القواعد غير المكتوبة؛ محاولة في الفهم
ملخص
تلعب القواعد غير المكتوبة دورا مهمّا في توجيه سلوك الإنسان، وفي تنظيم شؤون المجتمعات البشريَّة، أو بالأحرى تأسيس ما يَصطلِح عليه الفلاسفة المعاصرون بـ ”الكينونة جمعا”. وذلك بالنظر إلى ارتباطها الوثيق بصميم وجود الإنسان، وبقيمته الجوانيَّة. ويَظهرُ أثرُ هذه القواعد في مجالات الحياة الإنسانيَّة كافّة؛ مثل الأخلاق والسياسة والاقتصاد. بيد أنّ هذه القواعد غير المكتوبة لا تحظى بالأهميَّة نفسها التي حظيت بها القواعد المكتوبة وما يرتبطُ بمعناها العام من قوانين ومؤسَّسات رسميَّة ودساتير. ولذلك تروم هذه الورقات أن تكون خطوةً أَوليَّة في سبيل إثارة الانتباه لجدوى البحث في هذا النمط من القواعد، وسعيا إلى تمهيد الطريق لتأسيس وعي جمعيّ بجدواها و فعاليتها.
كلمات مفتاحيَّة: القواعد غير المكتوبة، الجوانيَّة، الكينونة جمعًا، القواعد المكتوبة.
مقدّمة
يحتاج الإنسان إلى إقامة مسافة روحيَّة بينه وبين ذاته، حتى ينشأ فيها معنى للغيريَّة أصيل Otherness/Altérité أصيل، يمكن أن تتفتّق في رحابه كلّ القيم الإنسانيَّة النّبيلة، ويُتاح للإنسان- النّوع أن يبلغ الكمالات التي له. ربما تسمى هذه المسافة في ألفاظ اللغة الاحترامَ والودّ، أو الامتنان والعرفان، أو المسؤوليَّة… لكن معانيها في الفكر، أو ”التمثّل”، أعمق من مجرد كونها أسماء أو صفات، بل إنّها بمنزلة القواعد غير المكتوبة التي توجّه سلوك الإنسان من دون أن يحتاج إلى قانون زاجر، أو حتى إلى التفكير مليّا في مضمونها. وليس الإنسان -الفرد وحدَه من يوجد على هذا الحال، بل إنّ المجتمع بأسره تحكمه ضوابط من هذا النوع، حيث إنّ المجتمع البشريّ لا يُعرف فحسب من زاوية القوانين والمؤسّسات المختلفة التي تنظّم شؤونه، بل يُعرف أيضا من جهة المبادئ التي تحرّكه، وتفعل فعلها فيه على نحو خفيّ. ذلك هو الشأن إذًا في القواعد غير المكتوبة، وذاك ما تعِد هذه الورقة بمحاولة تسليط الضوء عليه. إذ تراهن على الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما القواعد غير المكتوبة؟ وما أثرها في الأفراد والمجتمعات؟ هل يكفي وجود القانون وحده حتى تستقيم أحوال الناس؟ ما هي العوامل المؤثِّرة في تطبيق القانون؟ لماذا توجد مساحات كبيرة للإفلات من العقاب في بعض البلدان التي تُوصف بوصف ”المتخلفّة” ؟ لماذا توجد الديمقراطيَّة اليوم في وضع يجبرها على إنكار ذاتها؟ لماذا تضطر الديمقراطيَّة إلى قبول التعايش بين مؤسَّسات متصادمة في المجال السياسيّ؛ مثل ”مؤسّسة الفساد”، التي صارت لها قواعدها في كثير من البلدان المعروفة بخوفها من الشفافيَّة وخشيتها الوضوحَ؟
I
توجد في كل مجتمع قواعد غير مكتوبة unwritten rules، تضع أسس العلاقات الاجتماعيَّة فيه وترسم لها أفقًا معيّنًا. وتحدد نطاق الفعل الاجتماعيّ بمعناه العام. بل أبعد من ذلك، لَعلَّها ترسم للعالم بأسره وجهة محدّدة، وللفاعلين المحليّين فيه هامشًا للحركة لا يتعدّونه. ولذلك ربما تكون هذه القواعد غير المكتوبة أهمّ بكثير من القواعد المكتوبة؛ والتي تُجسّدها الدّساتير والقوانين والمؤسَّسات الرّسميَّة المختلفة التي يراد منها أن تُنظِّم مجالات الحياة العامَّة. ولسنا ندري إن كان متاحًا تحديد أصلٍ لهذا النوع من القواعد أم لا،[1] لأنّ محاولة الاقتراب من هذه النقطة قد تسقطنا في ما يُشبه الدّور؛ فإذا بنا نتيه في دوامة السؤال عن التقدّم و”السبق بالزمان” ، ونتساءل: أيّهما أسبق إلى الوجود؛ هل المجتمع أم قواعده المستترة غير المكتوبة؟ كلّ ما يسعنا تقريره أنّ المجتمع لا يكون مجتمعًا بشريّا إلا حين يُكوّنُ قواعده الخاصة به، وأنّه يفعل ذلك اعتمادا على تجربته في الوجود التي تظل في جوهرها تجربة المحايثة؛ حتى وهي تتخذ لها صورةَ التعالي في ديوان الأيام والعصور، وفي سجلّ الذاكرة الجمعيَّة في ما بعد؛ وفي القواعد المكتوبة. وكذلك الزعم بأنّ هذه القواعد غير المكتوبة تختلف من مجتمع إلى آخر، بسبب عوامل عدة نذكر منها المناخ، ونمط العلاقة مع الطبيعة، والمواقف التي تتّخذها المجتمعات من التقدم التقنيّ والعلميّ، والدين، والتربية، والخلفيَّة الاجتماعيَّة للشعوب، وتصوّرُ الثقافة لمعاني الزمان والمكان والحياة، وحتى بسبب العادات والتقاليد التي قد لا يُعرف لها أصلٌ محدّد. وأخيرا وليس آخرا، أنّ هذه القواعد لا تكون دالّة إلا حينَ يحضر أمام نفسه مجتمع قائم في الزمان والمكان.
تؤلف القواعد غير المكتوبة نظامًا قائمًا بذاته، يكون موازيا لنظام القواعد المكتوبة، قد يشتغل معه، أو ينتصب عقبةً كأداءَ ضدّه، بحسب الأحوال العامَّة للنّاس ومقدار صلاحهم، واستعداد نفوسهم لقبول معنى الخير العام والمصلحة المشتركة، والحق والجمال. فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وتأتي على قدر الكرام المكارم، كما قال الشاعر. لن نجزم هاهنا بالقول إنّ هذا النظام من القواعد غير المكتوبة في هذا المجتمع أو ذاك أفضل من غيره، وإنما سنحافظ على معنى النّسبانيَّة الثقافيَّة كما عُرفت عند الأنثروبولوجيّ الفرنسيّ كلود ليفي ستروس (2009-1908) Claude Lévi-Strauss ؛ حتى نتبيّن طبيعة هذا النظام غير المكتوب وأثره في حياة المجتمعات. ورغم ذلك، يمكن أن نقول بلا أيّ مُوجبٍ للتحفّظ إنّنا نلاحظ_ في غالب الأحيان_ القواعدَ غير المكتوبة تعبر عن مستوى وعي الشعوب، وتُبيّن إلى أيّ مدى بلغ أفرادها سنّ الرشاد. وبكلمة واحدة؛ إنّها تُعبر عن مقدار مَدنِيّتها. لذلك فإنّ إدراك هذه القواعد يمكن أن يُعتبر سبيلا إلى معرفة مستودع حكمة الشعوب والمجتمعات البشريَّة، وخزان رؤاها وتطلعاتها، وأمراضها واعتلالاتها أيضا. ويبدو أنّ ذلك كله هو الميدان الخصب الذي تشتغل فيه العلوم الإنسانيَّة اليوم؛ مثل التحليل النفسيّ وعلم النفس السياسيّ والاجتماعيّ، الخ.
