إيريك واينر/ ترجمة: إبراهيم قيس جركس
مقدّمة: المغادرة
نحن جياع. نحن نأكل ونأكل أكثر وأكثر، ومع ذلك نظلُّ جياعاً.
أحياناً نختبر الجوع كشعورٍ خافت؛ وأحياناً أخرى، عندما تتعكّر الأمور وتجتاحنا المخاوف بلا هَوادة، يزداد الشعور بالجوع ويهدّد بابتلاعنا.
نلتقط هواتفنا الذكية. بسحبة إصبع بسيطة، يمكننا الوصول إلى كل المعرفة الإنسانيّة: من مصر القديمة إلى فيزياء الكم. نحن نبتلعها كلّها، لكنّنا لا نزال جائعين.
ما هذا الجوع غير القابل للإشباع؟ نحن لا نريد ما نظنّ أنّنا نريده. نحن نظنّ أنّنا نريد المعلومات والمعرفة. لكنّنا لا نريد ذلك. نحن نريد الحكمة. وهنالك فرق. المعلومات خليطٌ من الحقائق، والمعرفة خليطٌ أكثر تنظيماً. الحكمة تفكّك الحقائق، وتفهمها، وتقترح، بشكلٍ حاسمٍ، أفضل السبل لاستخدامها. كما قال الموسيقي البريطاني مايلز كينغتون: ((المعرفة هي معرفة أنّ الطماطم فاكهة. أمّا الحكمة فهي عدم وضعها في سلطة فواكه)). المعرفة تعرف. الحكمة ترى.
الفرق بين المعرفة والحكمة هو فرق نوعي، وليس بالدرجة. المعرفة الأكثر لا تعني بالضرورة حكمة أكبر، بل إنّها في الواقع يمكن أن تجعلنا أقلّ حكمة. يمكننا أن نعرف الكثير، ويمكن أن نخطئ في المعرفة.
المعرفة شيء تمتلكه. الحكمة شيء تفعله. إنّها مهارة، وعلى غرار كل المهارات، يمكنك تعلّمها. ولكنّها تتطلّب جهداً. فتوقّع اكتساب الحكمة بالحظ يشبه توقّع تعلّم العزف على آلة الكمان بالحظّ.
ومع ذلك، هذا ما نفعله في الأساس. نحن نتعثّر خلال حياتنا، آمِلين في التقاط شظايا الحكمة من هنا وهناك. وفي هذه الأثناء، نحن حائرون ومرتبكون. نحن نخطئ بالتمييز بين الأمور العاجلة والمهمّة، وبين الثرثرة والتفكير العميق، وبين الشعبوي والسمين. نحن، كما يقول أحد الفلاسفة المعاصرين، ((نعيش بطريقة خاطئة)).
***
أنا جائعٌ أيضاً –ربّما أكثر من معظم الناس على ما أعتقد، بسبب الكآبة المستمرّة التي رافقتني طوال الوقت بقدر ما أتذكّر. فعلى مَرّ السنين، جرّبتُ وسائل مختلفة لإشباع هذا الجوع: الدّين، والعلاج النفسي، وكتب تطوير الذات، والسّفر، وتجربة سريعة ومأساوية مع الفطر المخدّر. كل طريقة قلّلَت من إحساسي بالجوع، لكنّها لم تُشبِعه بشكلٍ كامل ولا لفترة طويلة.
ثم، في صباح يوم السبت، غامرتُ بالنزول إلى العالم السفلي: إلى قبوي. هناك حيث أخزّن الكتب التي اعتبرها غير مناسبة لغرفة المعيشة. وهناك، وسط عناوين مثل “The Gas We Pass” و”التمويل الشخصي للمبتدئين”، اكتشفتُ كتاب ويل ديورانت الصادر عام 1926 بعنوان “قصّة الفلسفة”. كان له ثقل حقيقي، وعندما فتحت الغلاف، انبعثت منه سحابة كبيرة من الغبار. مسحته وبدأت في القراءة.
لم تولّد كلمات ديورانت فيَّ صَفقٌ من الوحي، ولا رؤيا القديس بولص وهو في الطريق إلى دمشق. شيءٌ ما جعلني أستمرّ في القراءة، لكن لم يكن الأمر مرتبطاً بالأفكار المضمّنة في الكتاب بقدر ما كان ذلك الشغف الذي كُتِبَت به. كان ديورانت رجلاً مُغرَماً بشكلٍ واضح، ولكن بمن؟ بماذا؟
إنّ كلمة “فيلسوف”، من اليونانية philosophos، تعني “مُحبّ الحكمة”. لا يحتوي التعريف شيئاً عن امتلاك الحكمة أكثر ممّا يحتوي إعلان الاستقلال على أي شيء بشأن الحصول على السعادة. يمكنك أن تحبّ شيئاً لا تمتلكه، ولن تمتلكه أبداً. إنّما السّعي هو المهم.
***
أثناء كتابتي لهذه الكلمات، أنا على متن قطار، في مكانٍ ما في شمال كارولينا، أو ربّما في جنوب كارولينا، لستُ متأكّداً. من السهل أن تفقد إحساسك بالمكان، وبالوقت أيضاً وأنت في القطار.
أنا أحبّ القطارات. وبالتحديد، أحبّ ركوب القطارات. لستُ “مولَعاً بالقطارات” -أي عاشق للسّكك الحديدية يشعر بالحماس عند رؤية محرّك SD45 الذي يعمل بالديزل والكهرباء. لا يهمّني تصنيفات الحمولة أو مقاييس السّكك الحديدية. أنا أحبّ التجربة: ذلك المزيج النادر من الانشراح والراحة الذي يوفّره السفر بالقطار.
هناك شيء يشبه السائل الأمينوسي الذي يحيط بالجنين داخل القطار. درجة الحرارة الدافئة، والضّوء الدافئ. تنقلني القطارات إلى حالة أكثر سعادةً ووعياً. إلى زمن ملابس قبل عام 1040 وقبل المدّخرات المالية وتوفير رسوم التعليم الجامعي وخطط معالجة الأسنان والازدحام. زمن ما قبل عصر عائلة كارداشيان.
تعاني حماتي من مرحلة متقدّمة من مرض باركنسون. إنّه مرضٌ قاسٍ، يسلبها قدراتها العقليّة وذكرياتها. لقد نَسِيَت الكثير حتى الآن. ومع ذلك، لديها ذكريات حيّة لرحلات سفرها بالقطار في طفولتها في شمال ولاية نيويورك. من ألباني إلى كورنينج ثمّ إلى روتشستر، ثم رجوعاً إلى ألباني. تعود الأصوات والروائح والمناظر إليها كما لو كانت بالأمس. هناك شيء مميّز بخصوص القطار سيبقى معنا.
