“كتابُ الجَوَاهِر الخمس” للكنديّ؛ نُموُذجًا لمَنهجه
إنَّ أهمية دراسة “الاتجاه المَشائيّ” -وهو الاتجاه المتأثر كُليَّةً بالفلسفة اليونانيَّة والأفلاطونيَّة المُحدَثَة- في “الفلسفة الإسلاميَّة” تتجلَّى في تمثيلها للقاء الفكر الغربيّ بمُعطيات العقليَّة الإسلاميَّة، وما نتج عنهما في إحدى نواحي اللقاء. وكذلك تتجلَّى في بيان الفلسفات، والأفكار الداخلة في تركيبة “الفلسفة الإسلاميَّة”، وما أثارته من قضايا ومُشكلات؛ أثَّرتْ على مسار التفكير في البيئة الإسلاميَّة. وتتجلَّى أخيرًا في بيان الأسباب التي أبعدتْ المسلمين وعقليتهم عن كلمة “فلسفة”، مِمَّا كان له أبلغ الأثر في مسار تدهور “الحضارة الإسلامية”.
وقد اخترتُ لدراسة جانب من “الاتجاه المشائيّ” فيلسوف “الحركة المَشائيَّة”؛ “الكنديّ” (185هـ/805م : 256هـ/873م) لعرض خصائص منهجه، والتمثيل عليها بإحدى رسائله. وذلك لسببَيْنِ، هما؛ أنَّه أوَّل الفلاسفة المَشَّائِيْن؛ فهي فرصة لتجلية المدرسة في طورها الأوَّل. وأنَّه مُعبِّر عن تيار غَلَبَة “العقليَّة الإسلاميَّة” في تلك “المدرسة المشائيَّة”.
وقد اخترت إحدى رسائل “الكنديّ” -حيث لمْ يكتب إلا رسائل- المُسمَّاة “كتاب الجواهر الخمس”. وهي رسالة مُترجَمة عن اللاتينيَّة. ترجَمَها الدكتور/ محمد عبد الهادي أبو ريدة. وتمَّ اختيارُها خاصَّة من بين الرسائل الأخرى لعدة أسباب؛ هي:
-لأنَّها كانت معروفة عند الغرب طويلًا، من أوَّل العصور الوسطى. يؤكد ذلك د/ أبو ريدة نفسه، في مقدمة الرسالة. وهذه الميزة تجعلها حَرِيَّة بالدراسة من غيرها. لأنَّها تعبر عمَّا وصل الغربَ من رسائل فيلسوف العرب الأوَّل.
– أنَّها من أوائل ما كتبه “الكنديّ”. يرجِّح هذا “أبو ريدة”. وذلك يعطينا الفرصة لاستجلاء خصائص المنهج في بواكير ظهور “الاتجاه المشائيّ” في “الفلسفة الإسلاميَّة”.
– أنَّ الرسالة محاولة صادقة من “الكنديّ” لترسيخ “الفلسفة” (مفاهيم ومناهج) في البيئة العربيّة. خاصةً إذا اعتبرنا ترجيح أنَّها من بواكير أعماله.
.-موضوع الرسالة بحث عن عناصر “الجوهر” في تركيبه وسيره. وهو موضوع مُميِّز عن موضوعات “الفلسفة الإلهيَّة” التي يهتم بها غالب الباحثين.
وسأجعل همِّي الأوَّل استجلاء السِّمات العامة لـ”الكنديّ”، في فلسفته، وفي منهجه، وفي إجرائيات منهجه. وهذا لأنَّني أرى انتقاصًا من دراسة الجوانب المنهجيَّة في الدرس الفلسفيّ العربيّ على وجه التخصُّص الدقيق، مع أنَّه من أقيم وأقوم ما يفيد ذلك الدرس. ثُمَّ سأهتمُّ بتطبيق ذلك التبيين المنهجيّ على الرسالة المختارة. بسَمت الاختصار والاقتصار على الأهم فقط.
المَبحَث الأوَّل: خصائصُ فلسفةِ “الكنديّ”، والسِّماتُ العامَّةُ لمَنهجِهِ
* أولًا: السماتُ العامَّة لفلسفةِ “الكنديّ”:
–الإعجاب الشديد بطريقة النظر الفلسفيَّة. فـ”الكنديّ” -فيما يرجِّحه بعض الباحثين- بدأ مُتكلِّمًا، ثمَّ تحوَّل إلى “الفلسفة”. ورآها طريقًا لبلوغ اليقين. ورآها أشرف الصناعات. حيث قال في أوَّل رسالته “في الفلسفة الأولى”: “إنَّ أعلى الصناعاتِ مَنزلةً، وأشرفها مَرتبةً صناعة الفلسفة”.
