لا جرمَ أن يتبوَّأ الفنّ منزلةً أثيريَّة في تاريخِ الشعوبِ، فهو مِن أقومُ المسالِكِ على تَصحِيحِ مساراتِ الإنسانِ السلوكيَّة والفكريَّة والروحيَّة، وترشيدهِ لبلوغِهِ أُفقًا تخيليًّا متَّسِعًا يتجاوزُ مبتغاهُ الماديِّ والشهوانيِّ الذي يحجبُ عنهُ الرُّؤية الجماليَّة الفاتنةِ لهذا الكونِ الفسيحِ، ويمتدُّ الفنُّ باعتِبارهِ سليل قوى ناعمَة لمجابهةِ قوى الشرِّ بصورها القبيحةِ المتفشِّية في هذا العالمِ، عسَى أن يُصلِح ما أفسدتهُ رُحَى الحروبِ، بنشرِ ترانيمِ السَّلامِ والوقوفِ إلى جانبِ المضطَهدين ومُكاتفةِ قضاياهم في أحقيَّةِ نيلِ الحريَّةِ والتشبٌّثٍ بالأرضِ ودفعِ جبروتِ الحركاتِ الاستعماريَّة.
وتحوزُ الفنَّانة التشكيليَّة “رانيا البيايضَة” ابنَةُ مدينةِ الكركِ على فَلسَفة جماليَّة فريدةَ تقوم على توشيج الصِّلةِ بينَ الفنِّ والإنسانِ من خلالِ البحثِ عن مكمَنِ جراحَاتِهِ، وتفسيرِ أزماتِه الوجوديَّة والنفسيَّة ولكن وفقَ منحَى تراجيديِّ صامتِ أينَ تَبوحُ الألوانُ والأشكال المتراقصةِ في حيِّز اللَّوحةِ عن دلالاتِها المضمرةِ عبرَ ما تُنتِجهُ من رسائِل صامتةِ تقفُ العينُ منها محلَّ الإعجاب، والقلبُ منها محلَّ الافتِنانِ، أما العقُل فيتكفَّلُ باحتواءِ تلكَ الرُّموز ومن ثمَّ حشدَها في الذَاكرةِ حتَّى يتسنَّى لهُ فكِّ شيفراتِها ومكاشفةِ هندستِهَا الأسلوبيَّة، وفهمِ صورها الأخيليَّةِ المنزاحةِ فَيتأتَّى لهُ في النِّهايةِ استبصار مَعانيها المثقلةِ بالمواجعِ الإنسانيَّةِ.
والفنُّ التشكيليِّ هو قرينُ الأدبِ ذلكَ أنَّهما يتأسَّسانِ على توريدِ المواضيع ذاتِها ولكن ضمن مجالاتٍ تعبيريَّة متباينةِ بمعنى أنَّهما يختصَّان بتقييد تلكَ النُّقلات الوجدانيَّة، البواعِث الشعوريَّة، المتاهاتِ الفلسفيَّة التي تعتلجُ النفسَ الباطنيَّة فتنعكسُ أصواتًا وألفاظًا واستعارتٍ ومجازاتٍ هذا بالنسبةِ للأدبِ، وتتبدَّى ألوانًا وزخارفًا بالنسبةِ للفنِّ التشكيليِّ وكأنَّ النَّص السرديِّ أو الشعريِّ هو لوحةٌ تشكيليَّة ناطقة، أما اللَّوحة التشكيليَّة ذاتَها فهي نص سرديِّ بطاقاتٍ شعريَّة صامتةٌ.
