تعدّ المرحلة الفلسفيَّة من أهم المراحل التي قطعتها ومرَّت منها العلوم الإنسانيَّة، وقبل هذه المرحلة كانت الممارسات ذات البعد المعرفي بالمجال الإنساني لا سيما ما اتَّصل بالعالم النفسي والاجتماعي و التربوي، تمارس بشكل تلقائي وبصفة عفويَّة وأحيانا بشكل غير علمي، لأنَّ المعارف التي يتلقَّاها أو يحصل عليها الإنسان اتِّجاه ذاته ونفسه، أو حتى في احتكاكه وتواصله مع الغير، وفي تفاعله مع المحيط والمجال الذي يعيش فيه والقريب منه، وهو المجال الذي يتفاعل معه باستمرار وبشكل دائم، عادة ما تكون تلك المعارف تلقائيَّة و بسيطة وعفويَّة، يحصل عليها الإنسان تلقائيا عن طريق الاحتكاك العفوي، أو عبر العمل و التواصل والممارسة التلقائيَّة اليوميَّة التي يكتسبها من معيشته وحياته اليوميَّة .[1]
وهو ما يدل بان البدايات الأوليَّة للممارسات البحثيَّة في العلوم الإنسانيَّة كان هو الاشتغال على الإنسانيات بمعيار نظري وهو جعل البحث في ما هو إنساني يغلب عليه الرؤى والتوجهات الفلسفيَّة، و كانت بداياته ومقدماته الأولى هو الاحتضان والتعايش مع الفلسفة، ففي البحوث الفلسفيَّة اليونانيَّة استحضر فلاسفة اليونان المسائل الإنسانيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة لكن برؤية ومن زاوية فلسفيَّة، فما زال الفكر الفلسفي يسترجع ما قاله سقراط الذي أمضى حياته بحثا عن الحقيقة، وقال في شأنها “ اعرف نفسك” .
وقد اتجه معظم فلاسفة اليونان وبشكل خاص إلى البحث عن دور الفلسفة في التربية والتنشئة ونشر القيم الحسنة بين الأفراد، مع بيان أثرها في صناعة وإعداد الإنسان المثالي الحامل للقيم والأخلاق العليا التي ترضي الآلهة ، وضرورتها في المجتمع [2].
هذا الحضور الواسع للتربية والمباحث النفسيَّة والاجتماعيَّة في الممارسات والأنشطة الفلسفيَّة ترسخ بشكل قوي و بشكل فعلي وواضح بين أغلب فلاسفة اليونان بما في ذلك الفلاسفة الرواد الذين اختزلوا مثلا الفعل التربي في القيم العليا التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان المثالي ويحملها في سلوكه وينقلها إلى غيره من أفراد المجتمع الذي يعيشون معه.
ومن الإشارات والأفكار الفلسفيَّة التربويَّة والنفسيَّة في الفلسفة اليونانيَّة إشارة الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي ذكر أن التربية عمليَّة ملازمة ومرافقة مع الإنسان منذ ولادته، بل هي ممتدة ومتعايشة ومستمرة معه، بحيث تكاد تغطي التربية جميع مسار حياته، ومما قاله افلاطون في هذا الموضوع إن صناعة الإنسان وإعداده للحياة ليست بالمتيسرة، وإنما عمليَّة معقدة ومركبة إذ قال: إننا نحتاج لصناعة رجل خمسين عاما .
l faut cinquante ans pour faire un homme.[3]
والعودة إلى تاريخ الفلسفة اليونانيَّة بشكل عام نجد أفلاطون قد جعل من النشاط العلمي والرياضي النشاط الوحيد المشخص، والمبرز للذكاء الإنساني، فالإنسان الذكي والمتفوق عقليا عند أفلاطون هو العارف والمتمكن من علم الرياضيات والمتمرس بخبايا هذا العلم وبمعادلاته بجميع درجاتها ومستوياتها، وبغياب الذكاء الرياضي والتقصير أو الجهل في حل المعادلات الرياضيَّة يغيب نشاط الذكاء ويسقط في خانة العوام عند الإنسان بشكل عام وفق الرؤيَّة الأفلاطونيَّة.[4]
ومن أعمال أفلاطون في المجال التربوي تأسيسه “الأكاديميَّة” وهي مؤسسة تعليميَّة أنشاها أفلاطون للتدريس وللتعليم، وأطلق عليها هذا الاسم[5] ، و كان علم الرياضيات هو العلم المهيمن على مناهجها فهو يهيمن على جميع مناهجها وبرامجها، وهو أمر غير مستغرب ما دام مدخل الأكاديميَّة يحمل شعارا في لا فتة كبيرة كتب ونحت عليها افلاطون “…يمنع الولوج إلى -“الأكاديميَّة ” من لا يحسن علم الرياضيات، وكانت الفترة التي يستغرقها التعليم تمتد إلى عشر سنوات، يتلقى الطالب علم الحساب والهندسة الرياضيات…..[6].