الفلسفة والقطارات يتناسبان بشكلٍ جيد. أستطيع التفكير في أيّ قطار. ولا أستطيع التفكير في الحافلة. حتى ولو قليلاً. أعتقد أنّ ذلك له علاقة بالأحاسيس المختلفة، أو ربّما تكون ترابطيّة: تذكّرني الحافلات برحلات الطفولة إلى المدرسة والمخيم، الأماكن التي لم أكن أرغب بالذهاب إليها. أمّا القطارات فتأخذني حيث أريد أن أذهب، وتفعل ذلك بسرعة الفكر.
ورغم ذلك فإنّ الفلسفة والقطارات تمتلك نوعاً معيناً من العفونة: أجزاء كانت حيوية في حياتنا ثمّ تقلّصت لتصير تقليداً قديماً. اليوم، قليلٌ من الناس يركبون القطار إذا اضطرّوا لذلك، ولا أحد يدرس الفلسفة إلا إذا كان بوسع والديه مساعدته. الفلسفة، مثل ركوب القطارات، شيءٌ يمارسه الناس قبل أن يعرفوا الأمور بشكلٍ أفضل.
اشتركتُ في مجلة تُدعى “الفلسفة الآن” Philosophy Now. تصل كل شهرين مغلّفة بظَرف بنّي مثل المجلّات الإباحية. كان أحد عناوينها الأخيرة “هل العالم وهم؟”، وعنوان آخر يسأل: “هل الحقيقي هو نفسه الحقيقة؟” عندما قرأت هذه العناوين لزوجتي، بَرَمَت عينيها. بالنسبة لها، على غرار كثير من الناس، مثل هذه المقالات تجسّد كل ما هو خاطئ في الفلسفة. إنّها تطرح أسئلة عبثيّة وسخيفة ولا يمكن معرفتها. فقط في القاموس تظهر كلمتا “فلسفة” و”عمليّ” بشكلٍ متقارب.
تغرينا التكنولوجيا للاعتقاد بأنّ الفلسفة لم تَعُد مهمّة. من يحتاج إلى أرسطو عندما يكون لدينا خوارزميات؟ تتفوّق التكنولوجيا الرّقمية في الإجابة على أسئلة الحياة الصّغيرة -أين يمكنني العثور على أفضل بوريتو في بويزي؟ ما هو أسرع طريق إلى المكتب؟- نفترض أنّها جيّدة في التعامل مع الأسئلة الكبيرة أيضاً. هي ليست كذلك. قد تتألّق “سيري” في العثور على ذلك المطعم الذي يقدّم البوريتو، ولكن جرّب سؤالها عن كيفيّة الاستمتاع به بشكل أفضل وستجدها صامتة.
أو فكّر في رحلة بالقطار. يمكن أن تخبرك التكنولوجيا، وسيّدها العلم، بكل شيء عن سرعة القطار، ووزنه وكتلته، ولماذا يستمرّ الواي فاي على متن القطار في الانقطاع. لكنّ العلم لا يمكنه أن يخبرك ما إذا كان يجب أن تأخذ القطار إلى لَمّ الشّمل في مدرستك الثانوية، أو لزيارة العم كارل، الذي كان يزعجك دائماً، ولكنّه الآن يعاني من مرض خطير. لا يمكن أن يخبرك العلم ما إذا كان من الأخلاقي قبول إلحاق أذى جسدي بطفلٍ يصرخ ويركل مقعدك. العلم لا يمكنه أن يخبرك ما إذا كان المنظر خارج نافذتك جميلاً أم مبتذلاً. الفلسفة أيضاً لا تستطيع فعل ذلك بشكل قاطع، ولكنّها يمكن أن تساعدك في رؤية العالم من منظور مختلف، وهناك قيمة كبيرة في ذلك.
في مكتبتي المحلية، ألاحظ وجود قسمين من الكتب: قسم “الفلسفة”، وبجانبه قسم “تحوّل الذّات”. في مكتبة بارنز آند نوبل في أثينا القديمة، سيكون هذين القسمين قسماً واحداً. كانت الفلسفة تحوّلاً للذّات. كانت الفلسفة ذات طابع عمليّ. كانت الفلسفة علاجاً. دواءً للروح.
الفلسفة علاجيّة، ولكن ليس بالطريقة التي يكون فيها التدليك بالحجر السّاخن علاجياً. الفلسفة ليست سهلة. ليست لطيفة. وليست مُسَكّنة. إنّها أقرب للمنتجع من الصّالة الرياضية.
***
دعا الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو-بونتي الفلسفة “التأمّل الجذري”. أحبَبتُ الطريقة التي يمنح بها الفلسفة سمَة الانفعالية ونفحة الخطر التي تستحقّها. كان الفلاسفة في السابق يأسرون خيال العالَم. كانوا أبطالاً. وكانوا على استعداد للموت من أجل فلسفتهم، وبعضهم فعلوا ذلك حقاً مثل سقراط. الآن كلّ ما هو بطولي في الفلسفة هو النّضال المَلحمي من أجل الحصول على وظيفة أكاديمية.
معظم المدارس اليوم لا تدرّس الفلسفة. إنّها تدرّس دروساً عن الفلسفات. إنّها لا تعلّم الطلاب كيف يتفلسفون. الفلسفة مختلفة عن المواد الدراسيّة الأخرى. إنّها ليست مجموعة من المعرفة بل هي طريقة في التّفكير -طريقة للوجود في العالم. ليست مسألة “ماذا” أو “لماذا”، بل “كيف”.
كيف. هذه الكلمة لا تحظى بالكثير من الاحترام في هذه الأيام. في عالم الأدب، كتب “الكيف” هي مصدر إحراج، القريب النّاجح والفظّ. الكتّاب الجادّون لا يكتبون كتب “الكيف”، والقرّاء الجادّون لا يقرؤونها. (على الأقل لا يعترفون بقراءتها). ومع ذلك، معظمنا لا يسهرون في الليل وهُم يتساءلون “ما هي طبيعة الواقع؟” أو “لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟” إنّه سؤال “كيف” -كيف نعيش؟- الذي يقبض علينا دون أن يتركنا.
الفلسفة، على عكس العلم، تحريميّة. إنّها لا تصف العالم كما هو فقط، بل كما يمكن أن يكون، مفتّحةً عيوننا على ما يمكن. قال الكاتب دانيال كلاين عن الفيلسوف اليوناني القديم أبيقور ما يمكن قوله عن كل الصالحين: اقرأوهم ليس كفلسفة بل “كشِعر يعزّز الحياة”.