لعلَّ الصَّرخاتُ والآهاتُ الإنسانيَّة التي تنبعُ من البؤر المرئيَّة في تلاوينِ الصورة التشكيليَّة الخاصة بالفنانةِ رانية البيايضة هو نتاج فعل تثاقفيّ يقومُ علَى تبصَّرُ الخيطَ الرَّهيفِ الذي يفضيِّ إلى معاينةِ علبة الإنسان السوداويَّة ِالتي يأبى الإفصاحَ عن إحداثياتِها الجغرافيَّة، بمعنى أنَّ الفنَّانة تنقلُ للمتلقيِّ ما اِغترفتهُ من معينِ الأدبِ العالميِّ: مآسيِّ كافكا، حكم زوربَا اليونانيِّ، إيقاعاتِ تولستوي الثقيلةِ في روايةِ الحربِ والسَّلام، مشاهد غسَّان كنفانيِّ بسحنتِهَا السرديَّةِ الكئيبةِ، ومن ثمَّةَ تترسَّبُ هذهِ التراكماتِ الروائيَّة بمختلفِ طبوعِها الثقافيَّة في ريشةِ الفنانةِ فتتمظَهر من خلالِ ارتعاشاتِ إبداعيَّةِ تؤطِّرها الصورةِ المؤثّثةِ بالأيقوناتِ البصريَّة، والمعانيِّ الإيحائيَّة الثَّاويةِ في قَلبِ الأسَاليبِ التشكيليَّة ببعدها الإدهاشيِّ، ونمطِها الانزياحيِّ، والألوان الممغنطَة بفعلِها الوجوديِّ وشعائرها الرمزيَّة الخَاصة.
والأسلوبُ يختصُّ بتجميعِ الآثار الفنيَّة والتعبيريَّة والثقافيَّة التي يُخلِّفُها المبدعُ في نصِّهِ المنتجِ، وهذَا لتكوينِ بصمةٍ فردانيَّة تُكاشِف هويَّتهُ وتحدِّدُ فضاءهُ الذي يُمارسُ فيه طقوسَهُ الفنيَّة دونَ المرورِ إلى التنقيبِ عن سيرتهِ والاِستغراق في فحصِ السياقاتِ الاجتماعيَّة والتاريخيَّة الملابسةِ للنَّص أو الخطاب، وهذا ما يبوءُ به الأكاديميِّ الفرنسيِّ جُورج بيفُون: “الأسلوبُ هو الرَّجلُ نفسهُ، إنَّه بصمةٌ من أصابِعهِ بل هو صورةٌ لصاحبهِ فيهِ مَهابتهُ وقارُهُ، وفيهِ من صخبهِ وجفائِهِ”[1].
بناءً على هذا المجال التعريفيِّ تغتديِّ أعمال الفنانة “رانية البيايضة” بمنزلةِ النَّص الصَّامت الذيِّ تُعقدُ على ضفافهِ شيفرةَ الفنانةِ وبصمتِها الخلَّاقةِ، أي أنَّ تلكَ اللَّوحاتِ ماهيِّ إلا إعادةُ تمثُّلٍ لمكنوناتِ النَّفسِ: احتراق وجدانيِّ، انتقاءَ فكريِّ، مجابهةَ فلسفيَّة، نضال إيديولوجيِّ، استفراغ شعوريِّ، بوح عاطفيِّ، وغيرها من المستلزماتِ المكونةِ لبصمةِ المبدعةِ.
1 _ التكثيف الجماليِّ في لوحة فلسطينِ.
راهنت الفنَّانة رانية البيايضَة على الاعتمادِ على نظريَّة التكثيفِ عبرَ التنويع في توظيفِ الأيقوناتِ البصريَّة في حيِّز اللَّوحةِ مع تغذيتِها بطيفِ من الألوانِ التي تتماشَى مع السِّياق المُحايثِ لعملية الإنشاء الفنيِّ، فالتَّكثيف هو المرادِف الاصطلاحيِّ للغنَى الثقافيِّ والترفَ الفولكلوريِّ والتشبُّع الدينيِّ والقدامةِ التَّاريخيَّةِ للشعب الفلسطينيِّ، بخلافِ الآخر أيِّ الاحتلال المغتصب لأرض فلسطين الذي يعانيِّ من نضوب حضاريِّ وتاريخيِّ ودينيِّ فيلجأ إلى التَّلفيق والتزوير للاحتيالِ على الرأي العالميِّ وتأسيس أساطيرِ موغِلَة في الكذبِ بغية تسويغِ التواجدِ في أرضِ المقدَسِ.
