في كتاب “اللغة والإيديولوجيا” (1980) يتحدث أوليفيي روبول Olivier Reboul (1992-1925) وهو بالمناسبة فيلسوف فرنسي معاصر، درَّس بجامعة ستراسبورغ، تركز إنتاجه حول فلسفة اللغة، يتحدث عن وظائف اللغة المتعددة، منطلقاً من تصنيف رومان جاكوبسون العالم اللغوي الأمريكي المعروف، الذي اعتبر “اللغة هي النظام الرمزي الأكثر اقتصاداً. (…) فما من نظام رمزي أو من قوة تستطيع أن تُضَاهِيَ نهائياً قدرة اللغة على أن تفعل الكثير انطلاقا من القليل.” [1]
لكن ما ميز أوليفيي روبول هو إدخاله بعض التعديلات والإضافات، حيث يقيم تقابلاً بين عناصر الفعل التواصلي -الذي يشير إلى القناة أو الجسر أو كل ما يسمح بالتواصل نفسياً وفيزيائياً- وبين الوظائف الست للغة، حيث تركز كل وظيفة على عنصر تواصلي بعينه، أو من خلال ما يمكن التعبير عنه بالعوامل المكونة للتواصل، متجاوزاً التصور الكلاسيكي القائل ب لا وظيفية اللغة، أو حتى التصور الأحادي للغة، الذي يعتبر أن الوظيفة الأساسية للغة هي التواصل، ليذهب مذهب أن اللغة متعددة ومتميزة الوظائف، بالإضافة إلى محاولة توسيعه من حقل الإيديولوجيا الذي كان مقتصراً سابقاً على حقل المعرفة وامتداده إلى السياسة وبالضبط مفهوم الدولة خاصة السلطة السياسية للدولة وأجهزتها الإيديولوجية مع لوي ألتوسير، ليمدد أوليفيي روبول من حقل الإيديولوجيا ويضمها إلى حقل اللغة والخطاب والتواصل والكلام، وهذا ما لم يكن في الحسبان سابقاً.
■ وظائف اللغة لدى رومان جاكوبسون:
” لماذا نتحدث؟
للإجابة عن هذا السؤال، سأنطلق من التحليل الشهير لرومان جاكوبسون الذي يميز فعلاً بين ست وظائف للغة:
1- المُرْسِلُ، ذلك الذي يتحدث أو يكتب. (وظيفة تعبيرية)
2- المُرْسَلُ إِلَيهِ، (وظيفة إيعازية)
3- المرجع، (وظيفة مرجعية) أي ما هذا الذي نتحدث عنه؟
4- النظام، (وظيفة شعرية) أي نسق القواعد المشتركة بين المُرْسَل والمُرْسَلِ إليهِ، والذي بدونه لا يمكن أن يكون المرسول مفهوماً.
5- الاتصال، (وظيفة اتصالية) وهو ما يسمح بقيام وبقاء التواصل فيزيائياً ونفسياً.
6- المرسول ذاته، (وظيفة واصفة) من حيث هو تحقق مادي للتواصل، أو بعبارة أخرى ما هو منطوق أو مكتوب. ” [2].
■ وظائف اللغة لدى أوليفيي روبول:
“1- الوظيفة المرجعية: Fonction de référence :
لماذا نتحدث؟ نتحدث لكي نُخْبِرَ، ونُفَسِّر، ونُدَقِّقَ، ونُعْلمَ، وَبإيجاز؛ نتحدث لنُعَرِّفَ بِشَيْءٍ مُعَين.
2- الوظيفة التعبيرية: Fonction expressive :
إننا نتحدث لنخبر، ولكننا نتحدث أيضاً <<لنُعَبِّرَ عن ذاتنا>>
3- الوظيفة الإيجازية أو الحثية: Fonction de incitative
يمكن أن نتحدث لنجعل شخصاً آخر يتصرف كما في حالة الأمر، والنصيحة، أو الرجاء، أو الرفض، أو المنع … إلى آخره.
