الكرسي؛ الثقافة المؤسِّسة لفكرة الخلود
توطئة:
اتَّسم تراثنا القديم بخصب، وعمق لا مثيل له، في وصف مجالس السلاطين والأمراء والحُكَّام، وما يدور فيها من تجسيدات مفاتن الحياة ومباهجها وبهرجها. والدليل على ذلك أن ما نُقِلَ إلينا منه اليوم، يملأ الدنيا بمقابسات الحقيقة، وروايات الفن، وحكايات الأساطير، وشطحات الخيال، التي تتعمَّد تلطيف تصوّرات المشهد الجميل. ويتبارى الرواة في وصف كل صنوف التسلية والمتعة، ويتعدّونها إلى نظم القصيد، ومطارحة الشعر، وتسجيل التاريخ، وبثّ الحكمة، واستخلاص الدروس، واستيلاد العبر.
إذ تزخر كتب التراث؛ مثل، “الأغاني”، و”ألف ليلة وليلة”، و”الإمتاع والمؤانسة”، و”البخلاء” و”أخلاق الوزيرين”، و”المحاسن والأضداد”، و”العقد الفريد”، و”تاج العروس”، و”التاج في أخلاق الملوك”، بما يقف دليلاً على ما نقول. فقد كان الهدف الأساس من التدوين، الذي ملأ صفحات هذه الكتب وغيرها، هو الوصول إلى الحقيقة، برسم لوحات زاهية لروعة الموصوف من المَشَاهِد، ووضع أُطرٍ لصورٍ تقريبيَّة للواقع؛ تغازل اللحظة الماتعة، وتُمازح الفرح، وتمازج الأحداث، وتشرح النوازل، وتُداعب الخواطر بِمُستَملح الأخبار، وشجي اللحن والأسمار. ورغم تعمّدها جميعاً وتَقَصُّدها خلق حال جميل ساحر يُرَطِّب الأجواء، التي دارت فيها أحداثها المختلفة، وقصصها المتنوِّعة، إلا أنها أثرت بالقطع على رؤيتنا لتك الأحداث، واستيعابنا لتلك القصص.
إنَّ مصدر شهرة تلك المجالس يتأتَّى من حقيقة أنها دارت في مظانٍ تَتَسَقَّط جَديد أخبارها العامَّة والخاصَّة، وهي مُصَوَّبَة على مجالس أصحاب السلطان والصولجان، وبروجهم المشيَّدة، ومعنيَّة بها، وواصفة لمقاماتها ومغانمهم فيها، وكأنهم من عالم آخر، أو من كوكب أبعد من منظار الفلك. الأمر الذي حَوَّل المجلس، وحتى الكرسي، الذي كانوا عليه يجلسون، إلى محطِّ أنظار الناس وجماع مطامحهم ومطامعهم، وصار الخلود ظناً فيه، لمن ناله، غايَّة الطلب ونهاية الأرب. وأكد ذلك في وعينا لُمَع الومضات، وبعض المقولات، التي شكّلت قناعاتنا في القبول بعلو شأن الكرسي، قبل الجالسين عليه، من حيث الحّظ والمكانة والهالة والألقاب، والتي أحاطت به وبهم، وما أسبغه التبجيل من قدسيَّة متوهّمة عليه وعليهم. وتبيّن لنا المطالعة العابرة للأدبيَّات القديمة مدى أثر هذا الإسقاط الثقافي في تشكيل اتِّجاهات الرضا بمظاهر السلطة، بما فيها عسف “الديكتاتوريَّة” في الحياة العامَّة، واستجابة المثقّفين لمعطيات هذه الحالة، التي رسَّختها أوضاع سياسيَّة معقّدة، والتي تحتاج لنظر ونقد وتروي لتفكيك بنياتها. وربما يلزمنا جهد إضافي لمحاولة التوفيق بين تناقضاتها ومترتباتها، لمصلحة ذاكرتنا الجمعيَّة.