لقد قضيت السنوات القليلة الماضية في استيعاب تلك الشعرية، ببطء، بسرعة الفكر، متشرنقاً في مقعد بجانب النافذة في القطار. لقد سافرت بالقطارات في كل مكان وفي كل وقتٍ ممكن. سافرت إلى أماكن حيث مارس فيها التفكير بعض أعظم المفكّرين في التاريخ. لقد تحدّيت معسكر الرّواقيين في وايومنغ، وبيروقراطيّة السّكك الحديدية الهندية في دلهي. ركبتُ قطار مدينة نيويورك عبر مسار النفق F لفترة أطول ممّا ينبغي على أي شخص. كانت هذه الرّحلات فترات استراحة بالنسبة لي، فرصة لتمديد ساقيّ وعقلي بين الأعمال الفلسفيّة. منحتني هذه الفترات لحظات أو وقفات بأفضل معنى للكلمة.
***
غَوغِل كلمة “فلاسفة” وستجد المئات منهم، ربما الآلاف. لقد اخترتُ أربعة عشر منهم. كيف؟ بعناية فائقة. إنّهم جميعاً حكماء، وإن كانوا بطرق مختلفة. نكهات مختلفة من الحكمة. إنّهم يُغَطّون فترة زمنيّة واسعة -فسقراط عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وسيمون دو بوفوار في القرن العشرين- وكذلك من ناحية المكان: من اليونان إلى الصّين، ومن ألمانيا إلى الهند. جميع هؤلاء الأربعة عشر أمواتاً، لكنّ الفلاسفة الجيّدين لا يموتون حقاً؛ إنّهم يعيشون في عقول الآخرين. الحكمة قابلة للنّقل. إنّها تتجاوز الزمان والمكان، ولا يعفو عليها الزمن أبداً.
تتضمّن قائمتي العديد من الأوروبيين ولكن ليس بشكل حصري. كما أنّ الحكمة ليست حكراً على الغرب. كان بعض فلاسفتي، مثل نيتشه، غزيرو الإنتاج بشكلٍ ملحوظ. بينما آخرون، مثل سقراط وإبكتيتوس، لم يكتبوا كلمة واحدة. (لحسن الحظ، فعل ذلك تلاميذهم من بعدهم). وحقّق بعضهم شهرة كبيرة خلال حياتهم. آخرون ماتوا مجهولين. بعضهم ستعتبرهم فلاسفة، بينما البعض الآخر، مثل غاندي، ربما لا تفكّر فيهم على أنّهم فلاسفة. (لكنّهم كانوا كذلك). قد تكون بعض الأسماء، مثل الأديب وصاحب البَلاط الياباني سي شوناغون، جديدة بالنّسبة لك. لا بأس في ذلك. في النهاية، تتلخّص معاييري على النّحو التالي: هل أحَبَّ هؤلاء المفكّرين الحكمة: وهل هذا الحبّ مُعدٍ؟
نحن غالباً ما ننظر إلى الفلاسفة كعقول منفصلة ومجرّدة من الأجساد. لكنّ هؤلاء الفلاسفة كانوا أشخاصاً فعليّين. كانوا أجساداً نشِطَة. مشوا وامتطوا الخيول. شاركوا في الحروب وشربوا النبيذ وعاشوا الحبّ. وكانوا فلاسفة عمليين بلا استثناء. لم يكن البحث عن معنى الحياة هو ما أثار اهتمامهم، بل كانوا يسعون لأن تكون حياتهم ذات معنى.
لم يكونوا مثاليين. كانت لهم عيوبهم ونقاط ضعفهم. كان سقراط يسقط في غيبوبة تستمر أحياناً لساعات. بينما روسو كشف عن مؤخّرته في أماكن عامّة أكثر من مرّة. وكان شوبنهاور يتحدّث إلى كلبه. (لا تجعلوني أتحدّث هنا عن نيتشه، فهناك الكثير ليُقال عنه). ليَكُن ذلك. الحكمة نادراً ما ترتدي بذلة بروكس براذرز، مع أنّنا قد لا نعرف أبداً.
نحن دائماً بحاجة إلى الحكمة، لكنّنا نحتاج إلى أنواع مختلفة من الحكمة في مراحل مختلفة من حياتنا. الأسئلة على غرار “كيف” التي تهمّ شخص في سنّ الخامسة عشر ليست هي نفسها التي تهمّ شخصاً في الخامسة والثلاثين أو الخامسة والسبعين من العمر. للفلسفة شيء حيوي لتقوله عن كل مرحلة.
أدركتُّ أنّ المراحل تمرّ بسرعة. الكثيرون منّا يعيشون حياتهم في تفاهات وأمور سخيفة، كما لو كان لدينا كل الوقت في العالم. ليس الأمر كذلك. أنا لا. أحبُّ أن أفكّر في نفسي كشخصٍ في منتصف العمر. ابنتي المراهقة، عبقرية في الرياضيات، أشارت مؤخّراً إلى أنّني ما لم أعِش حتى سنّ الـ 110، فأنا لستُ في منتصف العمر من الناحية التقنيّة.
على الرّغم من بطء القطار الذي أستقلّه وأنا أكتب هذه الكلمات، إلا أنّ شعوراً بالعجلة والإلحاح يدفع قلمي. إنّه الشعور بالعَجَلة الذي ينطوي على رغبة شديدة في عدم الموت دون أن أعيش. لا أستطيع أن أشير إلى أي أزمة منفردة: لستُ قلقاً بشأن صحّتي وليست لديّ مشاكل مالية. لا يوجد أيّ منعطفات هوليوودية، فقط الروتين المعتاد للإزعاجات والمضايقات والخيبات والشّكّ المستمرّ بأنّني أعيش حياةً مُزرية وبشكلٍ خاطئ. الحياة ليست مشكلة بالنّسبة لي، حتى الآن على الأقل، ولكننّي أشعر بأنفاس الزمن السّاخنة على عنقي، وهي تزداد شدّةً كلّ يوم قليلاً. أنا أريد -لا، بل أحتاج- أن أعرف ما هو مهمّ وما لا يهم، وقبل فوات الأوان.
((في النهاية، تجعل الحياة منّا جميعاً فلاسفة))، حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي موريس ريزيلينغ.
أقرأ هذه العبارة وأفكّر “لماذا الانتظار؟”. لماذا أنتظر حتى تصبح الحياة مشكلة بالنسبة لي؟ لماذا لا أترك الحياة تجعلني فيلسوفاً اليوم، الآن، بينما لا يزال هناك وقت؟
كيف تستيقظ مثل ماركوس أوريليوس
الساعة السابعة، وسبع دقائق صباحاً
في مكانٍ ما شمال داكوتا. على متن قطار Amtrak’s Empire Builder، في الطريق من شيكاغو إلى بورتلاند، أوريغون.