حدُّ ”القاعدة” أنها مبدأ يوجه التفكير( الاستدلال) و السلوك معا، ودلالتُها معياريَّة على الخصوص. لأنّ ما يُطلب منها هو إنارة باحةِ الجوانيَّة البشريَّة interiority التي قد تضيق أو تتَّسع تبعا لعمل الإنسان على نفسه بالمجاهدة والسّمو في المعالي؛ حتى تؤسس فيها ما يمكن أن يتجلى في السلوك البشريّ بأفضل ما يكون. ومثال ذلك ما أبرزه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط(1804-1724)Emmanuel Kant في كتاب ”تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق”(1785) عن الفعل الأخلاقي الذي يمكن أن ينبع، بحسب تحليله، من نوعين من الأوامر سماهما: ”الأوامر القطعيَّة” و”الأوامر الشرطيَّة”. وما كشف عنه السوسيولوجيّ الفرنسيّ إميل دوركايم Emile Durkheim (1917-1858)عن نوعي التضامن السائدين في المجتمعات البشريَّة وهما: ”التضامن الآليّ” و”التضامن العضويّ”، وماكس فيبر (1920-1846) Max Weberبخصوص ”أخلاق الاقتناع” و”أخلاق المسؤوليَّة”،الخ. فذلك كله مثال على وجود قواعد جوانيَّة خَفيَّة تحكم السلوك البشريّ وتمنحه معناه النهائيّ. بيد أنّ القاعدة أيضا هي ”التعبير عن الدلالة المعياريَّة الخاصَّة بالتفاعلات التي يندرج فيها كل فعل”[2]. حيث إنّ الأفعال البشريَّة لا تكتمل ولا تأخذ دلالتها إلا في سياق عموميّ يُكونّه التفاعل بين الناس. وبتعبير آخر، لابد للغيريَّة أن تحضر حتى يكون للفعل البشري معنى. والقول إنّ هذه القاعدة، أو القواعد، غير مكتوبة معناه أنها تمر عبر القنوات غير الرسميَّة، و تؤطر على نحو خفي سلوك البشر في مختلف جوانبه.
القواعد غير المكتوبة اصطلاح شاسع، لذلك فهو حمّال أوجه، فقد يعني ما يفهمه الإنسانيّون والتنويريون إجمالا من عبارة ”روح الدين” وجوهره، وقد يشير إلى نظام الأخلاق، وقواعد السلوك العام، والقيم، أو إلى العرف في سياق المعرفة القانونيَّة، أو سياق الثقافة الدينيَّة المغربيَّة المحليَّة_ ومثله ما عُرف في المغرب الفقهيّ عن معنى ”ما جرى به العمل”؛ و ”العمل الفاسي” و”العمل السوسي”_ أو يحيل إلى عمليّات الوعي العفويَّة؛ مثل المقارنة و التصنيف والحكم، والربط بين الأحداث، إلخ. أو إلى ما يستبطنه اللاشعور[3]_ الفرديّ منه و الجمعيّ_ بنحو غير مباشر، أو إلى النّظم الرمزيَّة، أي الثقافة بوجه الإجمال. أو إلى المؤسَّسات غير الرسميَّة في الديمقراطيّات الحديثة، سواء في ذلك العريقة الراسخة منها أو الناشئة، أو المعطوبة المنقوصة. وهي أيضا بحسب تعبير عالم الاقتصاد الأمريكي دوغلاس نورث (2015-1920) Douglas North ”قواعد اللعب في مجتمع ما”[4]. وقد يعني هذا الاصطلاح أيضا ما هو متجذِّر في الثقافة لدرجة يعسر معها أن يحتويه قانون، وقد يدل على مبدأ تحديد الأولويات لدى المجتمعات البشريَّة؛ إذ يظهر مثلا أنّ بعضها تفضل الحريَّة على الأمن، بينما تستكين الأخرى إلى حاجتها الغريزيَّة للأمن _ و”الاستقرار”_ حتى لو كان ذلك على حساب الحريَّة والكرامة الإنسانيتين. ويُوثِر أفرادها ركوب ”موجِ الوصول” إلى الغنى و الرّفاه استعجالاً، دونما حساب لما تصطنع أيديهم بذلك ”الركوب”من قواعد أخرى تُهدد ”الأصول”، وتُعجل بفساد الطباع وتردّي العقول. يصعب إذًا أن نحصر نطاق اصطلاح القواعد غير المكتوبة الشاسع، لأنه يُغطى مساحة ”الاجتماعيّ” برمته، بل إنّ فعلها في المجتمع قد يكون أقوى أثرًا وأشدّ وقعا من القواعد المكتوبة، غير أنّ ما يهمنا من كل ذلك، وما لسنا نجد سبيلا إلى إنكاره هو أنّ القواعد غير المكتوبة ليست سوى الوسطِ الذي يعتمل فيه ”الرمزيّ” le symbolique والباحة الخصيبة التي فيها ينتعش.
II
عندما نتحدث عن ”الرمزيّ”، ونربط به نظام القواعد غير المكتوبة، فذلك بغرضِ تحديد الإطار العام الذي يمكن أن يشمل بحثًا من هذا القبيل ويحتويه. وهو في نظرنا إطار أوسع وأشمل من مجرد تخصّص فرعيّ واحد، حتى وإن كان الأصل فيه هو الفلسفة، بحصر المعنى، في صورتها المعاصرة تحديدا. إنّ البحث في تجليات ”الرمزيّ” ورشة قائمة بذاتها، اشتغل فيها الفلاسفة وعلماء الإنسان على حد سواء. لذلك، فنحن إزاء موضوع يمكن أن تتقاطع فيه التخصصات كافّة. فمن زاوية السّوسيولوجيا، استطاع الفرنسيّ مارسيل موس Marcel Mauss (1872-1950)أن يقيم الدليل على نظام لـ”الرمزيّ” يُؤطّر نمطا آخر للتبادل في المجتمعات البدائيَّة من خلال كتابه عن ”الهبة”[5]. وكان إسهامه العلميّ ذاك أهلا لنوع من العرفان شهد عليه، على سبيل المثال، ما أكده الفيلسوف الفرنسيّ موريس ميرلوبونتي Maurice Merleau-Ponty(1908-1961) في التقرير المركز الذي أعده بمناسبة تأسيس كرسيّ الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة سنة 1958 في الكوليج دوفرونس؛ على شرف مارسيل موس. بحيث بيّن ميرلوبونتي أنّ اختلاف ممارسة موس العلميَّة عن المدرسة الفرنسيَّة التي أسّس قواعدها قريبُه إميل دوركايم _وهو من سَمّى السوسيولوجيا بـ”العلم الجديد”_ كامن في النحو الذي مارس به هذا العلم (السوسيولوجيا)؛ وهو يقصد الشغف الغريزيّ. لم يكن منتوجُ علمه خطابا يتموقع ”فوق الاجتماعيّ”، أو”فوق الواقع”، بل استطاع مارسيل موس، بحسب تقدير صاحب كتاب ”المرئيّ و اللامرئيّ”[6]، أن يخترقَ الموضوع ويتواصلَ معه، ثُمّ إنه جَعَلَ يُدوّنُ الأثر الذي خلّفه احتكاكه به. ذلك ما فعله في مثال السّحر والتبادل الرمزيّ، الخ. يؤكد ميرلوبونتي في تقريره ما يلي: »لن يكون التبادل إذًا نتيجة للمجتمع، وإنما سيكون هو المجتمعُ نفسُه بالفعل. إنّ ما هو ألمعيّ في المانا يكمن في ماهيَّة الرمزيّ، بحيث سيكون متاحا لنا من خلال مفارقات الكلام والعلاقة مع الغير،_ وهو مماثل لهذه ”الظاهرة الصفر” التي تحدث عنها علماء اللسانيات، وهي التي، من دون أن تكون لها هي ذاتها قيمة محددة، تقابل غياب الظواهر، أو أيضا مماثل لهذا ”الدال الطافي” الذي لا يُمَفصِل شيئا، ورغم ذلك يفتح حقلا ممكنا للدلالة…[7] « على هذا النّحو ينظر ميرلوبونتي إلى موس من منظور الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة، وهو بذلك يفتح أفقا آخر غير مألوف لمقاربة ”الاجتماعيّ” تكون فيه التجربة هي » اندغامنا بصفتنا ذواتا اجتماعيَّة في مجموعٍ تحقّقت فيه من قبلُ التوليفةُ التي يبحث عنها فهمنا بتؤدة، بما أننا نعيش في حياة واحدةٍ الأنساقَ جميعَهَا التي تشكّلت مِنها ثَقافتُنا .« [8]