وبناءَ على ما تمَّ ذكرهُ يمكننا استيلاد حزمةٍ من الدلالات المركزيَّة وهذا عبرَ استنطاق الأيقونات الكبرى التي تحتلُّ المشهد الأَكبر في الصُّورة:
المِفتَاح: يغتديِّ في اللَّوحةِ اللُّوغو الذيِّ يتكفَّلُ بصونِ التَّاريخِ من السَّرقةِ، فهو يحيلُ لواقعةِ التكاتُف المسيحيِّ الإسلاميِّ أيام صلاح الدينِ الأيوبيِّ، فتحتَ نشوةِ الاِنتصار بالفتح سنة 1187 ميلاديِّ، سلَّم القائدُ صَلاح مفتاحَ كنيسة القيامةِ لعائلتينِ مسلمتينِ وهما عائلةُ جودةُ وعائلةُ نسيبة”[3]، ومنذُ ذاكَ الوقتِ وهُمَا يَسهَرانِ عَلَى رعايةِ الكنيسةِ والتواصيِّ بخدمةِ زوَّارهَا ما يوحيِّ بنشوءِ تعايشُ دينيِّ لامثيلَ لهُ، مخصَّبةٌ تربتُهُ باستِعاراتِ الحبُّ والسَّلام.
علاوةً على ذلكَ فضَّلت الفنانةُ إصباغ المفتاح باللَّونِ البُنيِّ بظلالهِ البرتقاليَّة، مع بقع زرقاءَ تتوسَّطُ واجهتهُ الأماميَّة، ويفرزُ اللَّونُ البرتقاليِّ بمعيَّةِ اللونِ البُنيِّ حزمةً من الأنساقِ الثقافيَّة البالغةِ الأهميَّةِ، منها أنَّ تَجاورَ اللَّونيِّنِ يَعكِسُ “نقطةِ التوازنُ بينَ الروح والجسَد، كما أنَّهمَا منبع الحبُّ الإلهيِّ والتجربةِ الصوفيَّة التي تتَّسم بالنَّقاءِ والطهرانيَّة، كمَا يُتَّخذانِ شِعارًا للإخلاصِ والأمَانةِ “[4].
خريطةَ فلسطين المتعدِّدةِ الألوانِ: تتمَركزُ الخريطةُ في الزاويةِ اليُسرى للوحةِ تُظلِّلها شجرةُ النَّخيلِ، وتعامدهَا اليد بأصابِعها الخماسيَّة المفتوحةِ وفي باطنِها عينٌ شاخصة، تدليلا علَى الرعايةِ الإلهيَّة لتلك الأرضُ الضَّاربةِ في القداسةِ، عدَا ذلكَ فإنَّ التفاعل المزجيِّ للألوانِ في واجهةِ الخريطةِ ينمُّ عن بَشَائِر تلوحُ في الأفقِ تتعلَّق بخلوصِ أرضِ فلسطينِ من سرطانِ إسرائيلِ واستعادةِ أبنائها لابتسامتهِم التي غَابَت عن محياهم منذُ زمنِ النَّكبةِ.
وقد ساقَت الفنانة اليد المفتوحةِ في ثنايَا اللوحةِ تأكيدًا على سطوةِ صورةِ فلسطينِ في المخيالِ الجمعيِّ، فتلكَ اليدُ هيَ أُمثولة أيقونيَّة تتناسَخُ في جميع الدياناتِ والثقافَاتِ الميثولوجيَّة للشعوبِ لتنثالَ عبرَ شبكاتِها التأويليَّة في هيئَةِ مُخرجٍ دلاليِّ متآلف سِياقًا ومقَامًا وهو الحمايةِ والرِّعايةِ.
ففي الميثولوجيَا المغاربيَّة درجَ الشَّعبُ على تسميةِ تلكَ اليدِ بيدِ فاطمةِ الزهراءِ لكونِها تطردُ غوائِل الحسدِ والسِّحر وتقيِّ صاحِبَها من العين، لذلكَ فهيِ توضَعُ في واجِهةِ البيوتِ وعتَباتِ المنازِلِ.