نور الصّباح يتسلّل عبر نافذة مقصورتي. أودّ أن أقول أنّه أيقظني بلطف، ولكنّ الحقيقة هي أنّني لم أكن نائماً. أشعر برأسي وكأنّه جُفّف بالتنقيع. ألمٌ مُمِضٌ ينبعث من صدغيّ إلى بقيّة جسدي. ضبابٌ كثيفٌ وسام يشكّل غمامةً على عقلي. جسدي مُسترخٍ لكنّه ليس مُرتاحاً. عندما يتعلق الأمر بالنوم، هناك نوعان من الأشخاص. النوع الأول يعتبر النّوم انقطاع غير مريحٍ للحياة، ومصدر إزعاج. النوع الثاني يعتبر النّوم أحد متع الحياة الخالصّة. أنا أنتمي إلى الفئة الثانية. لديّ بعض القواعد الراسخة، لكنّ أحدها هو: لا تَعبَث بنومي. أمتراك فعلت ذلك، وأنا لستُ سعيداً.
إنّ العلاقة بين السفر بالقطار والنّوم معقدّة جداً، مثل معظم العلاقات. نعم، صحيح أنّ حركة الاهتزاز هدّأتني وجعلتني أغفو، لكن سرعان ما استيقظتُ مراراً خلال الليل بسبب الإحساس بحركة القطار، بما في ذلك حركة التّرنّح الجانبي، والقفزات المفاجئة، والتذبذب المتموّج (المعروف أيضاً بالموجة).
تستدعيني الشمس من السّرير بكل حلاوة جندي رقيب. شياطيننا لا تطاردنا أثناء الليل. إنّها تهجم في الصّباح. نحن في أضعَف حالاتنا عندما نستيقظ، لأنّه في تلك اللحظة تعود ذكرى من نحن، ومَن نكون، وكيف وصلنا إلى هنا.
أنا أتقلّب، وأسحب بطّانية أمتراك التي لا تختلف عن بطانيات الأطفال على جسدي. طبعاً، يمكنني أن أخرُجَ من سريري -حقاً أستطيع- ولكن لمَ أزعج نفسي؟
***
((صباح الخير جميعاً!))
كنتُ قد غَفَوتُ، لكنّني استيقظت على صوت، وليس على حركة جانبية أو موجة. كان صوتاً هَشّاً ومَرِحاً.
مَن هي هذه؟
((اسمي الآنسة أوليفر، مضيفة مقهى القطار. المقهى مفتوحٌ ويقدّم خدماته لكم، ولكن إذا كنتم تريدون خدمة من الآنسة أوليفر عليكم دائماً ارتداء أحذية، وقمصان -واللطف أيضاً)).
يا إلهي. لا يمكن العودة إلى النّوم الآن. أبحث في حقيبتي وأتلفّت لأجد كتاباً، محافظاً على وضعيّة بطانيتي. ها هو. إنّه “التأمّلات”. كتابٌ رفيعٌ. لا يزيد عن 150 صفحة، وبه هوامش واسعة. غلاف الكتاب يتضمّن تمثالاً لرجلٍ مُلتَحٍ وذو عضلات، يمتطي حصاناً. عيناه لا تخلوان من القوّة الهادئة لشخص ليس لديه شيء ليثبته.
إنّه ماركوس أوريليوس، الإمبراطور الرّوماني، الذي قاد جيشاً يضمّ نحو نصف مليون رجل، وحكم إمبراطورية تضمّ حوالي خُمس سكّان العالم وامتدّت من إنجلترا إلى مصر، ومن شواطئ المحيط الأطلسي إلى ضفاف دجلة. لكنّ ماركوس (نتحدّث عنه باسمه الأوّل) لم يكن شخصاً يحبّ الصّباحات. كان لا يُبارح سريره، وكان يقوم بمعظم أعماله في فترة ما بعد الظهر، بعد قيلولة. هذا الرّوتين جعله يختلف مع زملائه الرومان، حيث أنّ معظمهم كانوا ينهضون قبل الفجر. في شوارع روما، كان الأطفال الناعسون ذوو العيون الغائرة يمشون إلى المدرسة في عتمة ما قبل الفجر. لكن بفضل خلفيّته النخبويّة، تلقّى ماركوس تعليمه في المنزل. كان بإمكانه النّوم قدر ما يشاء. وفعل ذلك، طوال حياته.
يبدو أنّنا أنا وماركوس ليس لدينا الكثير من القواسم المشتركة، تفصلنا قرون عديدة، ناهيك عن الفارق الكبير في السلطة والمكانة. كان ماركوس يسيطر على إمبراطورية تغطّي مساحة تعادل نصف الولايات المتحدة القاريّة تقريباً. أمّا أنا، فأسيطر على مساحة تعادل تقريباً نصف مساحة مكتبي، ولأصدقكم القول، حتى هذا يشكّل تحدّياً بالنسبة إليّ. أنا دائماً أصدّ بطاقات العمل العشوائية، وإشعارات الاشتراك في المجلّات، وشعر القطط، وسندويشات التونة التي مضى عليها ثلاثة أيام، والقطّة، والحليّ البوذيّة الصّغيرة، وأكواب القهوة، والنسخ السابقة من مجلة “الفلسفة الآن”، والكلب، واستمارات 1099، والقطّة مرّةً أخرى، ولأسباب غير واضحة تماماً، ونظراً لأنّني أعيش على بُعد 150 ميلاً من أقرب محيط، الرمال.
لكن عندما أقرأ ماركوس، تختفي هذه الاختلافات وتذوب الفروق. نحن أخوين، ماركوس وأنا. إنّه يدير إمبراطورية ويتصارع مع شياطينه، وأنا أطعِمُ القطّة وأتصارع مع شياطيني. لدينا عدوٌّ مشترك: الصّباحات.
تحدّد الصباحات نغمة اليوم وتضبطها. الأيام السّيئة تتبع الصّباحات السّيّئة. ليس دائماً، ولكن في أغلب الأحيان. لا تعني المَكانة والنفوذ شيئاً تحت بطانيّات صباح اثنين بارد ورمادي. والثروة، التي يمكن أن تكون مفيدة في جوانب أخرى من الحياة، لا قيمة لها. إذا كان هناك أي شيء، فإنّ الثراء يتآمر مع اللحاف لاحتجازك في وضع أفقيّ.
الصّباحات تثير مشاعر قويّة ومتضاربة. فمن ناحية، رائحة الصّباح تحمل الأمل. كلّ فجر هو ولادة جديدة. لم يترشّح رونالد ريغان تحت شعار “في وقتٍ متأخّر من النهار في أمريكا”. كان وعده “في الصّباح في أمريكا” هو الذي أطلقه إلى البيت الأبيض. وبالمثل، الأفكار العظيمة لا تأتينا مساءً. بل تشرق علينا في الصّباح.