يقظة الأرق:
لقد قرأنا كثيراً، كما أشرت، عن حياة أصحاب الحظوة والسلطان، على مرِّ العصور، وبدت لنا حياتهم ناعمة ومرهفة ومرفهة، ولا شيء يكدِّر صفوها غير “أرق” ينتابهم كل ليلة، فيُؤتى لمن أتاه الله بعض ورعٍ بمن يؤانسه، ويزيل عنه وحشة ساعته، ويربت على سويداء فؤاده بأقاصيص التسلية، أما إن كان صاحب فنون ومجون فَيُطْلَبُ له القيان والغلمان، وأن يصطف لحضرته الشعراء يدبِّجون له المديح، ويُنشدون أمامه قصائد الغزل وأبيات الفخر، وتتراقص أمامه الحِسان، حتى يمتلأ جوفه ببنت الحان ويخلد للنوم. وتلك كانت حياتهم؛ إمتاع ومؤانسة، ومكرّرة ورتيبة، ولكنها مرتبة بشكل لا يتصوَّر من يعيش في كنفها أن يتركها في يوم من الأيام، أو يتخلَّى طوعاً عن نعيمها. فهذه الدعة المحيطة بالكرسي تجعل الاستمرار أطيب، ونزهة الجلوس فيه أغلى وأحلى، وكل جالس يتمنَّى أن لا يغادر موطئ جلوسه، ولا يفارق مقعده مقعده، وأن يكون الأخير زمانه. وهذا الإحساس المريح بأحلام انقياد الحياة لمشيئة صاحب السلطان في كرسيه تجعله لا يتصوَّر؛ مجرَّد التصوّر، أن يتركه. ومن هنا برزت حقيقة معياريَّة الصلة الثقافيَّة في تعيين وتبيان علاقة الحظوة بالكرسي.
ولكي نشرح بوضوح بعض المعنى، الذي نعنيه، تكفي قراءة فاحصة لِمُؤلَّفٍ واحد من مؤلفات من خدموا الجالسين على الكرسي في تاريخنا العربي والإسلامي، وخالطوهم؛ بمنادمات، وأسمار، ومُلَحِ إمتاعٍ ومؤانسة. وحَدَّثَوا بما يعلمون من بعض من تخيَّروا من السلاطين، فأجزلوا لهم القول والمعرفة، أو المنادمة والمسامرة، مع التعظيم والتوقير والتبجيل، مثلما أفاض عليهم الجالسون على الكرسي بالمال والعطايا. ومنهم من قادتهم حظوظهم العاثرة الخاسرة إلى منافرة آخرين، فبيَّنوا لنا مثالبهم، التي في أخلاقهم. وإذا تلطّفنا وفضلنا المؤانسة، فلن يكون خيارنا غير أبو حيان التوحيدي، الذي ألَّف كتاباً من عيون الأدب العربي، وعنونه بـ”الإمتاع والمؤانسة”، وضمَّنه مسامرات سبع وثلاثين ليلة قضاها في منادمة الوزير أبي عبد الله العارض، حوت أحاديثها أضواء كاشفة لحياة الأمراء في النصف الثاني من القرن الرابع، وما كان يدور في مجالسهم من حديث، وجدال، وخصومة، وآداب، وطرب، وشراب.
