“العشيرة والدولة في بلاد المسلمين”: تساؤلات راهنة
التنويري
صدر حديثاً عن سلسلة “ترجمان” في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” كتاب “العشيرة والدولة في بلاد المسلمين” الذي صدر عام 2013 باللغة الفرنسية وضمّ دراسات لعدد من الباحثين وأشرف عليه وحرّره الباحث العراقي هشام داوود، ونقله إلى العربية رياض الكحال ونبيل الخشن.
في هذا الكتاب، فكَّكت نخبة من أهم الباحثين والمتخصصين الأكاديميين ما نعنيه اليوم بالعشيرة/ القبيلة، في موضوعات مستخلصة من أعمالهم الميدانية الطويلة، منها: آليات عشرنة/ قبلنة قسم من مجتمعاتنا المحلية؛ ميل الناس أو حصرهم أو تشجيعهم على إعادة تجميع أنفسهم في وحدات محلية كالعشيرة (فعلية كانت أم متخيلة)؛ المصالح الفردية والجماعية التي تربط بين الأفراد ويعاد إنتاجها من خلال المنظومة العشائرية/ القبلية المستحدثة؛ معنى الانبعاث الراهن للعشيرة/ القبيلة في لحظة طغيان خطاب العولمة؛ علاقة الحركات الإسلامية الراديكالية بالعشائر/ القبائل، وغيرها من الأسئلة التي تشغل باحثين كثيرين.
العشائر والإسلاموية بين إيران والجزائر
يتألف كتاب العشيرة والدولة في بلاد المسلمين (336 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من قسمين. اشتمل القسم الأول المعنون “العشائر/ القبائل، الإسلاموية والدولة” على ثلاثة فصول. جاء الفصل الأول من القسم المذكور بعنوان “العشائر/القبائل والحركات الإسلامية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط”. وفيه يبيّن الباحث الأميركي في الأنثروبولوجيا ديل ف. إيكلمان أن العشائر/ القبائل هي مكون أساس من مكونات المشهد الاجتماعي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الوقت الراهن، وأن العلاقات التي تربطها بالحركات الإسلامية المعاصرة تختلف إلى حد بعيد عن تلك التي تربط هذه الأخيرة بالسكان غير العشائريين. وفي رأيه، لا يمكن فصل العشائر/ القبائل عن المشهد السياسي والاجتماعي الحديث، على غرار الجماعات العرقية واللغوية والفئات الاجتماعية القريبة من الأحياء المدينية المتلاحمة بشدة.
وُسم الفصل الثاني بـ “السياسات القبلية للدولة الإيرانية، من القاجار إلى الجمهورية الإسلامية”. وفيه يقول الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي جان بيير ديغار إن ثمة واقعتين تفرضان نفسيهما على من يدرس تاريخ القبائل والعشائر في إيران: العلاقة شبه العضوية التي كان من الصعب تجنبها مدة طويلة بين القبائل والدولة المركزية، وتعدد أشكال تلك العلاقة وطرقها وتبدلاتها، والتي يمكنها أن تنحو نحو مسالك ووسائل تعبيرية بعيدة جدًا ظاهريًا عن تلك المهيمنة في عالم السياسة. ويرى أن الدولة الإيرانية كانت تشعر في أغلب الأحيان بأن القبائل تمثل تهديدًا يجب صده أو القضاء عليه. ولأنه لا يمكن فصل القَبَلية عن الترحال، حاول أغلب البلدان أن يعالج موضوع الترحال بالتوطين الحضري، خالقًا بذلك مشكلات أكثر مما كان يحلها.
أما الفصل الثالث “الجزائر: القبيلة كأفق سياسي”، فيقول الباحث الجزائري في الأنثروبولوجيا يزيد بن هونات، إن الجزائر ليست بالبلد الذي تتمتع فيه القبائل بوزن على الساحة السياسية الوطنية، على الرغم من مقدرتها على ذلك محليًا في مناطق السهول العالية والمناطق الصحراوية. وإذا كان الموضوع يطرح من جديد على المستوى الوطني، وخصوصًا منذ ظهور تنسيقيات الدايرات والعروش والبلديات في منطقة القبائل، فإن الحقيقة العشائرية تبقى مختلفة تمامًا عن تلك التي تتناقلها وسائط الإعلام.