4- الوظيفة الشعرية أو البلاغية: Fonction poétique
إن الخطاب الشعري هو خطاب بلاغي إخباري مع ذلك، ولكنه إخباري على طريقته الخاصة.
5- الوظيفة القولية: Fonction verbale
إن الهدف الأول للغة -كما يقول ألآن- هو <<الدخول في الجماعة>> و <<خلق إمكانية التواصل>> .
6- الوظيفة فوق-اللغوية أو الميتا-لغوية: Fonction métalinguistique.
بإيجاز؛ فإن الوظيفة الفوق-لغوية تظهر في أسئلة مثل : (ماذا تريد أن تقول؟)، حيث التعريفات والتسميات، إنها تبحث عن القواعد التي تجعل التواصل ممكناً. ” [3].
نظراً لأهمية هذه الوظيفة الأخيرة التي قلنا أنها ميتا-لغوية، نقصد بها، أنه عندما يتحدث أمامك شخص معين حول موضوع معين بشكل مستطرد وسردي وطولي نوعاً ما، فتقطعه سائلاً: ماذا تريد أن تقول؟ إن هذا السؤال جد مربك أو محرج وشائك بالنسبة للشخص المستطرد في الكلام، عند طرحك لهذا السؤال، تكون وقعت -حسب أوليفيي روبول- في الوظيفة الميتا-لغوية، ذلك أنك تبحث في الحقيقة عن تعريف دقيق للموضوع أو عن الشيء في ذاته في موضوع الحديث La chose en soi est dans le sujet. والذي يقود في النهاية إلى البحث عن قواعد ثابتة التي تجعل التواصل ممكناً، أو نقول أخيراً أنك فكرت في الموضوع وطرحت سؤالاً محرجاً !
هناك صلة وثيقة بين اللغة والإيديولوجيا والعنف الذي تبرره السلطة، حيث بواسطة الإيديولوجيا تبرر لنا الدولة العنف، من خلال لغتها أو خطابها الرسمي الذي توجهه إلينا، عبر خطابها الناعم المتمثل في الإعلام، وعبر ترسانتها اللغوية والخطابية والكلامية وتقاريرها الرسمية، تعمل الدولة على إقناعنا أن ما تمارسه ليس عنفاً بل هو حق مشروع وضروري فيه مصلحة للدولة والأفراد، فيه الخير الأسمى، ومن هنا تتجلى لنا وظيفة الإيديولوجية اللغوية للسلطة المتمثلة في الإخفاء Discours caché et implicite.
يعبر عن ذلك قائلاً : ” بواسطة اللغة أيضاً تجعل الإيديولوجية العنف مشروعاً، حينما تلجأ إليه السلطة مظهرة إياه كحق، كضرورة وسبب فيه مصلحة الدولة، وكعلة، وبإيجاز؛ محاولة إخفاء طابعه كعنف. “
إن المجال أو الميدان الذي تنتعش فيه الإيديولوجيات وتتكاثر عبر التوالد السريع هو مجال اللغة والخطاب والكلام والحديث والتواصل والمعنى والقول والحجاج، نظراً لخصوبة هذا الحقل وتوفره على الأرضية الخصبة والطرية والطازجة لبزوغ وبروز وتكون وتشكل هذا النوع من الإيديولوجيا، إن هذه الأخيرة متأصلة جذريا في الحقل اللغوي ولا يمكن إستئصالها منه، لدرجة القول إن الإنسان كائن لغوي-إيديولوجي L’homme est un être linguistique et idéologique.
لهذا لا نعبث حين نعبر مبررين ” لكن الميدان المفضل والمتميز للإيديولوجيا هو اللغة، حيث تمارس الإيديولوجيا وظيفتها الخاصة. “
ليست اللغة ذو طبيعة إيديولوجية، بل طريقة استعمالنا واستخدامنا وتعاملنا مع اللغة هي التي تسقطنا لا محالة في الأيديولوجيا، لهذا يجب علينا أن نكون على وعي ومسؤولية كي لا نسقط في هذا الحقل الشائك!