أمَّا في الدياناتِ الوثنيَّة عند بابل وأشور وفينيقيا فهي رمز للخصوبةِ والاستدرار، وديمومةِ الحياةِ والوقايةِ من رجفةِ الموتِ والفناءِ.
بينما يشغل هذا الأيقونِ في الديانتينِ المسيحيَّة واليهوديَّة فضًاء مشبَعًا بالقداسةٍ فهو يدُ مريم الأمينةِ الرامزةِ إلى مناخِ الطَّمأنينةِ التي تَسود بيتُ المقدِس وانمحاقِ مكائِد الشَّيطانِ، وهي أيضًا القلاعُ التيّ يَلوذُ بِهَا أحفاد يوسف الذين مسَّتهم نعمةُ يعقوب وهذَا لِئلَّا تصيبُهم رماحُ الحسدةِ.
قرصُ الشَّمسِ والتمويهِ البصريِّ: تتناسَخُ الشمسُ في اللوحةِ وفقَ مذهبينِ أسلوبيَّينِ:
المذهبِ الأولُ: الشمسُ الناتئةُ في كبدِ اللَّوحةِ للتَّأكيدِ علَى شأوِ قيمِ الحريَّةِ وتشرُّبها في شخصيةِ كلِّ فلسطينيِّ فهيَ مدارُ الكفاحِ، ورأسُ الحِربَةُ التيِّ تدفعُ جيلًا تلوى جيلٍ لرفضِ التواجدِ الاستيطانيِّ بمخطِطهِ التهديميِّ على تخومِ الأراضيِّ الفلسطينيَّةِ.
المذَهبَ الثانيِّ: قد يزيغُ بصرُ الرائيِّ حينًا من الدَّهرِ، فيُخالُ لهُ بأنَّ الشمسَ هيَ برتقالَةٌ مستديرةٌ بشكلِها الماتِع ولونِها الجذَّابِ، ولكأنَّهُ فعلُ إبداعيِّ مخاتلِ من لدنِ المبدعةِ لكَسرِ أفق توقعِ المتلقيِّ ودفعهِ لاستحضار النَّص الغائبِ وهي المجموعةِ القصصيَّة “أرض البرتقال الحزينِ” لرائدِ المقاومةِ الأدبيَّة غسَّان كنفانيِّ، التي اضطلعتَ أبنيَتُها السَّرديَّة بتوصيف هموم الفلسطينيِّ وهو يعيشُ حالةَ الاغترابِ القسريِّ، وعليهِ اقتدرَت الفنَّانةِ على تحقيقِ استراتيجية التَّناص علَى أديمِ لوحتِها التشكيليَّةِ وبذلكَ تتجلَّى نظريةُ التناص التي اصطَنعتها الباحثة الفرنسية من أصولٍ بلغاريَّة “جوليَا كريستيفا” والتي مُؤدَّاهَا أنَّ كلَّ نصٍّ هو عبارةٌ عن فسيفسَاءٍ من الاقتِبَاسَاتِ، وكلُّ نصٍّ هو تشرُّبٌ وتحويلٌ لنصوصٍ أُخرى”[5].
فاللوحةُ التشكيليَّة بدورِها نص سيميائيِّ يتغذَّى على روافِد ومراجعِ لغويَّة حيثُ لا يهمُّ المجال التعبيريِّ المُفارق بقدرِ ما يَهمُّ التوافقُ المقاصديِّ، والتشاكُل الدِّلاليِّ، والانطباع الجماليِّ التَّشاركيِّ.