إنّ ما يثير الانتباه أكثر بخصوص اشتغال مارسيل موس في ورشة الرمزيّ هو ما أبرزه ميرلوبونتي في تقريره إذ يؤكد مايأتي: » لأنّ عدد الدلالات التي يتوفر عليها الإنسان وغناها يتعدى دائما دائرة الموضوعات المحددة التي تستحق اسم مدلولات signifiés، حيث إنّ الوظيفة الرمزيَّة ينبغي أن تكون دائما متقدمة على موضوعها، فلا تواجه الواقعي إلا وهي تتقدم عليه على صعيد المتخيل. تبقى المهمة إذًا هي توسيع نطاق عقلنا، حتى نُقدِره على فهم ما هو فينا وفي الآخر يُجاوز العقل. « [9]
”القواعد غير المكتوبة” إذًا هي الوسط الذي يعتمل فيه ما أطلق عليه الفلاسفة المعاصرون _ وبعد مارسيل موس بوضوح_ اسم ”الرمزيّ”. فقد انكشف الإنسان عبر تاريخه المعروف بصفته كائنًا رمزيًّا بامتياز. ورغم ضرورة الإقرار بالتباس استعمالات هذا المصطلح اليوم، وتباين مَعنَاه من فيلسوف إلى آخر، ومن سياق إلى آخر، بل أحيانا التباسه داخل نصوص الفيلسوف نفسه؛ كما هو الشأن مع الفرنسيّ كلود لوفور Claude Lefort (2010 -1924) على وجه التحديد[10]، إلا أنّ الثابت في ”الرمزي”أنّه يدفعنا إلى تَبيّن أنّ المجتمع الإنساني أكثر من مجرد فضاء ماديّ _واقعيّ. بل أنه فضاء لاصطناع الرموز والقواعد وتبادلها. وأنّ كل محاولة للقبض على هذا المجتمع ومواجهة إشكالاته من هذه الزاوية الماديَّة- أو التقنية حصرًا- لابد أن تبوء في النهاية بالفشل. لقد أكدّ أرسطو في كتاب ”السياسة”مثلا أنّ ”الإنسان حيوان سياسيّ”؛ تحتم عليه أن يوجد وسط المدينة. و أنّ ما يفصل الإنسان عن مملكة الحيوان هو امتلاكه النطق، واقتداره على التشريع، فالإنسان وحده يستنّ القوانين ويتداول القواعد التي تحمل معاني العدل و الظلم، والخير والشر، إلخ. ويلتزم بها. لكنه أكد، إلى جانب ذلك، أنّ شيوع صداقة الفضيلة في المدينة(الدولة) قد يُغني عن العدالة والقوانين. ويعني ذلك أنّه ظل متيقظا إزاء أهميَّة ما هو غير مكتوب لا في الأسفار ولا في الدساتير(وقوانين المدينة)، وإنما إزاء ما تحبل به النفوس، وتتجمّل به الطبائع. وإذا كان هذا التشريع بالمعنى الأرسطيّ ها هنا جمعيّا، فإنه لم يُمنح صورته الذاتيَّة إلا مع كانط تحديدا، حين أكد أنّ شرط الفعل الأخلاقيّ الحقّ ليس الخوفُ من أيَّة قوة قاهرة، أو أيَّة سلطة خارجيَّة، قد تكون هي العقاب الدنيوي أو الجزاء الأخروي، أو الإله القاهر الجبّار، بل إنّ شرط كل فعل أخلاقيّ هو الحريَّة بالأساس، وأنّ الحريَّة إذا ما فُهمت بمعناها الايجابيّ _ أي الإقدام على الفعل الإراديّ بتحرير النفس من الاستكانة للأهواء الطبيعيَّة، يعلو مقام الإنسان إلى حيث ينبغي له. حتى إذا علا مقامه وتوطّن في قرارةِ وعيه معنًى للفعل الإرادي الخيّر، صار هو الإنسان الحَقّ باستيهال، وغدا في مقامه السَّنيّ ذاك ليس من يُشرع للآخرين فحسب، بل من يُشرّع لذاته أوّلاً، وفي تشريعه لذاته فكأنما يُشرّع للإنسانيَّة كافة.
يتداخل في ”القواعد غير المكتوبة” هذان المعنيان الجمعيّ والذاتيّ معا، لأنّها ليست سوى نتيجة تضافرهما وتفاعلهما، فقد يكون في كلّ أمة مَظانّ يثرى بها وجودها، وموارد خصيبة لا تنضب تمتحُ منها زادها الروحيّ، وتعوّل عليها في إمدادها بما يَلزمُ لمواجهة تحديات العصر. وكأنها تشغل في متخيّلها الجمعيّ منزلة الأب الروحيّ، والراعي الرسميّ لكينونتها الفانيَّة. وقد يكون في الأمم جميعها ”سلف صالح” ترجع إليه بصفته مصدر ذاتها، ومَعينَها الروحيّ الذي يجعل لها حيزا محترما في النقاش حول القيم_ أو بالأحرى ”أزمة القيم”_ الذي يخوض فيه عالم يتداعى فيه القويمُ وينهارُ، وقد أوشك فيه كل شي على الانفراغ من مكنونه، وبات يعلن عن هجر معنى أصيل لجمالياته و شعريته، أو لإنسانيته[11].
III
ربما يكون أهمّ تجلّ للرمزيّ هو معنى ما يسميه الفينومِنولوجيّون المعاصرون بـ”الكينونة جمعًا” l’être ensemble /Being together، ويجري تداوله في اللسان العربيّ تحت مسميات أخرى؛ مثل ”العيش المشتركـ”، أو”الوجود المشتركـ”، أو”الوجود المعيّ”، أو حتى ”الكائن _المجموعة” عند البعض، الخ. وذلك من أجل الإشارة إلى شيء لا يمكن القبض عليه في واقع التجربة البشريَّة، ولا يمكن تلمسّه إلا من خلال آثاره. وإلى الإطار العام الذي تتحقَّق فيه كينونة الإنسان بما هو كذلك. وبما أنّ الإنسان بناء حديث، فلابد أنّ كينونته اليوم أمست تتخذ ملامحها الأساس بعد كلّ ما اختبرته البشريَّة في القرون الخوالي من أزمات وحروب ومحن. أما الوجه الذي عُرفت به هذه الكينونة، والإطار الذي استقام به أمرها، واستقرّ به حالها على حماية الصّالح العام في كثير من دول المعمور فهو الديمقراطيَّة تحديدا. لكن الديمقراطيَّة، بهذا المعنى الذي نومئ إليه، ليست تتمثل في واقع الممارسة السّياسيَّة أو في المؤسّسات والمساطر، أو في القواعد المكتوبة_القوانين_ بل إنّها ليست شيئا آخر سوى القواعدِ غير المكتوبة والمؤسسات غير الرسميَّة التي تمنح تلك الممارسة معناها، وتلك المساطر مشروعيتها. فهي أكثر من أن يحصرها نطاق الفعل السياسيّ، وأعقد من أن تحيط بها التجربة الخام. وبيان ذلك في ما وصفها به نفرٌ من الفلاسفة المعاصرين؛ إذ ألفينا بعضهم يؤكد على أنّ الحقيقة في الديمقراطيَّة تتمثل في أنّها بالنسبة إلى هذا العصر بمكان الميتافيزيقا[12]، وأنها بحسب آخر ”أفقُ هذا العصر الذي لا يمكن مجاوزته”[13]. وقد سبق للفيلسوف الفرنسيّ كلود لوفور أن أكَّد على شيء مُشاكلٍ لهذا المعنى حين بينّ أنّ ماهيَّة الديمقراطيَّة تكمن في مبدأ غير مكتوب هو ”فراغ مَحلّ السلطة”[14] ، وكذلك الشأن مع مارسيل غوشيه (…- 1946)Marcel Gauchetالذي أرجعَ النظر في الديمقراطيَّة إلى دائرة الرمزي؛ فبينّ أنها قائمة على ثلاثة مبادئ غير مكتوبة سَماها أعمدة أو رافعات، و هي السياسيّ والحق والتاريخ[15].