ونلاحظ في الكتاب أن الوزير يقترح الخوض في موضوع، وأبو حيان يجيبه عما اقترح، حتى إذا أراد الوزير الإخلاد إلى النوم سأل أبا حيان ملحَّة الوداع، وربما اقترح أن تكون ملحة الوداع شعراً بدوياً، يشم منه رائحة الشيح والقيصوم. أي أن الهدف الأساس من القصَّة هو التسلية والمتعة والقضاء على الأرق، ويكون في روايتها هذا الجو المخدّر الممتع. والحكمة في المؤانسة هي الإمتاع، وأنها تستطيع أن تقصر طول الليل، وما يتخلّله من أرقٍ مُمِّض. وممَّا يحكى أن الخليفة هارون الرشيد أرق ذات ليلة أرقاً شديداً، فاستدعى عامله مسروراً فحضر، فقال له: ائتني بجعفرٍ بسرعةٍ فمضى وأحضره، فلما حضر وقف بين يديه قال له: يا جعفر قد اعتراني في هذه الليلة أرقٌ فمنع عني النوم ولا أعلم ما يزيله عني، قال: يا أمير المؤمنين قد قالت الحكماء: النظر إلى المرآة ودخول الحمام واستعمال الغناء يزيل الهمّ والفكر، فقال: يا جعفر إني قد فعلت هذا كله فلم يزل عني شيئاً، وأنا أقسم بآبائي الطاهرين إن لم تتسبَّب فيما يزيل عني ذلك لأضربن عنقك، قال: يا أمير المؤمنين هل تفعل ما أشير به عليك؟ قال الخليفة: وما الذي تشير به علي؟ قال: أن تنزل بنا في زورقٍ وننحدر به في بحر الدجلة مع الماء إلى محلٍ يسمى قرن الصراط لعلنا نسمع، أو ننظر ما لم ننظر، فإنه قد قِيل تفريج الهم بواحدٍ من ثلاثة أمور؛ أن يرى الإنسان ما لم يكن رآه، أو يسمع ما لم يكن قد سمعه، أو يطأ أرضاً لم يكن وطئها، فلعل ذلك يكون سبباً في زوال القلق عنك يا أمير المؤمنين. وذُكر أن الحجاج بن يوسف أرِقَ ذات ليلةٍ فبعث إلى أمين القرية، فقال: إني أرقت فحدَّثني حديثاً يقصر علّي طول ليلي، وليكن من مكر النساء وأفعالهن. ولا نظن أنَّ الحجاج بعد هذا الطلب يريد لشهرزاد أن يدركها الصباح، وتسكت عن الكلام المباح.
جاذبيَّة الكرسي:
لقد تساءلت كثيراً، ولا شكّ أن غيري فعل الشيء نفسه، عن معنى ودلالات رغبة خلود الزعماء في كرسي السلطان؛ من نمرود إلى فرعون، وكل أمثلة حكّام عصور التاريخ، فلم أجد لكل الاستفهامات، التي تراصَّت بخلدي، من إجابات شافية. غير أنه تراءى لي أن هناك ميراثاً ثقافياً عتيداً، وعلاقة تبدو منطقيَّة بين تعلَّق قلب الحاكم بالكرسي، ورغبة الخلود فيه، إذ تقاطرت على ذاكرتي كثير من الصور الثقافيَّة المؤيِّدة والمُطَبِّعَة مع، وعلى هذا السلوك، من خلال هذا الميراث الثقافي العربي والإسلامي. وقد يختلط علينا المفهوم في معنى الخلود بين ثقافة الحكم وطبيعة الكرسي؛ وهل من الممكن أن يكتب الاستمرار لأحدهما، أو كليهما؟ وقد يقول قائل إنَّ تعبيرات الأوصاف السائدة لأنماط الحكم التاريخيَّة، وغيرها؛ العربيَّة والإسلاميَّة، وعلاقة الرغبة في الخلود والتشبّث بالكرسي غير دقيقة. ولكن الواقع ينبئنا بأنّها أدقّ ممَّا نتخيَّل، أو نتصوَّر.
ولاستيعاب مقصدنا هنا، علينا أن ندرك معنى هذا البعد الثقافي الموروث إدراكاً واعياً قد يؤسِّس لموقف سياسي من كل قضيَّة الحكم. فالثقافة والتاريخ والموروث الحضاري والفكري لا يمثِّل انفصالاً عن التكوين الأصلي للإنسان العربي؛ حاكماً ومحكوماً، بقدر ما يمثِّل جلالاً وقدرة وهيبة، وهبتها هذه الثقافة لصورة الحاكم والكرسي، الذي يجلس عليه، وفق منهج العلاقات الترابطيَّة للذاكرة الجمعيَّة. إذ إن هناك ثمَّة علاقة ذهنيَّة وثيقة بين صاحب السلطة المهيمن وصورة الزعيم المبجَّل، وأسطورة القائد الملهم، الذي حَوَّلَهُ مَجَرَّد الجلوس على كرسي الحكم إلى حالة من “القدسيَّة” الهاديَّة للتعالي، التي يتجاوز بها صاحبها على كل من دونه من البشر، ليتحوَّل من عبد لله إلى سيد على خَلْقِه. وتستبد به تهيؤات من انتقل من وضع المخلوق إلى ما يقارب صفات الخالق، فيحدث بذلك تبايناً حادّاً بين طبيعته التكوينيَّة كإنسان، ومنهجه في السلوك كفرد طبيعي في المجتمع، وطريقة طلبه القديم للمجد كمجتهد مُجِدٍ، وينزع إلى ادّعاء الإلهام والتقديس، وتتملّكه الرغبة في الاستمرار على كرسي السلطان إلى ما لا نهاية، والاستشراف الخيالي لفكرة الخلود.