بالنسبة لبعضنا، تحمل الصّباحات رائحة اليأس. إذا كنت لا تحبّ حياتك، فربّما لا تحبّ الصّباحات أيضاً. الصّباحات بالنّسبة لحياة غير سعيدة هي أقرب ما تكون بالمشهد الافتتاحي للجزء الثالث من فيلم The Hangover. طعم الفظاعة القادمة.
الصّباحات فترة انتقال، والانتقالات ليست سهلة أبداً. نحن نترك حالة من الوعي، النوم، وندخل في حالة أخرى، اليقظة. وباصطلاحات جغرافية، الصّباحات هي بلدة الوعي الحدوديّة. تيخوانا للعقل. مُربِكَة، مع علامات غامضة على الخطر.
الفلاسفة منقسمون فيما بينهم حول الصّباحات تماماً كما هم منقسمون حول كل شيء آخر. كان نيتشه يستيقظ في الفجر، يرشّ وجهه بالماء البارد، ويشرب كوباً من الحليب الدّافئ، ثم يعمل حتى السّاعة 11:00 صباحاً. أمّا إيمانويل كانط فقد جعل من نيتشه كالكسول. كان يستيقظ في السّاعة 5:00 صباحاً، حيث كانت السماء في كونيغسبرغ لا تزال سوداء كالحبر، ثم يشرب كوباً من الشاي الخفيف، يدخّن الدورق -دورقاً واحداً فقط، ليس أكثر- ثم يبدأ العمل. أمّا سيمون دو بوفوار، بارك الله فيها، لا تستيقظ إلا عند السّاعة 10:00 صباحاً، وتستمتع بكوب الإسبريسو الخاص بها. لكنّ ماركوس، ويا للأسف، لم يكن يمتلك مثل هذه الرفاهية: وُلِد قبل حوالي 1200 عام من اختراع القهوة.
***
الانتحار، كما قال الفيلسوف الوجودي الفرنسي ألبير كامو، هو ((المشكلة الفلسفيّة الحقيقيّة الوحيدة)). هل تستحقّ الحياة ان تُعاش أم لا؟ والبقيّة مجرّد هراء فلسفي ميتافيزيقي. وببساطة، إذا لم يكن هناك فيلسوف، فليس هناك فلسفة.
إنّ اقتراح كامو منطقي وسليم ولكنّه في رأيي، غير كامل. بمجرّد أن تتصارع مع سؤاله عن الانتحار، وتستنتج أنّ الحياة تستحقّ أن تُعاش (في الوقت الراهن؛ إذ إنّ الاستنتاجات الوجوديّة مشروطة دوماً)، فإنّك تواجه سؤالًا آخر، أكثر إزعاجاً وإلحاحاً حتّى: هل أنا مضطرٌّ للنّهوض من السرير؟ هذا السّؤال، كما أعتقد، هو المشكلة الفلسفيّة الحقيقيّة الوحيدة. إذا لم تتمكّن الفلسفة من إخراجنا من تحت الغطاء، فما فائدتها؟
سؤال النهوض من السّرير الكبير، مثل جميع الأسئلة الكبرى، هو في الواقع مجموعة من الأسئلة المقنّعة والمتخفّية كسؤالٍ واحد. دعونا نسحب اللحاف ونفحصه. على مستوى معيّن، نحن نسأل: هل يمكنني النهوض من السرير؟ ما لم تكن معاقاً، الجواب هو نعم، بإمكانك ذلك. نحن نسأل أيضاً ما إذا كان من المفيد النهوض من السرير، والأهمّ من ذلك، هل ينبغيعليك النهوض من السرير. هل أنت مضطّرٌ لذلك. هنا تصبح الأمور أكثر تعقيداً.
فكّر الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم كثيراَ في هذا النّوع من الأسئلة، ولو أنّها نادراً ما يُتعامَل معها في السرير. قسّم أي استفسار إلى جزئين: “ما هو كائن” و”ما ينبغي أن يكون”. الجزء “ما هو كائن” عبارة عن مُراقبة، أو مُلاحَظَة. نحن نراقب، بدون أحكام، الفوائد التّجريبيّة المترتّبة على القيام من السرير: زيادة تدفّق الدّم، على سبيل المثال، وإمكانات الكَسب.
الجزء “ما ينبغي أن يكون” يتضمّن حكماً أخلاقياً. ليس ما هي فوائد النهوض من السرير ولكن لماذا ينبغي علينا القيام أصلاً. اعتقد هيوم أنّنا نقفز بسرعة كبيرة من جزء الـ”ما هو كائن” إلى جزء “ما ينبغي أن يكون”. الـ”ما ينبغي أن يكون” أخلاقيّ لا ينبع مباشرةً من “ما هو كائن” فعلي أو واقعي. (لهذا السبب، مشكلة “ما هو كائن-ما ينبغي أن يكون” معروفة أيضاً باسم “مقصلة هيوم” Hume’s Guillotine، حيث يفصل “ما هو كائن” عن “ما ينبغي أن يكون” ويصرّ على وجود فجوة بين الاثنين). فسرقة أموال من ربّ العمل قد تؤدّي إلى نتائج سلبيّة؛ لذا ينبغي ألا تقوم بذلك.
ليس بالضّرورة، يقول هيوم. لا يمكنك الانتقال من بيان واقعي إلى بيان أخلاقي. الخروج من السرير قد يكون صحّياً ومُربحاً، ولكن هذا لا يعني أنّه “ينبغي” علينا القيام بذلك. ربما نحن لا نرغب في أن يتدفّق الدم وزيادة إمكانيّة الكسب. ربما نحن نحبّ البقاء هنا، تحت الأغطية. إنّه هذا “الواجب” المزعج هو الذي يفسّر حالتنا كما أعتقد. نشعر أنّه ينبغي علينا النهوض من السرير، وإذا لم نفعل ذلك فلا بدّ أن يكون هناك خَطبٌ ما بنا.
أن ننهض أو لا ننهض؟ تحت الأغطية، هناك الدفء والدّلال، تتنافس الانفعالات بقوّة حوار سقراطي، أو برنامج أخبار تلفزيوني. يقدّم معسكر البقاء في السرير حجّة قويّة. إنّه دافئ وآمن في السرير، ليس مثل الرّحم ولكنّه قريب منه. الحياة جيّدة، وقد قال أرسطو أشهر الفلاسفة إنّ الحياة الجيّدة هي كلّ ما يهمّ. على الجانب المقابل، الجوّ بارد هناك. وتحدث أمور سيّئة هناك. حروب. جوائح. مَصائب. موسيقى هادئة.