تحتاج الديمقراطيَّة إلى قواعد_مبادئ_ غير مكتوبة حتى تكتمل، وتؤدِّي دورها في الحفاظ على المعنى الأصيل لـ ”الكينونة جمعا”_في العالم، إذا ما نحن فهمنا منها معاني الحريَّة والمساواة والعدل، وكل القيم النبيلة التي سعى المتنورون الطلائعيّون إلى ترسيخها في الوعي الإنسانيّ. ومن دون ذلك، تظلّ الديمقراطيَّة منقوصة؛ فلا تخدم سوى مصالحِ المستبدّين، بل أدهى من ذلك ربما لا تصير إلا أداة في يد الرّعاع الذين دأبهم إفساد كل شيء نبيل، لأنّ مصدر الفخرِ الوحيد الذي يحوزونه هو الأرقام، والكراسي الجالبة للمنافع الشخصيَّة، فيكون مدار الفعل السياسيّ على إثبات هذه الأحقيَّة، وإبراز هذه الأهليَّة حتى لو كان ذلك على حساب المجتمع والدولة. فكم شهد التاريخ من المستبدين المستنيرين الذين بنوا أمجادا تليدة؛ وكانت لهم أفضال كثيرة على الأوطان التي حكموها، وأما الرّعاع و الجُهّال فلم يُذكر لهم من فضل في هذا الباب، ولم يُعرفوا بغير حماسهم الشديد للقضاء على المشترك الإنساني، وتحويل وجه الحواضر إلى توحش سافر وجهالة مطبقة. فيصنعون قواعد جديدة للفعل السياسيّ، وتُبتدع على إثر ذلك معايير أخرى للسلوك الأخلاقيّ تلائم طبائع الانحطاط.
بناءً على ذلك، وحتى لا تنحرف النّظم الديمقراطيَّة عن غاياتها النبيلة، يوجه الباحثون اليوم عناية خاصّة للمبادئ غير المكتوبة، أو المؤسسات غير الرسميَّة في الحياة السّياسيَّة للمجتمعات، ويؤكدون على ضرورة الوعي بأثر هذه القواعد المشتركة اجتماعيا،والتي تمّ ابتداعها، وإذاعتها، وتعزيز وجودها خارج نطاق القنوات الرسميَّة والمعتمدة (البرلمان، الحكومة، والمؤسَّسات الدوليَّة، الخ.). لأنّ لها دوار كبيرا في تحديد معايير السلوك norms of conduct السويّ، وفي ترسيخه دونما حاجة إلى القانون.
تؤكد باحثتان أمريكيتان [16]، في هذا السياق نفسه، أنّ المؤسّسات غير الرسميَّة informal institutions _وهي تقوم مقام القواعد غير المكتوبة في السّياسة_ لا تكون ذات أهميَّة فحسب عندما تكون المؤسّسات الرسميَّة جديدة أو غير متطورة بما يكفي لتقوم بأدوارها، أو حينما تكون عاطلة، بل إنّ المؤسَّسات غير الرسميَّة تستحقّ عناية علماء السياسة، حتى عندما تكون القواعد الرّسميَّة للسياسة قائمة، ومؤسسة، ويُلاحظ أنها تشتغل دون أيَّة عراقيل[17]. والشاهد على هذا النوع من المؤسسات غير الرسميَّة، أو القواعد غير المكتوبة، في الحياة السّياسيَّة الأمريكيَّة ما ذكرته الباحثتان في العلوم السياسيَّة من أمثلة بارزة؛ سوف نكتفي منها ها هنا بالإشارة إلى أوّلها؛ وربما أهمها. إذ يتعلق الأمر بقاعدة استمرت على مدى قرن ونصف من الزمان في توجيه سَير الحياة السياسيَّة على نحو غير رسميّ؛ قبل أن تتّخذ طابعها الرسميّ والدستوريّ، وهي تحديد فترة الرئاسة في ولايتين اثنتين فحسب The Two-Term Presidency. فقد كانت هذه القاعدة، بحسب الباحِثَتين، مؤسسةً غير رسميَّة تكميليَّة ملأت فراغًا، أو بدّدت غموضًا اعترى القاعدة المكتوبة. وهي هنا المادة الثانية من الدستور الأمريكي الفتيّ غداة الاستقلال عن التاج البريطانيّ، وأما الفراغ فهو إخفاق هذا الدستور[18] في تعيين حدّ، أو حتى عدم تقييد عدد المرات التي بالإمكان فيها إعادة انتخاب الرئيس، بسبب أنّ الآباء الأمريكيّين الأوائل حينها لم يتمكنوا من حسم النقاش حول هذا الموضوع؛ حتى وإن خاضوا في قضيَّة طول المدة التي بإمكان الرئيس أن يحكم فيها( وهي أربع سنوات). يعود الفضل تاريخيا إذًا في ترسيخ هذا التقليد إلى الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن، بحيث أكد في سنة 1797 امتناعه عن الترشح لإعادة انتخابه لولاية ثالثة، ثم تبيّن ذلك أكثر مع خلفه الثاني الذي سار على نهجه. لكن الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكيَّة توماس جفرسون سوف يبرز دواعي ضرورة الاحتفاظ بهذه القاعدة غير المكتوبة بجلاء، إذ أكد على أنّ الأمر يتعلق بواجب يدفعه إلى الترفع عن ابتداع تقليد[19] يمكن أن يتبعه اللاحقون عليه، ويضرب عرض الحائط العرف الذي أسسه سلفه جورج واشنطن [20]؛ إذا ما هو قبل الترشح لولاية ثالثة. لا يمكن للرئيس أن يُجاوِزَ في حكمه ولايتين اثنتين على أقصى تقدير، هكذا فهم الآباء الأوائل بفطنتهم وحدسهم السياسيّ الرفيع المسألة. وعلى هذا النحو أمكن الحفاظ على تداول السلطة التنفيذيَّة بين المواطنين. وقد كان تبنّي هذا المبدأ سببًا في إنهاء الجدال الذي تُرك مفتوحا على مدى عشرين سنة من قبل _منذ استقلال الولايات الأمريكيَّة الثلاثِ عشرةَ سنة 1776_ فخلق يقينا جَمعيًّا بشأن مسألة لم يتمّ الحسم فيها في المادة الثانية من الدستور الأمريكيّ الذي لم يحدّد حينها مدّة ولاية الرئيس ولا عدد فترات حكمه.
يمكن للقواعد غير المكتوبة أن تؤدّي دورًا إيجابيّا في معظم الأحيان، أي أن ُتكمل عمل القواعد المكتوبة وتقويها، وتشتغل بالموازاة معها؛ كما هو الشأن في الحياة السياسيَّة الأمريكيَّة. بيد أنها- كما أشرنا إلى ذلك قبلاً- قد تنقلب في أحايين أخرى ضد القواعد المكتوبة التي يحُسب أنّها تعبر عن إرادة الأمة، وعن مضمون مدنيتها، وتدخل معها في صراع على النفوذ. فينشأ حقل للتوتّر والصراع بين المكتوب وغير المكتوب، أو بين الرمزيّ والماديّ (الواقعيّ) تتغير على إثره طبيعتهما تبعا لمبدأ الغلبة والهيمنة… يحدث ذلك الأمر على هذا النحو في المجتمعات المتخلفة من جهة إنتاج المفهوم وتملّك معناه، ومن ناحيَّة تصورها المعطوب لمعنى القيم، وبخاصة في وضعيَّة الأزمات الاجتماعيَّة التي تجعلها على المحكّ. إذ حتى وهي تعيش تحت نير الاستبداد والفساد، والزبونيَّة، والخوف من الحق، والخوف من الحريَّة، تشارك في إنتاج الانحطاط بإصرارها، هذه المرة، على تفضيل هذا النمط السيئ غير المكتوب من القواعد على المكتوب. فلا نجد فيه غير ما يعيق نهضة الدولة، وتحرر الشعوب من البؤس الاجتماعي، ومثل ذلك اصطلاحُ المخزن- في المغرب- و استحكام مبدأ العرق، واللون، والطائفة، والقبيلة، والنسب الاجتماعيّ، والمصلحة الخاصة والثروة في توجيه السلوك الجمعيّ، حتى صارت هي القواعد غير المكتوبة التي تصنع القوانين وتحدد طبيعة القيم في المجتمعات المتخلفة إجمالاً.