2- لوحةُ فلسطِين والبرمجةُ الأسلوبيَّة:
قبل أن ترتاد الفنانةُ الأردنيَّة “رانية البيايضة” إلى مخيالِهَا لتوضيبِ المشهدِ الجماليِّ، فهي أولًا تبرقُ الرسائلِ الإيحائيَّة لإثارةِ الرأيِّ العالميِّ للتعاطفُ مع القضيَّة الفلسطينيَّة، فلكأنَّها تروي قصَّة محبكةَ السَّرد، رصينةَ المبنى، باذخةَ المعنى، فلنتأمل فِي تلكَ الحشودِ البشريَّة التي تصوِّبُ نظرَها إلى بيتِ المقدّس لهفةً لتحريرهِ وشوقًا لتعميرهِ بعدمَا تمَّ إجبارهُا غصبًا علَى الهجرةِ وإخلاءِ بيوتِها، فهذا المشهدُ يُعادِلُ مَا قالهُ محمود درويش يومًا في قصيدتهِ “الأرض”:
بلاديِّ البعيدةَ عنّي.. كقلبيِّ!
بلادي القريبةَ مني.. كسجنيِّ!
لماذا أغنّي
مكاناً، ووجهي مكانْ[6]؟
هكذَا تواشجُ الصورةُ كلماتُ محمود درويش وتقاسِمُها غنيمَتَها الجماليَّة، لكونَهما يتهافتانِ على التغنيِّ بالأرضِ، الاستقواءِ بقمحِها، والمكوثِ على روابيهَا، والاستئناسِ بفيضِ غِلالِهَا.
لا تكتفيِّ الفنانةُ بمديحِ الأرضِ، بل تجعلِ الحيَّز الأدنى من اللَّوحةِ نهرًا جاريًا فيهِ حيتانٌ بديعةٍ مع تغليبِ اللَّونِ الأزرقِ الدَّاكن للإلماعة إلى أنَّ السماءَ ستواجهُ الأرض دونما أيَّة حواجز تحتَ مشهدِ النَّهرِ المتدفِّق لإشهادِ الكونِ بأنَّ الفلسطينيِّ بذرةٌ لَن يطالَها الجفافُ وإن أساءَ المزارعُ المتصهيِنُ خدمتَها بوضعِ أسمدةِ البلَى في شقوقِ تُربَتِها.
ونرقبُ في الجهةِ اليُمنى العلويَّةِ منَ اللَّوحةِ امرأةٌ يعتصرُ وجهها ألمًا ومع ذلكَ تُرخي بصرها نحوَ قُبَّةِ الصخرةِ
كإماءةٍ تاريخيَّةِ إلى دورِ النسويَّة العربيَّة في الذودِ عن حياضِ الأقصَى كشاذيه أبو غزال، دلال المغربيِّ، حلوة زيدان، وغيرهنَّ الكثير، حتَّى صارَ التأنيث في فلسطينُ فَخرًا واستحالَ لقبُ السَّيدةِ هضبةً شمَّاء تنبجسُ من عيونِها الكبرياءُ، الشموخ، الصُّمود، وهذا ما يلهج بهِ النصُّ الدرويشيِّ المتاخِم بحدودهِ معَ منظرِ المرأةِ التي تُظللِّ سقفَ بيتَ المقدِس:
عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ
الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ، كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين.
صَارَتْ تُسَمَّى فِلسطينِ.
سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاة[7].
وللطبيعةِ حضورٌ طاغٍ في اللوحةِ وهذا للإبانةِ إلى المفارقةِ التي تُحدِّدُ طَرَفيِّ الصراعَ، بينَ مغتصبٍ شريعتُهُ الحرقِ والكسادِ والقحطِ، وشعبٍ أبيِّ يتغنَّى باخضرار أرضهِ وخصوبةِ تربتهِ كشجرةِ الزيتونِ التي عمَدت الفنانةِ إلى محاذَاتِهَا بِبَيتِ المقدِس لإظهارِ التَّنَاجُز الثقافيِّ بينَهما، فهما من المكوناتِ الأساسيَّة التي تُحدِّدُ ملامح الهويَّة الفلسطينيِّة ونضالِها المستميتِ في سبيلِ إجهاضِها لسياسةِ إسرائيلِ الساديَّة التي تعتمدُ على الإبادةِ والاستئصالِ الجماعيِّ.