– فلسفته تدين لـ”الفلسفة اليونانيَّة” بالكثير، وهو رائد “المدرسة المَشَّائيَّة”.
– فلسفة -على ذلك- تمتاز بالأصالة؛ فإنْ كانت مُتخِذَةً طريق المَشَّائِيْنَ، إلا أنَّها مختلفة عنها. فهو لم يقبلها على عِلَّاتهاـ بل أخذ منها وردّ وأضاف. فكان جهده في الاختيار وفي الإضافة.
– فلسفته ليستْ تبعيَّة لأحد. فنشهد فيها عدم تماهيه في الآخر، وأنه مع إعجابه باليونان -والإعجاب مَدْعاة للتماهي- لمْ ينسحقْ فيما أعجب به. بل امتاز بشخصيَّته الإسلاميَّة، وقناعاته التي ترفض الكثير من أعمدة “الفلسفة اليونانيَّة”، خاصةً في مباحث “ما بعد الطبيعة”، ومناهج التعريف. مثل: رفضه لـ”نظرية الفَيْض”، وإثباته للخلق المباشر. لأنَّ الجسم والحركة والزمان مُتلازمات لا تفترق. فعن طريق تناهي جِرم العالَم رفض النظريَّة، وأثبت نظريَّة “الخَلق المباشر” الإسلاميَّة. وليس فقط في مبحث “الإلهيَّات” خالفه، بل في “الطبيعيَّات” أيضًا. وأصدق مثال على ذلك أنه ألَّفَ رسالةً “في الإبانةِ عنْ سُجُودِ الجِرْمِ الأقصى”، ولا دليل أصدق من سمت فلسفته كلها لتدلَّ على مدى الأصالة وانتفاء التبعيَّة.
– فلسفته غايتها “معرفة الله”؛ يقول في “في الفلسفة الأولى”: “وأشرف الفلسفة، وأعلاها مرتبةً الفلسفة الأولى؛ أعني علم الحق الأول، الذي هو علَّة كلِّ حقّ”.
– فلسفته تمتاز باليقينيَّة، وذلك عن طريق التزامها بالمنطق، واعتمادها عليه.
.-مُراعاة العقليَّة والبيئة الإسلامِيِّتَيْن في مُخاطبة المجتمع بالفلسفة الغريبة عنه. وعدم اللجوء إلى التصادم مع المجتمع. بل هو رأى الفلسفة انسجامًا مع الحقّ، وغايتها الوصول إلى “الله” كما قرأنا.
* ثانيًا: السماتُ العامَّةُ لمنهجه:
نستطيع أن نستخلص الملامح الأهمّ لمنهجه عندما نطالع هذه السطور في أوَّل رسالته “في تناهي جرم العالم”. حيث يقول: “براهين أشياء مألوفة، تكاد أنْ تكونَ عند الناس كُلَّهم أو جُلَّهم أو المَحمودِيْنَ منهم غيرَ مُحتاجةٍ إلى براهين، لتحسِمَ أدْوَاءَ الألفاظ، وليكون السبيل إلى ما أحببتُ أنْ أوضِّحَهُ لك من أنَّه لا يمكن أنْ يكون جِرْمُ الكلِّ لا نهاية له -كما ظنَّ كثيرٌ مِمَّن لمْ يتخرَّجْ في صناعة الرياضيات، ولمْ يتفقَّهْ المقاييسَ المنطقيَّة، ولمْ يقْفُ آثار الطبيعة- قريبة…”. من هذا النصّ نوضِّحُ أهمّ السمات العامة لمنهجه. وهي:
– المنهج الرياضيّ؛ لأنَّه أوثق المناهج في الوصول إلى المعرفة اليقينيَّة.
-الاعتماد على “علم المنطق” وقواعده.
-البدء دومًا بمُسلَّمات لا تحتمل النقاش واللجاج.
-عدم الوقوف على الخلاف اللفظيّ.
-استقراء الطبيعة ومظاهرها فيما تخبر به وتدلُّنا عليه.
-التسبيب الدائم؛ حيث يتفشى التسبيب في كافة أرجاء رسائله.
-الربط بين مسائل الفلسفة؛ حيث جعلها خريطة معرفيَّة كاملة.
