على ما يطرحه، يقترح جريفز تصور سيناريو يتم فيه تدريب أحد روبوتات الدردشة على أعمال القديس أوغسطين (354-430 م) بينما يتم تدريب روبوت آخر على أعمال الراهب الفيلسوف توما الأكويني (حوالي 1225-1274م). ويزعم جريفز أن علماء اللاهوت يمكنهم – حال تحقق هذا التصور – أن يجعلوا هذين العالِمَيْن باللاهوت اللذان عاشا في أزمنة مختلفة أنْ “يتحاورا”، مما قد يُفْضِي إلى مناقشات ثاقبة حول موضوعات عدة مثل مفهوم الشر. يُشَبِّه جريفز الآليات العشوائية المتأصلة في النماذج اللغوية الكبيرة “بطالب مبتدئ أو حتى طفل صغير [يطرح] سؤالاً قد يؤدي لطريقة جديدة للتفكير في شيء ما”.
من ناحية أخرى، يبدو المتخصصون الآخرون في الذكاء الاصطناعي حذرين بشكل واضح. فيحذر توماس أرنولد، الباحث الزائر المتخصص في أخلاقيات التكنولوجيا بجامعة تافتس الأمريكية والحاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الدينية من جامعة هارفارد، من إغراء استخدام روبوتات الدردشة لكسب المال أو التشهير أو جذب الانتباه من خلال الزعم بأن لهذه الروبوتات قدرة على كشف المعارف الإلهية.
ووفقًا لنورين هيرزفيلد، أستاذة اللاهوت وعلوم الكمبيوتر في جامعة سانت جون في مينيسوتا، فإنه “من المتوقع أن يكون لروبوتات الدردشة المدربة على النصوص الدينية عيوب مماثلة للنماذج اللغوية الكبيرة الأخرى، وأهمها هو الميل إلى توليد معلومات غير دقيقة أو ما يُعرف بالهلوسة hallucination؛ إذ قد تختلق روبوتات الدردشة هذه أشياء لا وجود لها. وإذا تَصَوَّر الأفراد أن هذه الاختلاقات موجودة بالفعل في القرآن الكريم أو العهد الجديد، فقد يقعون في ضلال كبير.”
كما يُعْرِبُ ماكس ماريون، وهو مهندس التعلم الآلي الذي يعمل على تحسين أداء النماذج اللغوية الكبيرة في شركة الذكاء الاصطناعي MosaicML، عن قلقه من أن هوليوود قد شكلت تصورًا مضللًا عن الذكاء الاصطناعي حيث أوحت للناس بأنه لا يكذب أبداً (مثلما في شخصية هال 9000 في فيلم “2001: ملحمة الفضاء” لصانع الأفلام الأمريكي ستانلي كوبريك). توضح ماريون أن النماذج اللغوية الكبيرة مبرمجة على ترتيب الكلمات ترتيباً بالغ المنطقية من الناحية الإحصائية، دون أي اعتبار لما نُسَمِّيه الحقيقة.
أما بيث سينجلر، عالمة الأنثروبولوجيا ذات الخبرة في مجال الذكاء الاصطناعي وأستاذ مساعد الديانات الرقمية بجامعة زيوريخ بسويسرا، فتشرح طبيعة عمل روبوت الدردشة وتصفه بأنه “يعمل بشكل أساسي كآلة ارتباط؛ إذ يأخذ متن [النص]، ويعيد مزج الكلمات، ومن ثمَّ يرتبها بناءً على احتمالية تتابع الكلمات… أي أن عمل الروبوت يختلف عن فهم وتوضيح العقيدة.”
وفي الحقيقة، يتفاقم خطر توليد المعلومات غير الدقيقة في هذا السياق بسبب طبيعة الأسئلة التي يُحْتَمَل أن تتلقاها برامج الدردشة ذات التوجه الديني، وهي أسئلة قد يشعر الفرد بعدم الارتياح أو الخجل من طرحها على كاهن أو إمام أو حاخام أو حتى أحد المقربين. فعلي سبيل المثال، أثناء تحديث روبوت QuranGPT العام الماضي، ألقى خان نظرة سريعة على استفسارات المستخدمين، والتي عادة ما لا يراها كمبرمج، ليجد أن أحد الأشخاص قد طرح هذا السؤال على الروبوت: “اكتشفتُ أن زوجتي تخونني، فماذا يجب أن أفعل؟“
إضافة للسؤال
“هل يجوز أن أضرب زوجتي؟“
الذي طرحه مستخدم آخر بطريقة تبعث على مزيد من القلق.
لقد وجد خان استجابات النظام الذي صممه مُرْضِيَة (حيث حَثَّ الروبوت على الحوار واللاعنف في كلتا الحالتين)، غير أنَّ التجربة أكدت على الجدية الأخلاقية لمشروعه. وفي مقابل تلك الاستجابات الحصيفة، قدمت روبوتات دردشة أخرى إجابات مؤسفة، فقد وُثِّقَت بعض الحالات التي أيد فيها روبوت الديانة الهندوسية Gita GPT القتلَ مؤيداً ذلك باقتباسات من كتاب الهندوسية المعروف بالبهاغافاد غيتا Bhagavad Gita، إذ يزعم هذا الروبوت أن قتل شخص ما أمرٌ مقبول طالما أنه تمَّ من أجل حماية “دارما” dharma أو الواجب الأخلاقي للفرد. وربما لهذا السبب، ينصح سينجلر من يطلبون المشورة من روبوتات الدردشة الدينية بممارسة ما يُسمَّى بـ “تأويل الشك”، ويُقْصَد به – في هذا السياق – التعامل مع الإجابات التي تقدمها هذه الروبوتات بحذر. فإذا لم يكن البشر معصومين من الخطأ في تفسير الكلمات بطرق مختلفة – كما كانوا دائماً – فمن المستبعد أن تكون هذه الآلات اليوم معصومة من الخطأ.
__________
المقالة نشرتها المجلة الأمريكية الشهيرة Scientific American في شهر أبريل الماضي، ومتاحة على هذا الرابط:https://www.scientificamerican.com/article/the-god-chatbots-changing-religious-inquiry
*المصدر: التنويري.