إننا في القواعد غير المكتوبة نتحدث عن ‘‘المعياريَّة’’ normativity أي عمّا لايرى إلا أثره، ولذلك فإنّ دراستها التجريبيَّة تفرض تحديا كبيرا على الباحث اليوم، فما يبقى أمامه غير سبيل الاستنباط، والاستنتاج، والتعميم، بناءً على معطيات تخصّ الأنساق والبنيات الثقافيَّة العامة. ومثال ذلك الانطلاق من نسق المتخيّل القانونيّ والسياسيّ لمجتمع ما، والخلفيَّة التاريخيَّة التي يتغذى منها، بغرض فهم واقعه، ومحاولة إصلاح اختلالاته. ذلك ما فعله- على سبيل المثال- كل من بياتريس هيبو و محمد طوزي[21] بخصوص موضوع الفساد في المغرب، و”حملة التطهير” التي عرفها نهاية القرن الماضي. و التي عبأ لها النظام الرسميّ الموارد التقنية والاقتصاديَّة والسياسيَّة والماليَّة والقضائيَّة دون أن يكون ذلك حلا نهائيا للمشكلة إلى اليوم، لأنّ أصل الداء هو ”النظام غير الرسميّ” للقواعد التي تملأ المتخيل السياسيّ المغربيّ .
قد تظهر في مجتمع ما متخلف اقتصاديا وسياسيّا محاولات للإصلاح ولمحاربة الفساد، فتُجند لهذه الغاية العُدَّة التقنية والعتاد البشريّ، وتُسّخر المحاكم، ورجال الأمن، وتُشكّل الهيئات من أجل المتابعة عن قرب، إلخ. لكن قد لا يحصل من ذلك ما يُتوخى. هذا ما حدث في المغرب نهاية القرن الماضي. فقد تكون النيَّة المعلنة هي دمقرطة المجتمع، وتطهير السياسة من الفساد والممارسات التي تزج بالدولة في أتون التخلف وتضيع على المجتمع فرص التنمية، لكن المعيق الحقيقي ليس إلا القواعد غير المكتوبة التي تسري في روح السلطة؛ وتَضافُرِها مع القواعد المكتوبة التي تَشبّع بها المجتمع. تلك هي وجهة نظر الباحثيَن بخصوص ما حصل بالتحديد في نهاية القرن العشرين في المغرب تحت مسمَّى ”حملة التطهير” التي أشرف عليها وزير الداخليَّة القوي إدريس البصري، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني. وقد سميت ”حملة التطهير” لأنها كانت تستهدف محاربة تهريب السلع والأموال و التهرب الضريبيّ، والرشوة، ومظاهر الفساد الكثيرة التي قيل إنّها تُضيّع على خزينة الدولة مبلغ 27 مليار دولار، أي ما يعادل ثلث الناتج الداخل الخام المغربي. لكن كل ذلك تم داخل متخيل سياسيّ وقانونيّ تحدده مرجعيَّة تاريخيَّة تتداخل في تشكيلها ثلاثة روافد أو سِجلات هي أولا: القانون العرفيّ للمجتمعات الانقساميَّة، حيث إنّ السمة الأساس المميزة للنظام المعياريّ لهذه المجتمعات التقليديَّة تتمثل في غياب أيَّة علاقة سببيَّة بين القاعدة من جهة والطابع الماديّ لانتهاك من نوع ما. بحيث قد يُنجي القَسَمُ الجماعيّ(الحلف بالله) من العقاب؛ حتى لو كانت الجنايَّة هي القتل العمد الذي يشهده الجميع. ثانيا: الشريعة الإسلاميَّة؛ حيث : » الانفصال الكليّ بين الطابع المادي للمخالفة والبيّنه –عليها- تظلّ قائمة، لكن ما يهم هو الجانب الصوري للشرع « [22]، بمعنى أنّ القاعدة لم تكن صنيعة المجتمع، و إنما مُتلقاة من مصدر علويّ ينبغي للمسلم أن يتوافق سلوكه مع مقتضياته صوريا، أما من الناحية العمليَّة، فإن التّداول بشأن القاعدة يخضع لتأثير ثلاثة فاعلين هم: الجماعة السياسيَّة، والسلطة السياسة، والفقهاء. لكن حتى في هذه الحالة، يظهر هنا تكيف الفقه مع العرف المحليّ.
أما السجل الثالث المكون للمرجعيَّة السياسيَّة و القانونيَّة المغربيَّة الراهنة فهو ”القانون الوضعيّ في نظام سلطويّ”. بحيث تم تكييف هذا القانون مع مزاج السلطة المركزيَّة. وفي هذا السياق يؤكد الباحثان مايأتي: » لم يتوصل النظام السياسيّ الراهن لا إلى ضمان الانتقال إلى مكان عموميّ للتداول بشأن القاعدة، ولا، بتعبير آخر، إلى بناء ديمقراطيَّة بإمكانها إفراغ المستوى الدينيّ والأخلاقي للقاعدة، فتجعل منه أداة، ووسيلة لتنظيم من نوعٍ ما، أو أداة لبلوغ إرادة عيش مشترك، وزمني، ومستدام، على قاعدة مداولات دوريَّة متجدِّدة[23] «
ينتهي الباحثان في قراءتهما الأنثروبولوجيَّة السياسيَّة إلى أنّ الحملة إيّاها لم تكن سوى عمليَّة إعادة مركزة للسلطة في يد ”المخزن”، بعد أن أحسّ بوجود خطر ضياعها من بين يديه؛ بسبب ظهور فاعلين سياسيّين جدد كانوا تحديدا هم: المقاولين، ومهربي السلع، والمتهربين من دفع الضرائب. بحيث بدا خطرهم جليّا على النظام؛ فقرَّر القضاء عليهم حتى لا يتقوّوا أكثر فيشكلوا تهديدا للسلطة المركزيَّة المحتكرة للشرعيَّة. فكانت الحملة أشبه بـ”الحرْكة” التي كان يشنها السّلطان في مغرب ماقبل الحماية على القبائل المتمرِّدة من أجل إخضاعها وتطويع عريكتها، و جباية الضرائب منها. بل إنّ الأمر قد تمّ، بحسب تعبير الباحثين، على نحو يُذَكر بنموذج الحكم المطلق في الخلافة الإسلاميَّة كما عُرفت في التاريخ. والذي يستلزم »انمحاءً لمثنويَّة القاعدة وكذا إمكانيَّة التداول بشأنها معا، سواء في مرحلة إنتاجها أو في مرحلة تلقيها من لدن المجتمع [24]« . وبناءً على ذلك، يتبين أنّ التوتر بين المكتوب وغير المكتوب من القواعد قد ضيع على الدولة فرصة الخروج من مأزقها التاريخيّ الذي لا اسم له سوى الاستبدادِ.