ورغم أنَّ مسيرة حياة الحاكم، منذ خُلق، تؤكِّد أنه لم يكن معنيّاً بأمر الخلود، لِتُقَدِّم كسبه دليلاً عليه، إلا أن التشبّث العنيد بالكرسي جعلته كذلك. وإذا كان الخلود يعني الغياب الكلي للعوامل المؤدّية إلى الفناء، فإن كل ما كان يحيط بحياة الحاكم يمثل عنصراً من عناصر الفناء. لهذا، ظلَّت إشكاليَّة الثقافة العربيَّة مع تقديس سلطة الكرسي، قائمة على امتداد الأزمنة؛ محفوظة في صيرورة الحياة، ومرويَّة في سيرورة الحضارة. ومثلما تشكَّلت مصادر قَّوة الكرسي، وسلطان قرار الجالس عليه، من استخدامات المال والدين والسياسة، كانت الثقافة تابعاً لإحداها، أو كلها مجتمعة، فاعتمد الحكام؛ للامساك بزمام الأمور، على استغلال معتقدات الناس، وانتماءاتهم، وأحلامهم، للسيطرة عليهم بوعود برّاقة كذوبة. فقد احتاجوا إلى المال ليكسبوا به منادمة الأدباء والشعراء، واستغلُّوا الدين لتبرير تجاوزاتهم في ليالي الأرق الطويل، واتَّخذوا السياسة وسيلة لإعمال حيلهم ومؤامراتهم. فيما فشلت الثقافة أن تخلق سلطتها الإيجابيَّة الرافعة والمستقلَّة، إذ بقيت تُشَكِّل جسر التواصل، الذي تتَّكئ عليه الأحلام في سدَّة أمجاد هؤلاء الحكّام.
سحر السلطة:
لقد تشكّلت صور “السلطة” في الخيال العام كلوحة باهرة، ناصعة الألوان، وكأهزوجة شجيَّة الألحان في الذاكرة العربيَّة؛ تهامست بها الأحاجي، واحتفت بها أقاصيص الرواة، وروتها أساطير الحياة، وتقاطر لمدحها الشعراء، وتغنَّى بها القصيد، وصدح بها المطربون، وتساقطت عليها الحسان على أنغام القيان، وطلب ودها الوجهاء، وتهافت عليها العلماء، وتمتمت بها أمنيات العامَّة عبر التاريخ. فأصبح كل إنسان في ذاته هِمَّة، وفي هَمِّهِ رغبة مجدٌ، يطمحُ إلى بلوغها وإدراكها، وصارت هي مقاماً عالياً يرمي ببصرِ قلبِهِ ليُدركَها.
ويحدّثنا عمر وبن الجاحظ في سبب تأليف كتاب “التاج في أخلاق الملوك”، أنه لما خص الله عز وجل الملوك بكرامته، وأكرمهم بسلطانه، ومكَّن لهم في البلاد، وخوّلهم أمر العباد، أوجب على علمائهم تعظيمهم، وتوقيرهم، وتعزيزهم، وتقريظهم، كما أوجب عليهم طاعتهم، والخضوع لهم، ومنها أن أكثر العامَّة، وبعض الخاصَّة، لما كانت تجهل الأقسام، التي تحبّ لملوكها عليها حصرنا آدابها في كتابنا هذا لنجعلها قدوة لها، وإماماً لتأدّبها. ولا ينسى الجاحظ أن يُرشدنا إلى كيفيَّة الدخول على الملوك، ومطاعمتهم، ومنادمتهم، وفي صفات الندماء، وما يجب للملوك عند الرعيَّة من حسن الأدب؛ في حالتي الهزل والجّد. ولا يفوت على الجاحظ، خلال ذلك، أن يذكر صنوفاً من الأحاديث، وألواناً من الطرائف، يستمدّها من التاريخ العربي حيناً، ومن التاريخ الفارسي أحياناً، متحدِّثاً عن أخلاق الملوك والشعوب، على اختلاف ديارها.
