صدر عن معهد الشارقة للتراث كتاب تحليلي وتوثيقي يؤرِّخ لحركة التدوين التاريخي في موريتانيا، وهو بعنوان (المؤرِّخون الشناقطة وكتابة التاريخ) من تأليف الدكتور مني بونعامة. الكتاب كاشف ومحلّل بعمق لتاريخ شنقيط، وهو بهذا محاولة غير مسبوقة بمنهجيَّة نحتاج إليها بشدة في ظلّ ندرة ما يكتب برصانة علميَّة عن بلاد اشتهرت بالعلم والعلماء والرحلة في طلب العلم.
وشنقيط مدينة من مدن أدرار شمال غرب موريتانيا تأسست عام 660 هجيرة/ 1261 ميلاديَّة، كلمة شنقيط تعني عين الخيل، وصارت من شهرتها تطلق على كامل التراب الموريتاني، ويرجع الدكتور مني بونعامة في كتابة سبب عدم تصدُّر كتابة التاريخ إنتاج الرعيل الأول في موريتانيا إلى عدَّة أسباب منها الواقع الذي نشأ المؤرِّخ الموريتاني في كنفه وما كان يتخطّفه من أهوال ومخاوف، في بيئة كانت مرتعا خصبا للصراعات والحروب، لذلك ظلَّت فكرة التاريخ غائبة حينا من الدهر، وقد انحصر التدوين التاريخي في بداياته الأولى في السيرة والأنساب العربيَّة، دون أنيلامس جوانب من التاريخ المحلي، ثم حوى لاحقًا نتفًا من تاريخ البلاد السياسي والفكري والثقافي والاقتصادي مبتورا ومختصرا ضمن الحوليات التاريخيَّة، ثم أخذ التدوين التاريخي يظهر ضمن الحوليات التاريخيَّة في القرن 12 الهجري وما بعده ليركز على الأنساب والمناقب والتراجم وحوادث السنين.
إنَّ أهم ملمح استطاع المؤلف التركيز عليه والانطلاق منه إلى موضوع كتابة هو ظهور التأليف المحلي فهو يرى أن أشتغال الشناقطة بالعلوم الدينيَّة وما يتصل بها من معارف أدى بهم لاحقا بعد أن استوعبوا مضامينها ونهلوا من معينها، إلى محاولة الإسهام في شرح تلك العلوم وتوضيح مبهم وتبيين مجملها، فكان ذلك إيذانا ببداية حركة التأليف في موريتانيا، والتي يرجع الباحثون نشأتها إلى القرن 10 الهجري / 16 الميلادي، ويذكر المؤلف أن أقدم مؤلف شنقيطي معروف في الفقه هو كتاب ( موهوب الجليل في شرح مختصر خليل ) لمؤلفه محمد بن أحمد الواداني ويعود تاريخ تأليفه إلي القرن 16 م، وفي النحو ( شرح الأجروميَّة ) لمؤلفه أند عبد الله بن سيد أحمد المحجوبي، ثم ازدادت المؤلفات وذاع صيتها حتى شملت حركة التأليف سائر الفنون علي تفاوت بينها، وقد كان النحو والعلوم اللغويَّة من أوائل المعارف التي تم الانكباب على دراستها والتأليف فيها إلى جانب العلوم الدينيَّة، ويذكر مني بونعامة أن حركة التدوين عرفت تطورا مهما في القرن 19 م، وبدايَّة القرن 20 م، برزت ملامح ذلك بشكل جلي في ما تم إنتاجه وتأليفه من مصنفات شملت سائر العلوم، كما وكيفا، وعكست حجم المستوي الفكري والثقافي الذي وصل إليه العلماء الشناقطة في تلك المرحلة.
ويبرز مني بونعامة سببا مهما لغيات التأليف في التاريخ بشنقيط وهو غياب الوعي التاريخي المحفز على تدوين التاريخ وتسجيل أحداثه ووقائعه في كتاب جامع ضنا بها على الضياع والاندثار، ثم يبرز تطور التاريخ وأهميته في كتابات المؤرخين الشناقطة حينما أدركوا أهميتة فيذكر أن ابن انبوجة العلوي في كتابة الموسوم: (فتح الرب الغفور في تواريخ الدهور ) يذكر ما يلي: (اعلم أن العلماء أجمعوا على أن التاريخ من مفيدات الأنام، وجاهله يخالف الصواب، ويعد إذا خالف مرة كذاب، لا يقبل له قول في كتاب).
يذكر المؤلف أنَّ أقدم نص تاريخي شنقيطي يعود للقرن 18 م وهو ديوان الأنساب لاحمد بن الحاج عبد الله الرقادي، وليذكر أن التدوين التاريخي في شنقيط عرف طفرة كبيرة خلال القرن 13 الهجري، فظهرت مجموعة من النصوص الحوليَّة والأنساب والتراجم والمناقب ذات خصائص وصفات فارقه، لنجده يختص المؤرخ محمد اليدالي مؤرخ السير والمناقب بفصل كامل بوصفه واحدا من ألمع المؤرخين الموريتانيين وأولهم ظهورا وأكثرهم تراثا وحضورا، ويرى أن هدفه من كتابة التاريخ هو إصلاح واقع موريتانيا وإحياء ما اندرس من العلوم والمعارف في زمانه، ثم يعرض ويحلل الدكتور مني بونعامه مؤلفات المؤرخ التراجمي الطالب محمد البرتلي، خاصة أن عددًا من العوامل في رأيه تضافرت أدت إلى إذكاء الوعي التاريخي لدى البرتلي مما أدى إلى اعتنائه بتدوين التاريخ بوقائعه وأحداثه الجسام، فألف فيه أول نص حولي معروف إلى الآن وهو ( الوقائع والوفيات ) ويعد كتاب ( فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور )، أهم مصنفات البرتلي التاريخيَّة على وجه الإطلاق، وهو معجم في رأي بونعامه بديع نحي فيه منحي موسوعيا، حيث ترجم فيه لنحو 215 من علماء مورتانيا، إن تقسيم المؤلف لمراحل التدوين التاريخي وتطوره جاء موفقا، كما أنني أتفق معه في أن موسوعة ( حياة موريتانيا ) من تأليف المختار حامد أهم كتاب تاريخ يمثل نقلة نوعيَّة في التدوين التاريخي بمورتانيا.
*المصدر: التنويري.