IV
يبدو أنّ فعل القواعد غير المكتوبة يُجاوز نطاق المجتمعات، إذ يظهر أنّ العالم بأسره اليوم أضحى شبيهًا بالمجتمع البشريّ من جهة أنّه محكوم، هو كذلك، بقواعد غير مكتوبة، أو مبادئ غير معلن عنها، تتجلى آثارها في مناطق غموض شاسِعة يتغذى منها النظام العالميّ-الجديد- الذي نعيش فيه. بحيث يلاحظ أنّ ثمة ميلاً واضحًا إلى صناعة وجه جديد للتوحش، وضرب مبتكر من الفوضى المدمّرة للأوطان، واتجاهًا حثيثًا إلى صناعة الفقر والنُّدرة، ونشر البؤس، وتعميق واقع الخصَاصَةِ والمجاعة في ربوع المعمور[25]. يحدث كل ذلك في عالم لا يكفّ عن الجهر بتبنّي المثل الإنسانيَّة العليا، ولا يفوّت فرصةً في قنواته ومؤسساته الرسميَّة المتعددة للإعلان عن ”حُسنِ نِيّاتٍ” تتعلق بالحدّ من انتشار الجريمة المنظّمة، ومكافحة الإرهاب، ومناهضة التمييز والتفاوتات الاجتماعيَّة والمجاليَّة، وحماية البيئة، إلخ. فكيف نفسر هذه المفارقة؟ وكيف يسوغ في وعي الإنسانيَّة اليوم أن تصير القيم النبيلة في مهبّ الريح؟ ربما يصح القول بأنّ عالم اليوم أفضل حالا من سابقه، في كثير من النواحي يمكن أن يَشملها تعبير التقدم الكميّ أو التقنيّ، كما وظفه هربرت ماركيوز Herbert Marcus (1898-1979) لكن هذا العالم أسوأ في غيرها، أي في جانب التقدم الكيفيّ. إذ البديهيّ أنّ عالمنا لم يعد يستطيع تحمّل المزيد من الكوارث التي يتسبّب فيها الإنسان، فقد طغت يده حتى استنزفت الموارد الطبيعيَّة، وهدّدت النظام البيئي بالاختلال، وشروطَ الحياة على الكوكب بالزّوال. أما على صعيديْ الاجتماعيّ والسياسيّ، فإنّ مختصر ما نحن فيه أنّ ”قانون الغاب” الذي عاش عليه الجنس البشري قرونًا طويلة مازال يتحكم على نحو خفيّ في السلوك البشريّ في نطاقه العامّ. والحقّ أنّنا إذا قارنّا عمر الإنسانيَّة كما نعرفها اليوم بعمر ماضيها السحيق؛ أي قبل أن يؤسِّس الإنسان المدن والدول مذ ما يربو على خمسة آلاف سنة من الآن، ويكتشف الزراعة وتدجين الحيوانات، وتسمو نفسه عن الصغائر (الأنانيَّة والخمول بحسب رأي جون جاك روسو)، فإنّنا سنتبيّن بالفعل أنّ البشريَّة تضرب بجذورها في ”قارة مجهولة” حاولت الأبحاث العلميَّة الإثنولوجيَّة و الأنثروبولوجيَّة و الاثنوغرافيَّة- على الخصوص- الكشف عن بعض جوانبها. كما سيظهر أنّ الميل إلى العدوان وسلوك التوحش أقرب إلى نفس الإنسان العميقة من سلوك التعقل والجنوح إلى السلم. ولهذا السبب يُعرف الإنسان بالاستناد إلى الحيوان، وبالمقارنة معه. وتُعرّف المدنيَّة بأنها تمرين وتربية، و”هجرة إلى الإنسانيَّة”، إن شئنا استعمال تعبير المفكر التونسي فتحي المسكينيّ…
تمتلئ المجتمعات العربيَّة_ الإسلاميَّة بالقوانين، وبالمؤسسات، وبالشعارات الجميلة، غير أنّ واقعها ينبئ بالكثير من الاختلالات البنيويَّة، التي لاتحتاج إلى كثير من التقصي لإدراكها. ويبدو أنّ السّبب الكامن وراء كل ذلك هو المبدأ غير المكتوب الذي يسري في روحها، عنينا به مبدأ التّبعيَّة أو الارتهانl’hétéronomie /Heteronomy ، من حيث إنّه نمط في انبساط كينونة الإنسان. يظهر أنّ جوهر الإشكال في الموضوع متعلق بأنّ هذه المجتمعات لم تتغذّ في روحها بعد من معنى هذه القاعدة غير المكتوبة التي ينبغي أن تسري في روح الفرد، عنينا بها الاستقلاليَّة في الوعي والسلوك، وفي الرؤية إلى الكون عمومًا. وآيَّة ذلك أنّ هذا النمط من المجتمعات لايزال يثير استغراب الآخر الغريب، البعيد منه والقريب، حين تحكم حياته معاني”الشرف”، ويستحكم في معيشه الخمول، والاتكاء على القدر، والازدواجيَّة في المعايير، والفُصام الجمعيّ. فكثيرا ما نرى في الأماكن العامة شعارات من قبيل ”النظافة من الإيمان”، و”العلم نور والجهل عار”، إلخ. لكن واقع الحال يفصح عن مفارقة تهمّ واقع المجتمعات العربيَّة على وجه الإجمال، إذ لاحظ الكثير من الأجانب أنّ سلوك الكائن العربيّ تجاه الفضاء العام أبعد عن المدنيَّة بأميال، ومن ذلك مثلا التزاحم، والتدافع في الأماكن العامة، وإلقاء الأزبال حيثما اتفق، وعدم احترام الأدوار في المرافق العموميَّة، والبصق في الفضاء العام، في حين أنّ كل هذه الأنواع من السلوكات يمكن أن تعتبر في بعض الثقافات انتهاكا ليس للفضاءات العامة فحسب، وإنما تعديًا سافرًا على المساحات الخاصّة[26] للأفراد. ولا حاجة إلى ذكر مظاهر الغرابة الكثيرة الأخرى التي تملأ المعيش اليومي لهذه المجتمعات، والتي يمكن اكتشاف نماذج لها في ما سجله الياباني نوبوأكي نوتوهارا في كتابه ”العرب”[27]، وهو في الحقيقة كتاب يمكن أن يعتبر بحقّ معلمة أثريَّة في ذم الحياة العربيَّة، والشخصيَّة العربيَّة و أخلاقها و نمط تديّنها…
تكون القواعد غير المكتوبة ذات أهميَّة في المجتمعات كافّة، لكنّ أثرها يظهر جليًّا في تلك التي شيدت واقعها بعمل أيديها، وكان هذا الواقع نتاج أحلامها الكبرى التي سرت في روح الأفراد، وملأت مساحة متخيّلهم السياسيّ، حتى تشبّعوا بها وتجنّدوا لتحقيقها، وبذلوا مقدارَ مايستطيعون من أجل ذلك. يُحس الفرنسيّ مثلا بأنّ روحًا تسري في كيانه، مضمونُها فكرة الجمهوريَّة وأقانيمِها الثلاثة التي قامت عليها- وهي: الحريَّة والمساواة والإخاء- ويَعتبر أنّ من واجبه الدفاع عن معنى المشترك الانسانيّ، وأسّ الجمعيّ le collectif الذي تشكل على إثره. و يحسب كل ذلك بمثابة بوصلة رمزيَّة توجه سلوك الفرد- المواطن. على هذا النحو تُبتدع الأمة، أو الجماعة السّياسيَّة، في مساحة الرمزيّ الذي أسهم فيه الجميع، وبَسَط التاريخ إمكاناته. فَتعرّف فيه كل فرد على نفسه في إطار المجموع الذي يدوم حتى لو انتهى الجزء: الفرد. فلا يمكن أن نتصّور أمة حقيقيَّة لا تستمد معناها من العمل الدّءوب على نفسها، فلا هي ابتكرت نفسها في الزمان، ولا هي تجذرت في معنى ”الإنسانيّ”؛ حتى حسبت أنّ وعاء الدين التاريخيّ يفي بالغرض، فكانت في غفلة من أمرها، وذهلت عن حقيقة أنّ الدين ماهو إلا جزء من النظام الرمزيّ، أي الثقافة إجمالا. وأنّ الارتكاز على مكوّن الدين وحده لا يجعل الجماعَةَ السياسيَّة سوى كيانٍ حطّه السيل من علٍ سرعان ما تظهر عليه علامات التداعي والتفكك؛ لأنّ ما تحتاج إليه الجماعة السّياسيَّة اليوم ليس هو نموذج المتدين، أو حتى المتدين جدا، الذي استنزف الدّين كل طاقته الروحيَّة، واحتكر كل استعداده الأخلاقيّ، حتى صارَ كائنًا سلبيا تجاه الشأن العام، وموجودا هلاميّا لايلوي على شيء؛ حين زُج به في دوامة الاستهلاك، وأصيب بآفة الغباء السياسيّ، لمّا طال به أمد الاستبداد [28]، وأصبح يسوغ في ملته الاستكانة أمام القدر، والتطبيع مع القبح، بل وإعادة إنتاجه، والسعي في ترسيخِه كلما أتيحت له الفرصة لفعل ذلك، لأنّ نطاق التفكير لديه لايتعدى حدودا رسمها النظام العام للأشياء في عالم لا يملك هو مفاتيح فهمه. وحاصل القضيَّة أنّ ما يلاحظُ اليوم من تشوهات في حياة الجماعات السّياسيَّة يرجع بالأساس إلى فقدان الاندماج الرمزيّsymbolic integration ؛ أي الانتماء إلى حلم جمعيّ شارك فيه الأفراد أنفسهم، وفهموا مضمونه، بدلاً من تلقي ذلك من مصادر علويَّة أنهكتها التجربةُ البشريَّة في التاريخ؛ حين كانت هي مُعتمدها الأساس في فهم الواقع وتأويل وِجهته. إنّنا نشير إلى هذا المعنى من التديّن الضّحل بالتحديد [29] مع العلم أنّنا لا يمكن أن نحرم الناس من ”حقهم في الرجاء” بحسب تعبير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، لكن ينبغي رسم حدود بين هذا وذاك. والوعي بضرورة حيازة القدرة على تكوين ”تجربة مُوسّعة” تَغتني بالمتاح البشريّ وتغنيه؛ تجربة قادرة على العطاء مثل قدرتها على الأخذ.