يبدو أنّ البقاء في السرير هو الخيار الأفضل. ومع ذلك، لا شيء في الفلسفة واضحٌ تماماً. هناك دائماً “ومع ذلك”. تمّ بناء أنظمة فلسفيّة كاملة، وهياكل معرفيّة ضخمة، وصروح فكريّة شاهقة على أساس تلك الكلمة المكوّنة من مقطع واحد: “ومع ذلك”.
ومع ذلك الحياة تضيء هناك في الخارج. لدينا وقت قصيرٌ جداً على هذا الكوكب. هل نريد حقاً قضاءه بوضعيّة أفقية؟ لا، لا نريد ذلك. بالتأكيد إنّ قوّة الحياة التي تنبض في شراييننا المُتعَبَة قويّة بما يكفي لانتزاع رجلٍ في منتصف عمره، خفيفٌ بعض الشيء ولكن ليس بديناً، من السرير. أليس كذلك؟
هذه المحادثة كانت لتجري، بطريقةٍ ما، تحت الأغطية طالما أنّ هناك أغطية وأشخاص يختبئون تحتها. لقد حققّنا تقدّماً كبيراً منذ عصر الرومان، ولكنّ سؤال البقاء في السرير لا يزال كما هو بشكل أساسي. لا أحد معصومٌ أو مَنيع. سواء كان رئيساً أو فلاحاً، طاهياً مشهوراً أو عامل بمقهى ستاربكس، إمبراطوراً رومانياً أو كاتباً عصبيّاً، نحن جميعاً خاضعون لسيطرة نفس قوانين القصور الذاتي أو الخمول. نحن جميعاً أجسادٌ في حالة سكون، في انتظار قوّة خارجيّة تؤثّر علينا.
***
أغمِضُ عينيّ ويتجسّد ماركوس أمامي، حقيقياً مثل كوب القهوة القديم المصنوع من الستايروفوم الجاثم على حافة سريري الصغير. يمكنني تخيّله ملفوفاً في خيمته الخاصّة في المعسكر الرّوماني على ضفاف نهر غران، وهو فرع من نهر الدّانوب. أتصوّر أن اليوم باردٌ ورطب، ومعنويّاته منخفضة. الحرب لا تسير على ما يرام. لقد قامت القبائل الجرمانيّة بشنٍّ هجمات مفاجئة على خطوط الإمداد الرّومانيّة. معنويات جيشه منخفضة، ومن يستطيع أن يلومهم؟ لقد قُتِلَ أكثر من خمسين ألف جندي روماني.
لا شكّ أنّ ماركوس كان يشتاق إلى روما. وخاصّة زوجته فاوستينا، المحبّة، وإن لم تكن وفيّةً ومخلصة له دائماً. لم يكن العقد الماضي سهلاً، ليس فقط بسبب تلك القبائل الجرمانيّة المزعجة، بل أيضاً بسبب تمرّد كاسيوس الخائب. ثم كان هناك أطفاله. أنجَبَت له فاوستينا ما لا يقلّ عن ثلاثة عشر ولداً. لم ينجو إلا أقلّ من نصفهم من الطفولة.
كان ماركوس شخصية فريدة ونادرة: مَلِكاً فيلسوفاً. ما الذي دفع أقوى رجل في العالم إلى دراسة الفلسفة؟ بصفته إمبراطوراً، يمكنه أن يفعل، أو لا يفعل، ما يشاء. فَلِمَ يخصّص وقتاً من جدوله المزدحم لقراءة الكلاسيكيات وتأمّل ألغاز الحياة؟
قدّمت سنوات ماركوس الأولى بعض الأدلّة. كان قد تمتّع بأندَر الطفولات على الإطلاق: طفولة سعيدة. كان يحبّ الكتب، وكان يفضّل القراءة على الذهاب إلى السيرك. هذا التّوجّه وضعه ضمن أقليّة متميّزة من تلاميذ المدارس الرومانية.
في وقتٍ لاحق، أصبحَ مغرماً بطريقة الحياة اليونانية، وكان ينام على الأرضيّة الصلبة المفروشة فقط بعباءة فيلسوف رثّة وبالية، حتى عاتبته والدته وأصرّت على أن يتخلّى عن “هذه السّخافات” وينام في سرير مناسب.
كان الرّومان ينظرون إلى الفلسفة اليونانية بالطريقة نفسها التي ينظر بها معظمنا إلى الأوبرا: شيء جديرٌ وجميل، ويجب أن نذهب حقاً لحضورها أكثر، لكن من الصّعب جداً متابعتها، وعلاوة على ذلك، من لديه الوقت الكافي لذلك؟ كان الرّومان يحبّون فكرة الفلسفة أكثر من الفلسفة الفعليّة. ممّا جعل ماركوس، الفيلسوف الفعلي، مشبوهاً للغاية. فقد كان الناس يهمسون خلف ظهره حتى وهو إمبراطور.
كان ماركوس إمبراطوراً بالصّدفة. لم يكن يرغب في المنصب. كان سلفه، هادريان، هو الذي بدأ الأحداث التي أدّت إلى تتويج ماركوس إمبراطوراً عام 161 للميلاد. كان عمره آنذاك أربعين عاماً.
استمتع ماركوس بفترة استقرار قصيرة. لمدّة ستّة أشهر. ثمّ حدث فيضان مميت، والطاعون، والغزوات. بصرف النّظر عن هذه الحروب، لم تتلطّخ يديّ ماركوس كثيراً بالدماء. إنّه دليلٌ حيٌّ على أنّ السّلطة المُطلقة لا تفسد دائماً بشكل مطلق. كان ماركوس يصدر بانتظام أحكاماً مخفّفة للفارّين من الخدمة وغيرهم من المخالفين الآخرين. وعندما واجهت الإمبراطوريّة أزمة ماليّة، باع الهدايا الإمبراطوريّة -الأردِيَة وأكواب النبيذ والتماثيل واللوحات- بدلاً من رفع الضرائب. وفي عملٍ أجده مؤثراً بشكل خاص، أصدَرَ مرسوماً يقضى بأن يقوم جميع الذين يمشون على حبل البهلواني، الذين كانوا معظمهم أولاداً صغار، بأداء عروضهم فوق فرش إسفنجية سميكة.