ويَجذِبُ بَصرَنَا تلكَ الشَّجرةِ العاريةِ الصَّفراءَ اللَّونَ بفروعِها المتعددةِ وهذا لتذكير المحتلَّ بتجذُّر الفلسطينيِّ في تربةِ أرضِهِ، أمَّا الفروع فهيَ إشارةُ إلى تواردِ الأجيالِ اللَّاحقةِ لاسترفادِ القضيَّةِ، والنَّفخِ في أوصالِهَا أَنفاسًا جديدةِ تستتبِعُ مخلَّفاتِ الحاضر برهانِ المُستقبلِ مع الاِحتِفاءِ بماضيِّ الأجدادِ والتَّأسيِّ بما خلَّفوهُ من وصايَا تنشدُ التحريرِ والكفاحَ وتطهير كلَّ شبر من براثِنِ الاستعمار، وكاستلزامِ فنيِّ آثر الفنانةِ صبغ المشهدِ بالأصفرِ كونهُ اللون الأكثرَ بوحًا، الأكثَرَ دفئًا، الأكثر تأجُّجًا واتِّقَادًا من بينِ الألوانِ، ما يصعبُ إخمادهُ أو تخفيفُهُ فهو يتجاوزُ دائِمًا الطَّوقِ الذي يتوخَّى احتواءَهُ”[8]، وبالتاليِّ فهو تشخيصٌ مثاليِّ للشخصيَّة الفلسطينيَّة إذ تتملكهَا في كلِّ حين النَّغمة التَّمرديَّة التي تُخوِّلها المروقَ عن القوانينِ الصهيونيَّة الإكراهيَّة بمؤدَّاها التَّسلُّطيِّ.
وتأسيسًا على مَا قيلَ: ينبغيِّ للمؤسَّساتِ الجامعيَّة العربيَّة تَفعيلِ النشاطاتِ الجماليَّة ورصدِ المواهبِ الفنيَّة وإدماجِهَا ضِمنَ ورشَاتٍ تخضع للتأطيرِ وهذَا لتوسيعِ دائرةِ التأثيرِ ونقلِ القضيَّة الفلسطينيَّة للعالمِ بناءً على أسلوبٍ إبداعيِّ مائِز يُكثِّفُ من الإيحاءِ ويتوغَّلُ في عمقِ المشهدِ ليبلِّغَ حجمَ المأسَاةِ التيِّ أَلمت بالشَّعبِ الفلسطينيّ. ُ لايؤمنُ علَى الهجرةِ وإخلاءِ بيوتِها، فهذا المشهدُ يُعادِلُ ماقا
[1] مصطفى بن حبيب، البحث عن نظرية الأسلوب، مجلة التراث، دمشق، العدد:93- 94 ,2004،ص87 .
[2] عرضَت اللَّوحة بمناسبة يوم الأرض في نادي الابداع بالكرك: https://www.facebook.com/story.php?story_fbid=5479269785471650&id=484750834923595&m_entstream_source=permalink&paipv=0&eav=Afa_qEuZR8Fhlxk_LGsx9S7D2tf6c
[3] يُنظر: أحمد حامد إبراهيم، نصارَى القُدس دراسة في ضوءِ الوثائِق العثمانيَّة، مركز دارسات الوحدة العربيَّة، ط1، 2007 ،ص430.
[4] كلود عبيد، الألوان: دورها، تصنيفُها، مصادرها، مجد للدراساتِ والنشر، بيروت، ط1، 2013 ،ص129 .
[5] محمد عزَّام، النَّص الغائِب، تجلِّيات التناص في الشِّعر العربي، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، ط1، 2001، ص28.
[6] محمود درويش، الأعمال الشعريَّة الكامِلة، مج2، دار العودة، بيروت، ط 2، 2007 ،ص521 .
[7] حمود عبد الحليم، محمود درويش حناجر تلتقيِّ لتكتمل الصَّرخة، دار البحار للنشر، ط 1، 2009، ص61.
[8] كلود عبيد، المرجع السَّابق، ص107.
_________
*د. محمد الأمين معطى الله مِن الجزاِئر.
*المصدر: التنويري.