خاتمة
نودّ أن نؤكد في ختام هذه الورقات على أنّ ما أوردناه لا يمكن اعتباره إلا مقدَّمة منهجيَّة للبحث في دلالات القواعد غير المكتوبة وآثارها في الممارسة الاجتماعيَّة والسّياسيَّة أيضًا، وكذا في السلوك الأخلاقيّ للإنسان المعاصر عموما، وللمغربيّ منه على وجد التحديد. وأن ننبه إلى أنّ بحثًا من هذا القبيل لا يمكن أن يتم إلا إلى بنوع من الجرأة الدافعة نحو اختراق حدود التخصصات والمعارف. حيث إنّ تسليط الضوء على مثل هذا الموضوع الذي يصعب القبض عليه بتوسّل الاستقراء يقتضي الاستفادة من مجموع المعارف الإنسانيَّة المتاحة.
إنّ للعمل الفكري مهمة تقتضي منه إيجاد قواعد بديلة؛ كلما وجد الواقع هشّا يحتاج إلى إعادة بناء، هكذا فعل المفكرون في عصر الحداثة الأَوّل، حين كانت الأمة تعتبر الامتداد الروحيّ لفكرة الإنسان-الفرد الذي كان تركيبة من مفاهيم فلسفيَّة منها : العقل( ديكارت)، والتسامح (جون لوك _فولتير)، والحريَّة (كانط) والتاريخ (هيغل). وذلك قبل أن تكشف العلوم الإنسانيَّة منذ القرن التاسع عشر عن وجوه أخرى له، أسهمت في تسليط أضواء جديدة على وجوده المتناهي. وأخيرا، يظهر أنّ حاصل ما نحن فيه من أمر مايلي: إذا كان مطلوبك كشف سر تقدم الشعوب، لا تسل عن قوانينها المكتوبة ومؤسساتها الرّسميَّة، بل سَل عن قواعدها غير المكتوبة ومؤسساتها غير الرسميَّة، فذاك ما يبقى في وجدان الأفراد بعد أن ينهار كل شيء.
قائمة المراجع
العربيَّة:
الكواكبي، عبد الرحمن. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تقديم مجدي سعيد، القاهرة: دار الكتاب المصري، سلسلة » في الفكر النهضوي الإسلامي « 2011.
نوتوهارا، نوبوأكي. العرب: وجهة نظر يابانيَّة،كولن: منشورات الجمل، 2003.
الأجنبيَّة
Azari . R Julia & Jennifer K. Smith. unwritten rules: informal institutions in established democracies, Perspective on politics, vol 10.n°1, )March 2012(, pp.37-55.
Cometti, Jean-Pierre. « Qu’est ce qu’une règle ? » Éduction et didactique, vol 2.n °2, (septembre 2008). PP. 139-148 .
Erdi , Peter. Ranking: the unwritten rules of the social game we all play, Oxford university press, 2020.
Gauchet Marcel, L’avènement de la démocratie
Hibou Beatrice & Mohamed Tozy. Une lecture d’anthropologie politique de la corruption au Maroc :fondements historique d’une prise de liberté avec le droit,Tiers monde, vol.41, no.161, corruption, libéralisation, démocratisation, janvier-mars 2000, PP 23_47 ,
lefort Claude,,,,
Mauss Marcel, Essai sur Le don, formes et raison de l’échange dans les sociétés archaïques, Puf, coll. « Quadriges grands textes »2007.
Merleau-Ponty, Maurice. le visible et l’invisible, Paris : Gallimard, coll. «tell », 1988.
-Maurice Merleau-Ponty, rapport de Maurice Merleau-Ponty pour la création d’une chaire d’anthropologie sociale », la lettre du collège de France en ligne, hors-série 2 /2008 , mis en ligne le 24 juin 2010,consulté le 10 octobre 2010. URL :http //journals . openedition.org/lettre-cdf/229.
Nancy, Jean luc, verité de la démocratie,
North, Douglass, Institutions, constitutional change and economic performance, Cambridge university press, 1990.
Plot, M. (ed), Claude Lefort, A thinker of the Political, Palgrave Macmillan, 2013.
Treece, M . Communication for Business and the Professions,4th edition, Allyn & Bacon , 1989.
Ziegler, Jean. les nouveaux maitres du monde et ceux qui leur résistent, Paris : Arthèm fayard, 2002.
[1] حاولت حديثًا بعض البحوث العلميَّة الخوض في هذه المسألة، والمثال الذي يحضر فيها هو ”التصنيف” بصفته قاعدة غير مكتوبة يخضع لها الجميع. ينظر:
Peter Erdi, Ranking: the unwritten rules of the social game we all play, ( Oxford: Oxford university press,2020.)
[2] Jean-Pierre Cometti, « Qu’est ce qu’une règle ? » Éduction et didactique, vol 2.n °2, (septembre 2008). P. 147. لنلاحظ أيضا أنّ استعمال اصطلاح ”المخزن” في كثير من سياقات النقاش في المغرب المعاصر يحمل هذا المعنى الملغز، والذي يراد منه التعبير عن شيء ما غير مكتوب، لكنه يسري في روح المجتمع ويتحكم في مفاصل الدولة، ويشتغل بصفته عامل كبح للتغيير، وإعاقة التقدم ، إلخ. وبصرف النظر عن معنى ”المخزن” و”الإرث المخزنيّ”، في دلالته التاريخيَّة، لاحظنا أياما قليلة قبل إعلان الحجر الصحيّ في المغرب يوم 19 مارس 2020، تهافت فئة من المغاربة الميسورين أو المتوسطين على المحلات التجاريَّة الكبرى لاقتناء ما لا يلزمهم ( الورق الصحي) بكميات كبيرة جدا؛ حتى أثار ذلك السلوك السّخريَّة عند الكثير من الناس. فماذا كان يدور في خلد هؤلاء القوم حين أقدموا على فعل كهذا؟ ألا يتعلق الأمر بانعدام الثقة في الدولة وفي مؤسساها ؟ هل هي مجرد أنانيَّة احتكاريَّة وغباء مزمن؟ لابد أنّ ثمة قاعدة غير مكتوبة توجه هذا السلوك غير المسبوق في تاريخ المغرب المعاصر. بل ربما لايذكّرنا ذلك إلا بأيّام ”السيبة”، و”الحركة”، حتى وإن اختلف الشكل فإن الجوهر واحد.
[4] Douglass North , Institutions, constitutional change and economic performance,( Cambridge university press, 1990),p. 3.
[5] Marcel Mauss, Essai sur Le don, formes et raison de l’échange dans les sociétés archaïques, (Puf, coll. « Quadriges grands textes »2007), 248p.
[6] نشر كتاب ”المرئي واللامرئي” بإشراف الفيلسوف الفرنسيّ كلود لوفور. ينظر:
_Maurice Merleau-Ponty, le visible et l’invisible,( Paris : Gallimard, coll. «tell », 1988) ,360p.