عشائر وقبائل ونزاعات وديناميات اجتماعية
احتوى القسم الثاني من الكتاب، وعنوانه “العشائر والقبائل في مناطق النزاعات”، على سبعة فصول. وُسِم أولها، وهو الفصل الرابع بحسب ترتيب المباحث في كامل الكتاب، بـ “أفول المؤسسة القبلية في أفغانستان”. وفيه يرى أستاذ العلوم السياسية الفرنسي جيل دورونسورو أنه إذا كان البشتون في أفغانستان وباكستان أهم مجتمع قبلي في العالم، فإن التحولات التي طرأت عليه تشير إلى تغير مهم للتوازنات الاجتماعية واختفاء القبائل كلاعبين سياسيين متماسكين، إلا على مستوى محلي جدًا. ومع ذلك، لا تختفي الهوية القبلية لكنها تحدث آثارًا مشابهة في الهويات الأخرى القابلة للتعبئة بسبب غياب التعبير المؤسساتي المستقر. وفي وجهة نظره، لم تعد تتضح علاقة الإسلام بالهوية بسهولة، وتعيق القبيلة، في رأي بعض النخب المدينية في الأقل، بروز حركة قومية بشتونية. لكن سواء عادت طالبان إلى كابول أو أن حلًا سياسًيا آخر برز بعد مغادرة التحالف الدولي، فإن البرهان قد أعطي بأن موقع القبائل في اللعبة السياسية يبقى هامشيًا، كشبكة تضامن في المؤسسات أو كلاعب في سياسة محلية جدًا.
وبعنوان “الطالبان والملالي وجماعات لشكر: الديناميات الاجتماعية في المناطق القبلية الباكستانية منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001″، جاء الفصل الخامس لمؤلفته المستشرقة الفرنسية مريم أبو ذهب، والتي ذهبت فيه إلى أنه منذ “11 سبتمبر”، بدأت الأنظار تتجه نحو المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية الموجودة على الحدود الأفغانية. فأغلب الاعتداءات المنفذة في باكستان والدول الغربية سببها هذه المناطق، خصوصًا في وزيرستان. وأغلب الدراسات التي تتناول بالبحث المناطق القبلية لا تعزو الحوادث التي جرت خلال العقدين الأخيرين إلا إلى العوامل الخارجية حصرًا. وبحسب رأيها، ينبغي أخذ الدينامية المحلية بمجملها في الاعتبار. لذا، تتناول تطور النماذج الاجتماعية والزعامة ضمن المناطق القبلية منذ وصول القاعدة إلى المنطقة بعد 11 سبتمبر، مركزةً على وزيرستان معقل القاعدة والطالبان المحليين والأفغان، وعلى فهم أفضل للدينامية الداخلية للمجتمع القبلي البشتوني وإعادة تحديد هويته.
القبلية والحرب في اليمن والصومال
في الفصل السادس “اليمن المعاصر: مجتمع قبلي؟”، قدم الباحث الفرنسي في العلوم السياسية لوران بونفوا بعض الأفكار الدقيقة حول استقرار دور القبائل واستمراره في مجتمع يمني معاصر تجتازه عمليات إعادة تركيب اجتماعية وسياسية عديدة. وبحث في التفاعلات بين السلطة السياسية والدولة والقبائل، قبل أن يحلل الديناميات الاجتماعية والسياسية التي تؤدي إلى نوع من إعادة التقويم لأهمية المنطق القبلي في اليمن. ويقول إن المجتمع اليمني ليس قبليًا فحسب، بل هو متأثر أيضًا بمراجع عدة متعلقة بالهوية، لا تتنافس أو لا يلغي بعضها بعضًا بالضرورة، وإنما تزيد من تعقيده وغناه.
ومن اليمن إلى الصومال في الفصل السابع المعنون “عن الصوماليين والقبيلة وسياسة الحرب (1991-2009)”. وفيه لا يدخل الباحث الفرنسي في العلوم السياسية رولان مارشال في اعتبارات نظرية أو منهجية، بل يبحث في الأهمية التي اكتسبها التاريخ، خلال أعوام الحرب الأهلية الصومالية، أكثر من الآليات الشكلية لقرابة النسب، ويسلط الضوء على دور الديناميات المنبثقة غالبًا من العالم الخارجي، والتي دفعت بناشطين سياسيين أو عسكريين إلى إظهار روحهم الابتكارية بالاستخدام الغريب للتقاليد المستحدثة وغير المستحدثة التي غيرتها آلية العمل القبلي. ويلفت مارشال النظر إلى عدم التجانس الكبير للجماعات الاجتماعية الموصوفة بالكلمة نفسها، كلمة القبيلة، معتبرين إياها على مستوى النظام الانقسامي نفسه.