أظهر ماركوس شجاعة كبيرة في المعركة، لكن كما يقول كاتب السّيرة الذّاتية فرانك ماكلين، كان الإنجاز الأكثر شجاعةً هو “سعيه المستمرّ للحَدّ من تشاؤمه الطبيعي”. لا يسعني إلا أن أتعاطف معه. فأنا أيضاً أكافح ضدّ قوى السّلبيّة التي تخطّط ضدّي دائماً وتنصب لي مكائد لجذبي إلى جانبها. بالنسبة لنا نحن الذين نريد أن نكون متفائلين، كأسٌ نصف فارغ أفضل من عدم وجود كأس على الإطلاق، أو كأساً قد تحطّم إلى مائة شظيّة وثقبت إحدى الشظايا شرياناً رئيسياً. الأمر كلّه مسألة وجهة نظر.
كان ماركوس يعاني من مشاكل بالنوم. كان يعاني من آلام غير محدّدة في الصّدر والبطن. كان طبيبه، وهو رجلٌ مغرورٌ ولكنّه ماهر يدعى جالين، قد وصف له دواء الثيرياك (ربما مخلوط بالأفيون) لمساعدته على النوم.
كان ماركوس، مثلي تماماً، يطمح في أن يكون شخصاً صباحيّاً. ومع ذلك هناك فجوة واسعة تفصل بين الأشخاص العمليّين الذين يحبّون الصّباح حقاً والأشخاص الطّامحين إلى أن يصبحوا كذلك. وها أنا الآن مستلقٍ هنا، وأشعر بحركة القطار الهادئة، والبطانية الدافئة من أمتراك تغطّي جسدي، إنّها فجوة لا يمكن تجاوزها أو التغلّب عليها.
كنتُ أظنُّ أنّ لا شيء يمكن أن يكون أسهل من ذلك. ضَعْ قدماً واحدة على الأرض، ثمّ الأخرى. اسحب نفسك إلى وضعيّة شاقولية. ومع ذلك، أنا أفشل في تحقيق الوضعيّة الشاقولية. ولا حتى وضعيّة مائلة. ما الخطأ فيّ؟ ساعدني، ماركوس.
***
“التأمّلات” ليس كأيّ كتاب قرأته من قبل. في الواقع، ليس كتاباً على الإطلاق. إنّه مواعظ تحفيزيّة. مجموعة من الملاحظات التّذكيريّة والخطب التشجيعيّة. ملاحظات رومانيّة تُلصَق على الثلاجة. ما يخشاه ماركوس أوريليوس أكثر من الموت هو النسيان. إنّه يذكّر نفسه باستمرار بأن يعيش حياةً كاملة. لم يكن لدى ماركوس نيّة لنشر ملاحظاته على الثلاجة. كانت موجّهة لنفسه. المرء لا يقرأ ماركوس بقدر ما يصغي إليه.
يعجبني ما أسمعه. يعجبني صدق ماركوس. ويعجبني كيف يعرّي نفسه على الصّفحات، مُظهراً مخاوفه ونقاط ضعفه. هنا يعترف أقوى رجل في العالم بأرَقه، ونوبات الهلع، وبأدائه الروتيني في أحسن الأحوال كعاشق. (“يقذف نطافه ويغادر”، هكذا يصف فعل الجماع). لم يغفل ماركوس قطّ عن المبدأ الرواقي القائل بأنّ كل فلسفة تبدأ بإدراكنا لضعفنا.
لم يبنِ ماركوس أي نظام فلسفي عظيم ليُدرَس ويُحَلّل من قبل أجيال من طلاب الدراسات العليا المجتهدين. هذه الفلسفة كعلاج، حيث يلعب ماركوس دور المعالج والمريض في آنٍ معاً. إنّ “التأمّلات”، كما يشير المترجم غريغوري هايز، هو ((كتاب للمساعدة الذّاتية بالمعنى الحرفي للكلمة)).
يشجّع ماركوس نفسه مرّةً بعد أخرى على التوقف عن التفكير والبدء بالعمل أو التصرّف. توقّف عن وصف رجل ما بأنّه صالح. كُنْ أنت نفسك واحداً من الصالحين. الفرق بين الفلسفة والحديث عن الفلسفة كالفرق بين شرب النبيذ والحديث عن النبيذ. رشفة واحدة من نبيذ “بينو نوار” جيّد تخبرك عن النبيذ أكثر من سنوات من الدّراسة الصّارمة في علم النبيذ.
لم تظهر أفكار ماركوس فجأةً من العَدَم. ولا أفكار أيّ فيلسوفٍ آخر. كان رواقياً، ولكن ليس بشكلٍ حصريّ. استقى أفكاره من مصادر أخرى: هيراقليطس، سقراط، أفلاطون، سينيكا، وأبيقور. كان ماركوس، مثل كل الفلاسفة العظام، يجمع الحكمة من كلّ مكان. ما يهمّ كان قيمة الفكرة، لا مصدرها.
إنّ قراءة “التأملات” هي كمشاهدة فعل التفلسف في الوقت الحقيقي. يبثُّ ماركوس أفكاره على الهواء مباشرةً، بدون أيّ رقابة. أنا أشاهد ((شخصاً يدرّب نفسه ليكون إنساناً))، كما يقول المتخصّص في الدراسات الكلاسيكية بيير هادو.
تبدأ العديد من المقتطفات في “التأمّلات” بعبارة ((عندما تجد صعوبة في النهوض من السّرير…))، وبينما أقرأ أكثر، يتبادر إلى ذهني أنّ جزءاً كبيراً من الكتاب هو أطروحة خفيّة حول سؤال النّهوض من السرير العظيم. ليس فقط كيف ننهض من السّرير، ولكن لماذا نتكبّد عناء ذلك؟ سؤال الانتحار عند كامو ملفوف في لحافٍ ناعمٍ ومريح. يتأرجح ماركوس بين وجهات النظر المتعارضة، ويجادل نفسه.
((ما الذي أشتكي منه، إذا كنت سأفعل ما وُلدتُ من أجله -الأشياء التي جئتُ إلى العالم لأقوم بها؟))
((أم هل هذا ما خُلِقتُ لأجله؟ لأتَكَوّرَ تحت الأغطية وأبقى دافئاً؟))
((لكنّ المكان مريحٌ هنا…))
((إذاً لقد وُلِدتَ لتشعرَ بـ’الرّاحة’؟ بدلاً من أن تفعل أشياء وتختبرها؟))
يتأرجح هاملت ذهاباً وإياباً تحت الأغطية. إنّه يعلم أنّ هناك أفعالاً عظيمة يجب أن يقوم بها، أفكاراً عظيمة يجب أن يفكّر فيها.
لو أمكنه فقط النّهوض من السّرير.
***
صباح الخير أيّها الرّكاب. تلعبون الغمّيضة، أنا أراكم. المقهى لا يزال مفتوحاً ويقدّم خدماته لكم!