[7] Maurice Merleau-Ponty, rapport de Maurice Merleau-Ponty pour la création d’une chaire d’anthropologie sociale », la lettre du collège de France en ligne, hors-série 2 /2008 , mis en ligne le 24 juin 2010,consulté le 10 octobre 2010. URL :http //journals . openedition.org/lettre-cdf/229. Paragraphe 9.
[8] Ibid., 13.
[9] Ibid., p.17.
[10] ينظر بهذا الخصوص :
- Plot, (ed), Claude Lefort, A thinker of the Political, (Palgrave Macmillan, 2013).
[11] ربما نفهم لهذا السبب الدواعي التي جعلت نفرا من المفكرين الصينيين اليوم يجددون الدعوة إلى إحياء الكونفوشيوسيَّة . ومنهم الأستاذ في جامعة هارفارد تو وي مينغ على سبيل المثال.
[12] J.l. Nancy, vérité de la démocratie, , p.
[13] Marcel Gauchet,
[14] Claude lefort,
[15] Marcel Gauchet, L’avènement de la démocratie ;;;;
[16] Julia R. Azari and Jennifer K. Smith, unwritten rules: informal institutions in established democracies, Perspective on politics, vol 10.n°1,( March 2012), pp.37-55.
[17] Ibid., p. 38.
[18] وهو هنا الوثائق الكونفدراليَّة التي صيغت من لدن المؤتمر القاريّ الثاني أواسط سنة 1776.
[19] تتاح أمام السياسيّ دائما فرصة ابتداع التقاليد الحميدة، والأعراف التي تعود بالنفع على عموم الناس لكن القليل من السياسيّين يستوعبها. عرف المغرب الحديث رجالات عظماء في سيرتهم؛ بما خلدوا من آثار مجيدة، من عبد الله إبراهيم إلى عبد الرحمان اليوسفي مرروا برموز اليسار المغربي الوطنيّ الآخرين. فقد كان عبد الله إبراهيم زاهدا في الدنيا إلى حدّ كبير، وورد على لسان المقربين من الراحل عبد الرحمان اليوسفي أنّه رفض أموال هيئة ”الإنصاف والمصالحة”، ولم يطلب يوما معاشا رغم حاجته إليه، أما تعويضات تنقلاته، حين كان يشغل منصب الوزير الأول، فقد كان يحيلها على صندوق التضامن مع العالم القروي. أما في السنوات الأخيرة، بعد دستور 2011، فإنّ ما كان يفُترضُ أن يصبح عرفا سياسيًّا، أسسه الراحل اليوسفي مثلا قد انقلب إلى ضدّه عند رئيس حكومة مغربيّ من الحزب الإسلاميّ، بحيث استفاد من تقاعد سمين، بعد أن شنّ حربا ضروسا على الفقراء و الطبقة المتوسطة. بل إنه انبرى يدافع عن مشروعيته وأحقيته به، متذرعا في ذلك بأنّه صار جزءا من تاريخ المغرب ! ولابد أنّ التاريخ سيذكره بما فعل.
[20] تورد الباحثتان( المرجع السابق ص 44). من رسالة للرئيس توماس جفرسون مايأتي: »إن لم يتم تعيين حدّ ما لخدمات رئيس مجلس الشيوخ من قِبَل الدستور، أو يتم تعزيز هذا الحد بالممارسة، فإنّ ولايته التي هي بالاسم أربع سنوات، سوف تصبح في الواقع مدى الحياة، ولقد أبدى التاريخ كيف أنّ ذلك ينحرف بسهولة إلى وراثة. وإني من جهة إيماني بأنّ حكومة تمثيليَّة لفترة قصيرة هي ما ينتج أعظم مراتب السعادة للنوع البشري، أرى أنه من الواجب علي أن لا آتي بأيّ فعل قد يكون بالجوهر شاذّا عن ذلك المبدأ، وإني لا أريد أن أكون أنا الشخص الذي جَعلَ، وهو يتجاهل ما يبدو أنه عُرف معقول وَضَعه سلفٌ مشهور، يُقدمُ النموذج الأول على التمديد خارج الحد الثاني للولايَّة الرئاسيَّة. « مصدر النص:
Letter to the Vermont State Legislature, December10, 1807; quoted by Neale 2004, 5.
[21] Beatrice Hibou et Mohamed Tozy ,une lecture d’anthropologie politique de la corruption au Maroc :fondements historique d’une prise de liberté avec le droit. Tiers monde, vol.41, no.161, corruption, libéralisation, démocratisation,( janvier-mars 2000), PP 23_47 ,
[22] Ibid., p.30.
[23] Ibid.,p.26.
[24] Ibid.,p.35.
[25] يؤكد المفكر السويسريّ جون زيغلر، وهو المقرّر الخاص المعتمد لدى منظمة الأمم المتحدة المكلف بمسألة الحقّ في الغذاء عبر العالم، أن ملايين البشر على الكوكب يموتون من جراء الجوع وأنّ البشريَّة اليوم كادت تُطبِّع مع هذا الواقع الفظيع، وتتعامل معه ببرودة شديدة. يحدث ذلك في كوكب مليء بالخيرات الطبيعيَّة، حيث إنّ وسائل الإنتاج المتطورة اليوم جعلت الأرض قادرة على توفير الغذاء لما لايقل عن 12 مليار إنسان، والحال أن التعداد السكانيّ لا يُجاوز الستة ملايين إلا قليلا. بمعنى أن المتوفر من الغذاء اليوم يغطي ضعف السكان. ورغم ذلك نجد أنّ زهاء 826 مليون عير العالم يعانون نقصَ الغذاء الحاد والفتاك . ويوكد زيغلر على أنّ استمرار هذا الوضع صنيعةٌ بشريَّة، لأن المعادلة بسيطة مفادها: أن من يتوفر على المال يأكل ومن لا يتوفر عليه لا يستطيع الأكل، ولذلك فإنّ كل ميت من جراء الجوع لن يكون إلا ضحيَّة جريمة …
يُنظر مثلا:
Jean Ziegler, les nouveaux maitres du monde et ceux qui leur résistent,( Arthèm fayard, 2002).p.15.
[26] يمكن الاطلاع على تفاصيل هذا الرأي في :
M .Treece, Communication for Business and the Professions,4th edition, ( Allyn and bacon , 1989).
[27] ينظر: نوبوأكي نوتوهارا، العرب وجهة نظر يابانيَّة،)كولن : منشورات الجمل، 2003(.
[28] يذكر الكواكبي بخصوص هذه المسألة في تحفته الأدبيَّة الجميلة ما يلي:» الاستبداد يسلب الراحة الفكريَّة، فيضني الأجسام فوق ضناها بالشقاء، فتمرض العقول، ويختل الشعور على درجات متفاوتة في الناس. والعوام الذين هم قليلو المادة في الأصل قد يصل مرضهم العقليّ إلى درجة قريبة من عدم التمييز بين الخير والشر، في كل ماليس من ضروريات حياتهم الحيوانيَّة. ويصل تسفل إدراكهم إلى أن مجرد آثار الأبهة والعظمة التي يرونها على المستبد وأعوانه تبهر أبصارهم، ومجرد سماع ألفاظ التفخيم في وصفه وحكايات قُوّته وصولته يزيغ أفكارهم، فيرون ويفكرون أن الدواء في الداء، فينصاعون بين يدي الاستبداد انصياع الغم بين أيدي الذئاب حيث هي تجري على قدميها جاهدةً إلى مقرّ حتفها « ينظر:
عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تقديم مجدي سعيد، )القاهرة: دار الكتاب المصري، سلسلة » في الفكر النهضوي الإسلامي « 2011(. ص177.
[29] ليس ثمة شيء يدعو إلى الفخر عند أمة لا يزال كبارها في حاجة إلى تعلم آداب دخولِ المرحاض، ويتساءل ”علماؤها” : هل المرأة إنسان ! وهل يجوز نكاح الجن ! وما جنسه ! وهل يجوز أكل لحمه ! ومدار معظم حياتها الفكريَّة على الهوامش والبذاءات التي تضيع عليها فرص الوعي بمعنى وجودها والتحديات التي يفرضها عليها شرطها التاريخيّ هنا والآن ..
*المصدر: التنويري.