-تنوع المناهج الإجرائيَّة واتساع دائرتها. مِمَّا يدلُّ على امتيازه. كما سيتضح في إجرائيَّاته، وفي التطبيق على رسالته.
-الميل إلى التفصيل.
-الإبداع في اصطناع الأدلة، لا مجرد التقيُّد بما وصله منها.
-التميُّز عن منهج “الفلسفة اليونانيَّة” وعدم الجمود عندها. ويتضح هذا في تنوع طرق التعريف في الرسالة المُختارة نموذجًا.
*ثالثًا: إجرائيَّاتُ الأسلوبِ عندَ “الكنديّ”:
أقصد بـ”الإجرائيَّات” تفاصيلَ تطبيقه للمنهج العام، أو فنيَّاتِ تطبيقه للمنهج. ويتمثَّلُ أهمُّها في:
-الاعتماد على الأسلوب التحليليّ.
-الاعتماد على “الاستقراء التامّ”؛ طريقًا لتوضيح ما يُعرِّفه.
-الاعتماد على طريقة “القسمة العقليَّة”، وتعني افتراض جميع أقسام الموضوع المحتملة، والتأكد من أنَّ قسمًا لم يتخلَّف. ثمَّ مناقشتها وفحصها قِسمًا قِسمًا وفرضًا فرضًا؛ بغرض الوصول إلى الفرض الصحيح. وهي طريقة موصلة إلى اليقين، وتمتاز بالدِّقة الشديدة. وهي مُتفشِّية في كلّ رسائل “الكنديّ”.
-الاعتماد على التمثيل والتشبيه في توضيح الأمور وتقريبها. وهذا ما سنراه في “مثال السفينة” في الرسالة المُختارة للتطبيق.
-تعدُّد الطُّرُق في التعريف؛ كما سنرى في تعريفه لـ”الجواهر الخمسة”.
* المَبْحَث الثاني: عرضٌ لـ”كتاب الجواهر الخمسة”
يقصد “الكنديّ” بـ”الجواهر الخمسة”: الجواهر البسيطة التي توجد في كلّ جسم. وتركيب “الجوهر”؛ في عناصره الأولى، وعناصر حياته على الأرض. أو الدلائل الصناعيَّة لكُلِّ “جوهر” يُحَسّ. و”الجوهر” هنا يعني الجواهر الماديَّة كلّها التي على الأرض. مِمَّا سيتضح في العرض. والآن أبدأ بعرض الرسالة.
عرَّف “الفلسفة” بأنَّها: “علمُ كلِّ شيء”، ثمّ قسَّمها إلى علم وعمل، أو إلى فلسفة نظريَّة وفلسفة عمليَّة. وأورد سبب تقسيمه هذا؛ لأنَّ النفس تنقسم إلى عقل وحسّ، والفلسفة ليست سوى “نَظْم النفس”. والجُزء العقليّ ينقسم إلى علم الأشياء الإلهيَّة وعلم الأشياء المصنوعة. وقد قصر رسالته هذه على الفلسفة النظريَّة دون العمليَّة.
ثمَّ قسَّم الأشياء من حيثُ “الهِيُولا” (وتُثبتُها غالبُ الكُتُب برسم الهيولى) أو المادة أيْ الناحية الماديّة إلى أنواع ثلاثة:
-نوع لا يفارق “الهيولا”؛ وهو الجسميَّات.
-نوع يقوم في “الهيولا”، وهو غير متصل بها. وهو “النفس”.
-نوع لا اتصال له بـ”الهيولا” البتَّة. وهو الإلهيات والأمور الرَّبَّانيَّة.
ثمَّ أوضح خصوصيَّة “النفس”. فـ”الله” -تعالى- وضعها بين الكثيف واللطيف، يقصد بين النوعَيْن الآخرَيْن؛ لتكون مَحجَّةً من علم الجواهر إلى علم الإلهيَّة.
ثمَّ قسَّم الأشياء حسب حقيقتها إلى نوعَيْن:
-ما لا يكون في كلِّ الجواهر، وهي عُلوِيَّة كلّها. ويمثل لها بالكواكب والأفلاك وما أشبهها.
-ما يكون في كلّ الجواهر؛ وهو عالَم “الكَوْنِ والفساد” (يعني عادةً مُصطلحا الكون والفساد مُصطلحَيْ الوجود والعدم؛ حيث الكَون وهو التكوُّن أيْ الوجود والفساد وهو التحلُّل أيْ العدم. ولنْ يُفهم تأصيل هذا الأمر من دون معرفة بشجرة الوجود في المنطق اليونانيّ). وقسَّمه هو الآخر بدوره إلى:
-ما في الأرض كالمعادن.