عادت الآنسة أوليفر، وهي أكثر بهجةً ومرحاً من أيّ وقتٍ مضى.
هذا يكفي. الآن أفكّر جدياً في النهوض من السّرير. في أيّ لحظة الآن. أتأمّل كوب القهوة الستايروفوم الخاص بي وألاحظ أجزاء من حكمة أمتراك. “غيّر نظرتك إلى العالم” وعلى الجانب الآخر “تذوّق طعم عالمٍ أفضل”. أعترف بأنّني لستُ مثقفاً عميقاً، لكنّي أجدُ البساطة الطفوليّة جذّابة.
سونيا، ابنتي البالغة من العمر ثلاثة عشر عاماً، تحبّ النوم مثلي. ((أنا أعتبر نفسي إنساناً كسولاً))، قلت مُعلناً ذات يوم. إنّ محاولة إقناعها بالنّهوض من السرير في صباح أيام الأسبوع تتطلّب حشد موارد لم نشهدها منذ إنزال النورماندي. ومع ذلك، في عطل نهاية الأسبوع وأيّام الثلوج، تنطلق إلى الحياة دون مساعدة. عندما سألتها عن هذا التناقض، شرحت بشكل فلسفي: ((إنّ النشاط هو الذي يجعلك تنهض من السرير، وليس المنبّه)).
إنّها على حقّ. عندما أكافح من أجل النهوض من السّرير، ليس السّرير هو عدوّي، أو حتّى العالم الخارجي. إنّها تصوّراتي. وأنا مُستَلقٍ تحت الغطاء، أتخيّل عالماً مُعادياً مُصَمّماً على قلبي رأساً على عقب. تماماً مثل ماركوس. صحيح أنّ عالمه كان يتضمّن البرابرة العدائيين، والطّاعون، والانقلابات والمؤامرات في البَلاط. لكنّ العَقَبات نسبيّة، على أيّ حال. مكتبٌ فوضويّ بالنسبة لشخصٍ ما هو غزوٌ لآخر.
لعلّ أكبر العقبات هي الآخرين. الواقع أنّ ماركوس لم يصل إلى مستوى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الذي أعلن بشكل مشهور “الجحيم هم الآخرون”، ولكنّه اقترب من ذلك. ((عندما تستيقظ في الصّباح، قُلْ لنفسك: الأشخاص الذين ستتعامل معهم اليوم سيكونون متطفّلين، ودُخَلاء، ناكرين للجميل، متعجرفين، غيورين، ومتجهّمين)). ولم يتغيّر شيء منذ عهد ماركوس.
اقترح ماركوس التعامل مع الأشخاص الصّعبين عن طريق عدم تمكينهم وتقويض سلطتهم. فقط قُمْ بسحب تأثيرهم على حياتك. لا يمكن للآخرين أن يؤذوك، لأنّ ((لا شيء ممّا يدور في عقول الآخرين يمكن أن يؤذيك)). بالتأكيد. لماذا أهتمّ بما يفكّر به الآخرون عندما يحدث التفكير، بحكم تعريفه، داخل عقولهم فقط، ليس داخل عقلي؟
لطالما اشتبهتُ أنّ كراهية الذات الخبيثة والغادرة تكمن في سبب عجزي عن النهوض من السرير، والتي لا أستطيع الاعتراف بها بشكلٍ كامل. أمّا ماركوس، الذي يمتلك شجاعةً أكثر منّي، يفعل ذلك. فهو يقول: ((أنت لا تحبّ نفسك بما فيه الكفاية))، ويبدو أنّه على وشك الإشفاق على الذّات عندما يعاود هجومه بعد صفحة أو صفحتين مّرة أخرى. ((يكفي هذا النّحيب البائِس، حياة القرد… يمكنك أن تكون بحالة جيّدة اليوم. ولكنّك بدلاً من ذلك، اخترت الغد)). إنّه يحتفظ بأكثر السّهام حدّة لأنانيته المتصوّرة. ((عندما أتكاسل في سريري، كما أنا الآن، لا أفكّر إلا في نفسي فقط)). البقاء تحت الأغطية، في نهاية المطاف، فعلٌ أناني.
هذا الإدراك يحفّز ماركوس على التّحرّك. لديه واجبٌ للنهوض من السرير. “واجب” وليس “التزام”. هناك فَرق. الواجب ينبع من الداخل، والالتزام ينصبّ من الخارج. عندما نتصرّف بدافع الشعور بالواجب، نفعل ذلك طواعيّة لكي نرفع أنفسنا، والآخرين، إلى مستوى أعلى. وعندما نتصرّف بدافعٍ من الالتزام، نفعل ذلك لحماية أنفسنا، وحسب، من العواقب.
كان ماركوس على دراية بهذا الفرق، لكنّه، كالعادة، كان بحاجة إلى تذكير نفسه به. ((عندما تشرق الشمس، عندما تواجه صعوبة في النهوض من السّرير، قُلْ لنفسك: “عليّ أن أذهب إلى العمل – كإنسان”)). ليس كرواقي أو إمبراطور، أو حتّى كروماني، بل كإنسان.
***
تا تا تا تام. الآنسة أوليفر هنا. هل ذكرتُ أنّ المقهى مفتوح؟ أتطلّع للقاء كل واحدٍ منكم… تا تا تا تام
هذا يكفي. سأنهض من السرير.
أسحَب عنّي بطانية القطار. والتي بدورها لا تُبدي أيّة مقاومة. أسحب نفسي للأعلى وأنهَض. ما الذي كنت أفكّر فيه، كل هذا النّحيب والجَلد القاسي للذات؟ لم يكن ذلك شيئاً.
أنا على وشك الاحتفال بانتصاري الصّغير والحاسم على الجاذبية عندما يصيبني انحراف جانبي -أو ربما هزّة مفاجئة، لستُ متأكّداً- ويطرحني على السرير.
هذا ما يثير الإزعاج حول سؤال السّرير الكبير. لا يكفي أن نجيب عليه مرّةً واحدة. إنّه مثل الذهاب إلى صالة الألعاب الرّياضيّة، أو الأبوّة. إنّه يتطلّب جهوداً متكرّرة ومنتظمة.
((تا تا تا تام. الآنسة أوليفر هنا مرّة أخرى، أيّها السّيّدات والسّادة!)).
أسحَب الغطاء بإحكام. خمس دقائق أخرى، هكذا أخبر نفسي. خمس دقائق فقط.
***
المقدّمة والفصل الأول من كتاب “قطار سقراط السريع: بحثاً عن دروس في الحياة من فلاسفة ميّتين” إيريك واينر
The Socrates Express
In Search of Life Lessons from Dead Philosophers
Eric Weiner
*المصدر: التنويري.