وقد لا نجد في حكايات “ألف ليلة وليلة” صورة واحدة لطبقة السلطة وحكّامها، بل تتعدَّد الصور، وذلك نظراً لتعدُّد رواة الحكايات، وتباين مواقفهم من طبقة السلطة، إلا أنهم عادة ما يتعاطفون معها، ويقدّمونها في صورة العفّة والطهارة والكرم. وهذا ليس غريباً على السياق العامّ، الذي تندرج تحته المواقف الثقافيَّة، المتحكّمة في مسار السلوك العام. كما أن المفاهيم المنبثقة من هذه المواقف، أصبحت في عصورنا الراهنة، من البدهيات والمسلمات، التي لا يجوز النقاش فيها، لأنها صارت ضمن عقائدنا ومقدّساتنا، كما هي موروث ثقافي، وأنَّ التحاور في شأنها لا يغيِّر ركناً من أركانها.
وللتمثيل على هذه الثقافة، التي أخضعت الناس لمزاج تعظيم الحكام، وأعانت الحكام على التعالي على من هم دونهم، يصف أبو حيان التوحيدي “الليلة الأولى” مع الوزير أبي عبد الله العارض، إذ يقول: “وصلت أيها الشيخ – أطال الله حياتك – أوَّل ليلة إلى مجلس الوزير – أعز الله نصره، وشد بالعصمة والتوفيق أزره – فأمرني بالجلوس، وبسط لي وجهه الذي ما اعتراه منذ خلق العبوس؛ ولطف كلامه، الذي ما تبدل منذ كان لا في الهزل ولا في الجدّ، ولا في الغضب ولا في الرضا. ثم قال بلسانه الذليق، ولفظه الأنيق: قد سألت عنك مراتٍ شيخنا أبا الوفاء”، ولم يُفصِح لنا التوحيدي كم نال من العطايا من جذل أوصافه، وجزيل عباراته، وإن كانت هديَّة الثناء بقدر الوفاء.
لقد تعمّدت الثقافة العربيَّة، في مسألة خلود أصحاب السلطان، تجاهل الحقيقة التكوينيَّة للإنسان، وضآلة شأن المادَّة التي خلقه الله منها، أي الطين والماء المهين، كما جاء في سورة “السجدة”، من قوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُون(، السجدة: 7-9. فصنعت في مخيالنا، ونحن صغاراً، صوراً ذهنيَّة زاهية لأصحاب الشأن من أهل السلطان والصولجان؛ رفعتهم درجات فوق مقاديرنا، وجعلت من أكثر الميِّزات وضوحاً في شخصيتهم أنهم يجلسون على كرسيٍّ خاصّ ترفعهم في مقام أعلى، وتحيط بهم هالة سلطان تجعلهم لا يشبهوننا. وإذا كان هم غيرهم في الحياة تدبير معاشهم، فإن هم الحكام الوحيد هو أن يبقوا في السلطة، وبيدهم جميع الصلاحيات؛ يحلمون ويحكمون، ويمنحون ويحرمون، ويتيحون ويقمعون، ويسامحون ويعاقبون، وقد يقتلون، ويعذبون، وينتهكون الحرّيات والحقوق والحرمات، ويسرقون، وينهبون، وواجب الرعيَّة الوحيد أن يصفِّقوا لهم ويمجِّدونهم ويقدِّسونهم، لأن نظمهم تستمّد طبيعتها المتألِّهة من جذر التاريخ البعيد، حيث دعي الحاكم في بلاد ما بين النهرين بنائب الآلهة، ودعي الفرعون في مصر بالإله، وابتدع المصريون التحنيط ضماناً لهذا الخلود.