-ما على الأرض كالحيوان (يقصد ما تسري فيه الحياة وهذا مقصود كلمة حيوان في التعاريف الفلسفيَّة).
-ما فوق الأرض كالأمطار، والضباب، والبروق، والرعود.
ثمَّ يقسِّم الأشياء التي تكون في كل الجواهر إلى خمسة: “الهيولا”، “الصورة”، “المكان”، “الزمان”، “الحركة”. فكلُّ “جوهر” له “هيولا” يتكوَّن منها، و”صورة” يتصوَّر فيها، و”مكان” يوجد فيه، و”حركة” هي كونه، و”زمان” هو لازم الحركة؛ لأنَّ الزمان هو مدة الحركة. هذه هي الجواهر الخمسة.
*”مثال السفينة”:
شبَّه “الكنديّ” الجوهرَ بسفينة؛ و”الهيولا” هي الألواح فيها -أيْ مادتها-، و”الصورة” هي الأركان والزوايا والسُّلَّم والباب، والسفينة في “مكان” حتمًا، وتتحرَّك ولها “حركتها”، والحركة في “زمن”. هذه هي الدلائل الصناعيَّة لكلّ “جوهر” يُحَسّ.
ثمَّ قال إنَّ مبادئ “الجواهر الخمسة” هُما “الهيولا” و”الصورة”. حيث يتوقف وجود كلّ شيء عليهما. ولذلك سيوضحهما أوَّلًا. ويُنبِّه إلى أنَّ هذين ليسا “العناصر الأربعة” (الحرارة، البرودة، الرطوبة، اليبوسة)؛ لأنّ “الهيولا” و”الصورة” هُما مبادئ المبادئ، فليس قبلهما شيء.
*كلامُهُ عنْ “التعريف”:
“التعريف” لا يكون إلا بـ”الحدّ”. و”الحدّ”: قولٌ مُركَّبٌ؛ مِن “جِنس” يكون منه الشيء المحدود، ومِن “فصل” يتميَّز به عن كلّ شيء آخر. (وهذه طريقة التعريف عند أرسطو).
لكن هنا تطرأ مشكلة! لأنَّ “الهيولا” لا جنس قبلها؛ أيْ لا جنس لها. فلا “حدّ” لها. لأنَّ “الحدّ” لا يكون إلا لما فوقه “جنس”. فقال إنَّ طريقة تعريف “ما لا جنس فوقه” أنْ يُقال: إنَّه ما به يتميَّز الشيء عن بقيَّة الأشياء. يعني أنّه سيعرِّفه بالفصل الذي به تتميِّز الأشياء، والخواصَّ التي تخصُّه. أيْ أنَّ “الكنديّ” جعله المِعيار المميِّز في “التعريف”، أيْ استخدامه مُعرِّفًا، بعد تعريفه بذكر ما يميِّزه من خواصّ. فالأشياء التي تتركَّب هي التي يُحتاج إلى “الحدّ” في تعريفها. وفي “الجنس العُمُوميّ” يُكتفى بـ”الفصل”، وهو حينئذٍ “الخاصَّة”.
ومن هنا نستجلي إبداع “الكنديّ”، وأصالة فلسفته، وبراعته في “التعريف” والاستدلالات. وهو ما سُقتُه في بيان خصائص منهجه. وسنرى الآن كيف عرَّفَ كلَّ جوهر بطريقة. مِمَّا يدلُّ أشدَّ الدلالة على براعته وأصالة النزعة الفلسفيَّة عنده.
*تعريفُ “الهيُوْلا”: وهو مثال للتعريف بـ”تعديد الخواصّ”.
حيث عرَّفها بأنَّها: هي ما يَقبَلُ ولا يُقبَلُ، وما يُمسَكُ ولا يُمْسِكُ. وتقبلُ الأضدادَ دونَ فسادٍ (يقصد عدم). وإذا ارتفعَتْ ارتفعَ غيرُها، وإذا ارتفعَ غيرُها لا ترتفع. وليسَ لها “حدٌّ” بتَّةً.
-تعريفُ “الصُّوْرَة”: وهو مثال للتعريف بـ”القسمة العقليَّة”.