الروابط العشائرية في ليبيا والعراق
اختص الفصل الثامن بـ “الروابط البدائية والتسلط والانتفاضة الشعبية في ليبيا”. وفيه يقول الباحث في المركز الوطني للدراسات العلمية (مركز جاك بيرك – الرباط) علي بن سعد، إن عملية التحديث التي بدأت بعد الاستقلال وسقوط الملكية في ليبيا أدت إلى تأكّل المرتكزات الجغرافية والاجتماعية للمرجعيات القبلية. فالقذافي أعاد طريقة العمل القبلية إلى النظام بما يخدم استراتيجية تخليد السلطة، ورفّع الإطار القبلي إلى دور المرجع الحصري في التعامل مع سكان الدولة لتهميش أي كيان مدني قادر على التمكن والاستقلالية، ما أدى إلى تأسيس حوكمة على قاعدة شرذمة الدولة وعلاقة مجزأة بالمجتمع. فكانت الخلاصة عمليات تنافس منسقة ومفروضة بين الجماعات، وإعادة تشكيل دائمة للتحالفات، من أجل تقوية الهيمنة وضمان الولاءات.
كان للعراق نصيب من البحث في الكتاب المشار إليه، ففي الفصل التاسع وعنوانه “العشائر العراقية في أرض الجهاد”، يقول محرر الكتاب هشام داوود إن العشيرة تظل في نظر السلطات السياسية والعسكرية العراقية وكذلك التحالف الدولي فاعلًا مفيدًا على الصعيد المحلي أو فاعلًا يزعزع استقرار النظام المحلي. وتحتاج عشائر اليوم، كي ترسّخ دورها كفاعل، إلى دعم الدولة إذا كانت الدولة تتمتع بالوجود والهيمنة، وإلا فإنها ستحتاج إلى دعم القوى الأخرى في المنطقة. ولئن كانت العشائر تحتاج ماديًا إلى مساعدة القوى الخارجية، فإن سلطتها تتواتر وفق أنماط وقواعد محلية. هذه هي بالضبط النقطة التي لم تفهمها القاعدة في العراق وفهمها داعش إذ سعى إلى الحفاظ على نوع من التفاهم مع العشائر المعادية للسلطة.
خلاصات نظرية في الطائفة والعشيرة
ولا بد في نهاية الكتاب من بعض الخلاصات النظرية في الشأن المبحوث فيه، وهكذا يأتي الفصل العاشر والأخير بعنوان “خلاصات نظرية حول الطائفة والعشيرة: عن التوازن بالغلبة في الوطن العربي”. وفيه يقرر الباحث والأكاديمي اللبناني سعود المولى أن الأشكال الطائفية والعشائرية السائدة في المشرق العربي ليست علاقات مترسبة من الماضي، متناقضة مع الأنماط السياسية والاقتصادية السائدة، بل هي علاقات سياسية واقتصادية في آن واحد، وعلى نحو أدقّ؛ هي علاقات سياسية – اقتصادية. فهذه الكيانات لا تقوم على علاقات إنتاج محددة بل على علاقات رواج. وظلت علاقات القربى تضطلع بمهمات العلاقات الموحِّدة للمجموعات التي ارتبطت بهذه الكيانات القائمة على التوازن. وفي رأيه؛ إن المستويات الثلاثة لبنى القرابة التقليدية (العشيرة – العائلة – الطائفة) هي اليوم في مرحلة انتقال، لكن مزاجها يحكمه الميل إلى انهيار العشيرة وبروز العائلة الصغيرة، ضمن حركة تناقضية تؤدي إلى تكوّن الطائفة كمزاج مستجد، وتصبح الطائفة هي التي تحكم هذه المستويات بوصفها قاعدة القرابة القائمة على التوزيع والتجارة. وتصبح العائلة قاعدة الطائفة بوصفها شكلًا اجتماعيًا يلائم الأوضاع الاقتصادية والسياسية الجديدة. أما العشيرة/ القبيلة فتبدأ عملية انهيارها.
خاتمة الكتاب
في الخاتمة، “القبائل والإثنيات والدول”، يقترح الباحث الأنثروبولوجي الفرنسي موريس غودولييه إعطاء تعريف لماهية العشيرة/ القبيلة والإثنية، ومن ثم إظهار الفرق الأساسي بين عبارتَي “الطائفة” و”المجتمع” المتداوَلتَين بكثرة، سواء في الصحافة أو عند أصحاب العلاقة أنفسهم. ثم يقدم بعض الأمثلة عن العشائر/ القبائل ليظهر تنوعها، وكي يضع هذا التنوع ضمن منظور تاريخي على الأمد الطويل. ثم يتناول مسألة العلاقات بين العشائر/ القبائل وأشكال الدولة المختلفة، خاتمًا بالإشارة إلى مسألة تبقى مستعصية على التوضيح: العلاقة بين العشير/ القبيلة والمدينة.