لهذا يصرح قائلاً: ” ليست اللغة التي تملك طابعاً إيديولوجياً، بل الإستعمال الذي تستعمل به. “[4].
فما نسقط فيه من مظاهر الإيديولوجيا هو سقوط لا شعوري أو لا واعي بلغة سيغموند فرويد، ذلك أن الأيديولوجيا لا يمكن للإنسان أن ينفلت وينزلق ويتسلت منها، فهي مسألة حتمية، تمارس عليه إكراها عبر احتوائه وضمه داخلها !
لذلك إذن ” كل مظاهر الخطاب الإيديولوجي (…) تبقى مظاهر لا شعورية. “
كما أن اللغة تستمد سلطتها من المؤسسات الاجتماعية، وبالتالي فمن يهمل مسألة استعمالات اللغة وبالتالي مشكلة الشروط الاجتماعية التي تتحكم في استعمالنا للكلمات لا بد وأن يظل طرحه لمسألة سلطة الكلمات ونفوذها طرحا ساذجا غبيا، لهذا ظل بارث يعتبر أن اللغة تفرض بحكم بنيتها ذاتها علاقة استلاب حتمية، بينما انتبه بورديو وباسرون أن استعمال اللغة ومحتوى الخطاب وكيفية القائها يتوقفان على المقام الإجتماعي للمتكلم، لهذا نراعي حسب أوليفيي روبول سياقات الكلام، والوضعية المكانية للمتكلم، وإذا اعتبر كارل ماركس أن التاريخ هو عبارة عن صراع بين الطبقات حول وسائل الإنتاج فإن لويس ألتوسير اعتبر أن التاريخ هو صراع بين الطبقات حول الكلمة وضدها! يقول معبراً عن ذلك: “أن كل الصراع الإجتماعي بين طبقات المجتمع يمكن أن يختزل في النهاية إلى صراع من أجل كلمة ضد كلمة أخرى.” [5]
وفي الختام؛ نضيف إلى أن للغة مجموعة من الوظائف، لا يمكن حصرها في وظيفة واحدة أو وظائف محددة، بل إن لها وظائف لا نهائية، وقول أوليفيي روبول “أن كل خطاب -هو بالضرورة- إيديولوجي. ” هو قول يحث إلى أن هناك وظيفة أخرى للغة هي الوظيفة الإيديولوجية La fonction idéologique du langage، وكنا قد أشرنا سابقاً، أن محاولته هاته ما هي إلا نفي أن تكون اللغة هي التي تمتلك طابعاً إيديولوجياً، بل إن الإستعمال السيء للغة هو الذي ينتج لنا شكلاً من الأيديولوجيا، ومن هنا تصبح اللغة منتجة للأيديولوجيا والأيديولوجيا بدورها منتجة للغة، والعلاقة بينهما هي علاقة تبادل وتشارك وتوظيف، حيث الأولى توظف الثانية، والثانية توظف الأولى، لهذا نقر بتساوي اللغة = الإيديولوجيا، أو تساوي كل خطاب مع الإيديولوجيا، ولا يمكن أن ننتج أي خطاب دون أن يكون بالضرورة إيديولوجيا، ولكن هل يمكن للغة في الحقيقة أن تعبر عن الواقع؟ وهل يكفي التبليغ لكي يتحقق التواصل؟ وإلى أي حد يمكن القول: إن كلامنا يتجاوز تفكيرنا أو محدود به؟
_________
Bibliographie:[1] E. Benveniste, Problèmes de linguistique générale, édition. Gallimard, 1966, p.28.[2]-[3]-[4]- Olivier Reboul, Langage et idéologie, Paris, PUF, 1980, pp.13-50.[5]- L. Althusser, Positions, Paris, édition. Sciences Sociales. 1976.p. 46.
*المصدر: التنويري.