فهي اسم مُشترك بين أشياء كثيرة، فلا بُدَّ -عند تعريفها- من تقسيم الاشتراك، ثمَّ تمييز جزئه المراد بيانه. وعلى هذه القاعدة قسَّم “الصورة” إلى قسمَيْن، هما:
-الصورة التي تقع تحت الجنس، والتي بها يصير الشيء جنسًا، وليست المقصودة.
-الصورة التي تقع تحت الحسّ، ويتميَّز الشيء بها عند البصر عن بقيَّة الأشياء. وهي المقصودة. وعرَّفها بأنَّها: القوةُ التي بها تكونُ الأشياءُ مِنْ “الهيولا”. وهي: الفصلُ الذي بهِ ينفصِلُ شيءٌ عنْ الأشياءِ الأخرى بالبصر. ومثَّل لها بـ”النار” صورةً لهيولا؛ هي في هذه الحالة “الحرارة” و”اليبوسة”.
-تعريفُ “الحَرَكة”: وهو مثال للتعريف بـ”الاستقراء التامّ”.
قال إنَّها تنقسم إلى ستة أنواع، هي:
-الكَوْن والفساد: وهما مُختصَّان بـ”الجوهر”.
-الرُّبُوُّ والاضمحلال: لا يكونان إلا في “الكمّ”.
-الاستحالة: يقصد بها التحوُّل، وهي خاصَّة بـ”الكيف”.
-النقلة من مكان إلى مكان: وهي قسمان:
-دائريَّة: وهي قسمان: الأولى لا يتغيَّر مكانُ المُتحرِّك فيها، بل أجزاؤه. مثل الفلك. والثانية يتغير مكانُ مَوْضعها. مثل العَرَبَة.
-مُستقِيمة: وهي قسمان: الأولى تتجه إلى الوسط. والثانية تنطلق منه. وأقسام الحركة المُستقِيمة ستة: اليمين والشمال، القدام والخلف، الفوق والتحت.
-تعريفُ “المَكان”: وهو مثال للتعريف بـ”التمثيل” و”الاستنتاج”.
قال إنَّهم اختلفوا في تعريفه لغموضه على أقوال:
-منهم مَنْ قال إنَّه لا يوجد بتَّةً.
-منهم مَنْ قال إنَّه موجود، وليس جسمًا.
-“أفلاطون” قال إنَّه جسم.
-“أرسطو” قال إنَّه موجود وبيِّن.
ثمَّ يطرح مثالًا فيقول: إنَّه “إذا تحرَّك الجسم أو زاد أو نقص، فلا بُدَّ أن يكون ذلك في شيء أكبر من الجسم ويحوي الجسم. ونحن نُسمِّي ما يحوي الجسم مكانًا”. ثمَّ يعرِّفه بأنَّه: هو السطحُ الذي هو خارج الجسم الذي يحويه. وهو ليس من “الهيولا” ذاتِ الطول والعرض والعُمق، بل من “الهيولا” ذاتِ الطول والعرض فقط دون العُمق.
-تعريفُ “الزَّمان”: وهو مثال للتعريف بـ”التحليل” و”القسمة العقليَّة”.
اختلفوا على أنَّه “الحركة” ذاتها أو ليس هو “الحركة”. وأراد “الكنديّ” أنْ يُفنِّد الرَّأيَيْن. فقال إنَّ لكلِّ جسم حركة معيَّنة. وهذا بخلاف “الزمان” الذي هو معيار ثابت خارج عن الحركات الخاصَّة بالكائنات. بل إنَّ حركة الكائنات تُقاسُ به لا العكس.
و”الآن” هو الحدُّ الفاصل بين “الماضي” و”المستقبل”، لكنه لا يُدرَكُ إلا عقلًا فقط. فـ”الزمان” ليس في شيء سوى الـ”قبل”، والـ “بَعْد”. فهو ليس سوى العدد.
فـ”الزَّمَانُ” هو: عَدَدٌ عادٌّ للحركة. وبما أنَّ ما يُعَدُّ عند أهل “اللغة” نوعان: المَعدودُ المُنفصِل، والمَعدودُ المُتَّصِل؛ فـ”الزمان” من “المعدود المُتَّصِل”. أيْ هو: الآنُ المُتوهَّمُ الذيْ يصِلُ بينَ الماضِي منه وبينَ المُستقبَل.
وإلى هنا تنتهي رسالة “الكنديّ” المُسمَّاة “كتاب الجواهر الخمسة”. بما فيها من تمثيل صادق لملامح فلسفته، ومنهجه.