وبالعودة إلى تاريخ الفلسفة اليونانيَّة بشكل عام نجد أفلاطون وفلاسفة اليونان قد جعلوا من النشاط العلمي والرياضي النشاط الوحيد المشخص، والمبرز والمجلي للذكاء الإنساني، فالإنسان الذكي والمتفوق عند أفلاطون هو العارف والمتمكن من علم الرياضيات والمتمرس بخبايا هذا العلم ، وبغياب الذكاء الرياضي والتقصير أو الجهل في حل المعادلات الرياضيَّة يغيب نشاط الذكاء عند الإنسان بشكل عام وفق الرؤية الأفلاطونيَّة.[7]
في هذا السياق قدم أفلاطون على أستاذه سقراط في محاورة الجمهوريَّة نظريته حول القدرات العقليَّة للإنسان، وتقوم هذه النظريَّة انه يمكن تقسيم البشر إلى ثلاثة أقسام :القسم الأول هم الفلاسفة، وهو أعلى سلم القدرات العقليَّة، يليه القادة العسكريون، ويأتي العمال والفلاحون ، أما العوام فهم في الرتبة الثالثة ، و في أدنى السلم .[8]
فالذكاء بهذا الفهم الفلسفي الأفلاطوني يرجع إلى ما هو وراثي وأبدي أكثر ما يرجع إلى الاستعدادات والمؤهلات التي يكتسبها الفرد من تفاعله مع بيئته ومجتمعه، إذ يتحدد الذكاء بشكل حتمي مع ميلاد الإنسان، وهو غير قابل للتحويل أو للتغيير ، فطبيعته الذكاء كطبيعة المعادن الأولى[9].
الإنسان في البحث الفلسفي
إن البحث في الإنسان في البعد التلقائي والعفوي والفلسفي لم يدم أو يستمر طويلا، لأن ينتقل هذا البحث إلى مرحلة أكثر نضجا وتقدما من المرحلة الأولى وأعني العهد الفلسفي، وفيها سيتحقق للعلوم الإنسانيَّة الاستقلال الفعلي عن الفكر الفلسفي الذي احتضن العلوم الإنسانيَّة لأمد بعيد وطويل.
وأكبر ما تحقق في العلوم الإنسانيَّة في مسارها التاريخي الطويل هو طلاقها وانفصالها بشكل نهائي عن الفلسفة، و توجهها نحو الاختصاص والاستقلال والتميز بموضوعها الخاص بها.[10]
إضافة إلى هذه الاعتبارات والمعطيات المشار إليها ، فإن العلوم الإنسانيَّة في بعدها الابستمولوجي والمعرفي ، لا تدَّعي لنفسها الوصول أو الحصول على المعرفة والحقيقة اليقينيَّة بشكل مطلق ونهائي، وإنما كانت دائما تأخذ بهذا المبدأ والاعتبار المعرفي الحامل لخطاب النسبيَّة في النتائج المتوصل إليها عبر اتخاذها المقاربات التطبيقيَّة والميدانيَّة للظواهر الإنسانيَّة، وهذا من احد أسرار وتجليات قوتها ، ومن أحد مظاهر حضورها و ديمومتها بين العلوم المعاصرة.
ورغم التحولات الكبيرة والنقلة السريعة التي طرأت على المسار الابستمولوجي والمعرفي في هذه العلوم، فإن النموذج الذي ظل المتحكم والمهيمن في العلوم الإنسانيَّة ، هو النموذج الغربي مع رواده الأوائل وهم: أوجست كونت Auguste Comte ، وسان سيمون Saint-Simon ، و واميل دركايم Émile Durkheim ، وهربرت سبنسر، Herbert Spencerبيربورديو Pierre Bourdieu ، وهذه الأسماء كان له دور طلائعي، ومشاركة بارزة ورائدة في إرساء أسس ودعائم العلوم الإنسانيَّة بصفة عامة و علم الاجتماع بشكل خاص في منهجها ولغتها المفاهيميَّة.
ولقد ظل النموذج الغربي هو المصدر الغالب و الأساس المرجعي في المعرفة الإنسانيَّة والاجتماعيَّة لأمد بعيد لعدم وجود بديل معرفي ينافسه، وهو النموذج الذي مازال سائدا و مهيمنا لحد الآن في الساحة العلميَّة لتؤسسه وقيامه على ما هو علمي، فالمناهج العلميَّة عادة ما تتأسس النسق العلمي لا سيما في مداخلها وأدواتها.
تقرير ختامي
رغم الاعتراف المبدئي بان البحث في الظواهر الإنسانيَّة بالآليات والوسائل العلميَّة ما زال في بدايته، إلا أن المرحلة الفلسفيَّة من أهم المراحل التي قطعتها العلوم الإنسانيَّة، قدر ما نشأ في سياق عمليَّة تقليد أفرزتها متغيرات خارجيَّة وافدة.
[1] -التربية مقاربة تاريخية لمحمد بنعمر بحث على موقع جريدة الأستاذ profpress.ma سنة النشر : 2016.
[2] – الأصول الفلسفية للتربية لعفيفي محمد عبد الهادي 59دار وهدان للطباعة مصر السنة :1978.
[3] – Platon – Premier théoricien de l’éducation: Georges Minois:- 131-
بحث نشر بمجلة العلوم الإنسانية- Sciences Humaines – الفرنسية العدد45السنة2016-2017
- · -[3] – “Éducation et formation “ : La Grèce ancienne.”. Sienkewicz, Joseph, éd. :2007 . : Salem Press, Inc. P: 344.
[4] – Platon – Premier théoricien de l’éducation :155
[5] – L’Académie est l’école philosophique fondée dans Athènes par Platon vers 387 av. J.-C.-
[6] -حكمة الغرب تأليف بترندراسل ترجمة فؤاد زكريا: سلسلة عالم المعرفة الجزء:-1-ص10- العدد:364 ط:2-السنة:2009.
[7] – Platon – Premier théoricien de l’éducation :155
[8] -أرسطو عند العرب لعبد الرحمان بدوي:164
[9] -الذكاء الإنساني :اتجاهات معاصرة وقضايا تقديم الدكتور محمد طه:15 إصدار عالم المعرفة العدد: 330السنة :2006.
[10]-ما هي العلوم الإنسانية لمحمد وقيدي ص:11
___________________
*الدكتور محمد بنعمر
*المصدر: التنويري.