الخاتمة:
إنَّ التاريخ يُعلِّمنا أنَّ الترابط الوجودي بين الحاكم والكرسي، قدَّم نوعاً من التكامل الافتراضي بين المتكافئين، وهو تكامل يبدو سرمدياً لا ينفصم من ناحية تصوّر أن البناء المادِّي للحكم يعتمد على الكرسي، وهو أمر مشابه لمسألة الحقّ مقابل التملك، والتلازم بين خلوده واستمراره جالساً عليه. ومن هنا، كان من العسير على الحاكم التخلِّي عن هذه العلاقة الجدليَّة الدائريَّة، أو مجرَّد التفكير في الانفصال عنها. لهذا، فما علينا إلا أن نُدْرِك أنَّ موقف تشبّث أولئك الحكام بالبقاء في الكرسي إلى ما لا نهاية، تأتى من حقيقة أنهم كانوا يعتبرون الجلوس عليه كسب لا ينقضي له أجل. فإذا كانت الرغبة في الخلود قضيَّة إشكاليَّة، مفعمة بالإكراهات، فإنَّها في منظور العديد من أصحاب السلطان، قضيَّة حقّ ثابت، غير قابل للتغيير والتبديل، ولا يمكن التفاوض عليه. والحال كذلك، ولمراجعة ما جَرَّتهُ أنماط هذه الثقافة الموروثة، فإننا بحاجة لتأسيس ثقافة جديدة، ينصلح بها نسق العلاقة بين الحاكم والكرسي، ومن ثم بين السلطة والناس، لتعود الثقافة فعلاً قائداً لتنبيه العقل لمواطن الخلل، وإعمال الفكر لتوضيح الرؤية، وتصحيح المسار لتنمية الإنسان وبناء حضارته.
لهذا، فإنَّ أوَّل ما ينبغي أن يخطر على بالنا هو ذلك البون الشاسع، والفارق الفكري العميق، الذي كان يميَّز بين نسقين مِن مَن يمكن أن نصطلح على تسميتهم مجازاً بالمثقفين؛ مُزَيَّفٌ يبتذل كرامة الموهبة تزلّفاً لمرضى الكرسي، ملتمساً تنّعماً تُخَاشنه الذِلَّة، وبين مثقَّفٍ أصيل، ترقى بكرامة القيمة المعرفيَّة في درج المجد الفكري، فنظر، ناقداً، باستبصار، متجاوزاً باقتدار، ما تواطأت عليه ثقافة ذلك الزمان الاجتماعيَّة، الظَانَّة في بروق السلطة الخُلَّب، أنَّ سحابها سيهطل بنعيم الحياة. وقد يلحظ القارئ أنَّ فكرة هذا المقال بدأت بغير قليل من الدهشة، لكونها انتقلت بالمحكي الرتيب من أقاصيص البلاط السلطاني المزيَّنة بالشهوات، والفارغة من المعنى، والمليئة بإسقاطات علله النفسيَّة، التي خَصَّبَت أرض النفاق الثقافي، فأنبتت تصوّرات زائفة عن حقائق المجد. وأوجدت ممارسات معطَّلة لحرمة العلم والأخلاق والحضارة، إذ لفتت الانتباه إلى أنَّ ثقافة المجتمع العربي، لا زالت تنظر من ذات الكوَّة، التي تظن أنَّ سلطة الكرسي، هي أقصى مبتغيات الذات، لارتباطها بمظنَّة الخلود. فكان لا بد من صدمة معرفيَّة تُذَكِّر بانتفاء فكرة الخلود هذه، التي أخرجت أبو الآدميين من الجنَّة، إذ قال تعالى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ)، الأعراف: 120. وتوالت من بعد ذلك فتن السلطان، ونَشِط الشيطان البَاعِد عن الحقّ، حتى توارثتها العلائق الآدميَّة؛ الفرديَّة، والاجتماعيَّة، رغم التحذير المعرفي (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)، الأعراف: 27. اذاً كما أشار المقال، هي مرجع تكويني منزعي، لا تردّه إلا ثقافة تزكيَّة معرفيَّة بالنفس، والقيم، وما هذا المقال إلا مفتتح فكري، يحاول إخراج الذهن العربي من تخدير الغرائز، إلى وعي الارتقاء العقلاني بجسارة الفكرة وفقة المنطق.
_______
* دبلوماسي سوداني، والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي
السبت، 3 أكتوبر 2020
القاهرة، جمهوريَّة مصر العربيَّة
*المصدر: التنويري.