الفعل والمعنى والوعي
1
الحياةُ الاجتماعية المُتذبذبة بين اليقين والشَّك، هي نِتاجٌ طبيعي لِعَجْزِ الإنسان عن إيجاد ذاته في زَحمة الأحداث والمشاعر، وإخفاقِه في اكتشاف صَوته الخاص في ضجيج الأصوات المُشتَّتة والشِّعارات الرَّنانة، ونتيجةٌ مُتوقَّعة لانفصالِ الفِعل الاجتماعي عن المعنى الحضاري، وغِيابِ الوَعْي الجَمْعي عَن التفاصيل اليومية المُعاشة. وهذه الإشكالياتُ الخطيرة ساهمت في حِصار الإنسان ضِمن دائرة اجتماعية مُغلَقة، بحيث صار معزولًا عن التأثُّر بالأحداث، وعاجزًا عن التأثيرِ فِيها. وهذا يعني أنَّه صارَ مُتفرِّجًا على الأحداث المصيرية التي تمسُّ حياتَه وتُهدِّد وُجودَه، دُون أيَّة قُدرة على المُشاركة في صُنع جَوهر الأحداث وصِياغة تفاصيلها. لقد قَبِلَ بلعب دَور الضَّحية، ولم يعد قرارُه في يده، وارتدى قِناعَ الصَّمْت الذي يُريحه ظاهريًّا، ويُسعِده مُؤقَّتًا، وهذه الرَّاحةُ خادعة لأنها تُشبِه راحة الفريسة قبل اصطيادها، وهذه السِّعادةُ وهمية لأنها تُشبِه سعادةَ الحَالِم قبل أن يَستيقظ مِن نَومه، ويجد نَفْسَه أمام كابوس الواقع.
2
القُدرةُ الإنسانية على صناعة الحُلْم الاجتماعي لا تقوم بذاتها. إنها تحتاج إلى عناصر إسناد للحُلْم والحَالِم معًا، كالعَقْل الجَمْعي الذي يحتاج إلى عضلات لتنفيذ أفكاره الإبداعية وخُطَطه الطموحة، وإخراجها مِن الخَيَال غَير المحسوس إلى حَيِّز الواقع المحسوس، أي : إخراجها مِن الفضاء الذهني غَير المَحدود إلى أرض الواقع المُسَيْطَر عَلَيه، والمُضاد للهُلامية والعبثية. وعمليةُ الانطلاق يجب أن تكون مَحسوبة بِدِقَّة، بعيدًا عن الفَوضى والأفعال الارتجالية والحَمَاسة المُفرِطة. والسيطرةُ على أرض الواقع لا تَكون باستخدام القَبضة الحديدية والأدوات القَمعية والقوانين البُوليسية، وإنَّما تَكون بالقُوَّة الناعمة التي تتشكَّل مِن الأفكار الإبداعية والتطبيقات العملية، بحيث يُصبح الواقعُ جِسْمًا مُتماسكًا يُوازن بين الظواهر الاجتماعية والمشاعر الإنسانية، وكِيانًا إبداعيًّا يُشارك الجميعُ في تَكوينه والحِفاظ عَلَيه، بعيدًا عن وِصَاية السياسة على الثقافة، واستغلال القويِّ للضعيف. إنَّ الواقع القادر على احتضان الزمان والمكان والأحلام الواعية، يُشبِه القصيدةَ الجَمْعيةَ التي تشترك الجماهيرُ في كِتابتها معَ الشاعر، بحيث تُصبح القصيدةُ تعبيرًا عن شرعية الوُجود الإنساني بأكمله، وأملًا مَشروعًا في تحرُّر الوَعْي مِن الوَهْم، وتَحرير الجماهير مِن ضغط الاستهلاكية المادية.
3
عندما يجد الإنسانُ نَفْسَه الحقيقية، ويَرى وَجْهَه في مرايا المجتمع بلا أقنعة، سيجد صَوْتَه الخاص الذي يُعبِّر عن مشاعره الكامنة في أعماقه الداخلية بدون ضَغط خارجي، ويُصبح صَوْتَ مَن لا صَوْتَ له. وهذا يعني أنَّ الإنسان صارَ فاعلًا في المجتمع، وقادرًا على صِناعة الفِعل الاجتماعي الذي يُحوِّل القُبْحَ إلى جَمَال، والفَوضى إلى نِظَام، والتَّشَتُّت إلى وَحْدة، والضَّياع إلى وُجود. وهذه العناصرُ مُجتمعةً تَجعل للفِعل الاجتماعي مَعْنًى حضاريًّا، ووَعْيًا إبداعيًّا. وهكذا يتشكَّل الجوهر الحقيقي للمجتمع الطامح إلى تغيير الواقع، والانطلاق إلى المُستقبل، بدُون غرق في الماضي، ولا انكماش في الحاضر، ولا خَوف مِن المستقبل. وأساسُ هذا الجَوهر عِبارة عن مُثلَّث مُتساوي الأضلاع ( الفِعل، المَعنى، الوَعْي ). وبشكل عام، إنَّ المُجتمع الحَيَّ يَعتمد على الجَوهر ( القُوَّة الدافعة )، وهذا الجَوهر يَعتمد على قاعدة ثُلاثية لا يُمكن تقسيمها ولا تفكيكها : 1_ الفِعل الاجتماعي العقلاني الذي يُميِّز بين نِقاط القُوَّة ونِقاط الضعف. 2_ المعنى الحضاري الذي يَحرِص على أن يكون الحُلْم إنسانيًّا، وضرورة تطبيقه بالوسائل المشروعة، بدُون توحُّش استهلاكي، أوْ بناء السعادة الوهمية على تعاسة الآخرين. 3_ الوَعْي المُستندُ إلى الحياة الحقيقية لا المُتَخَيَّلَة، والمُعْتَمِدُ على التاريخ الذي حَدَثَ على أرض الواقع، ولَيس التاريخ المُتَصَوَّر في الأذهان، أو الذي نتمنَّى حُدُوثَه. وهذا الوَعْيُ مِثل الطبيب الذي يُخبِر المريضَ بمَرَضه، كَي يَدفعه إلى مُقاومته، وليس الاستسلام له. ولا يُمكن للوَعْي أن يُصبح فَعَّالًا في الأنساق الاجتماعية، ومُؤَثِّرًا في المشاعر الإنسانية، إلا إذا حدَّد العلاقات الوجودية المركزية التي لا تخضع للإطار الزماني والحَيِّز المكاني، وهي : العلاقةُ بين الإنسان ونَفْسِه، والعلاقةُ بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعلاقةُ بين الإنسان والطبيعة. وكُل وَعْي لا يَكون تجسيدًا للحُلْم الإنساني كاملًا، هو وَعْي وَهْمِي مُخَادِع، لا يُعوَّل عَلَيه، والمبادئُ لا تتجزَّأ، ونِصْفُ العِلْم أخطر مِن الجهل.
*المصدر: التنويري.