يؤكِّد د. إبراهيم العاتي أنَّ الحفظ والتلقين وترديد المعلومات هو بمثابة الآفة التي تفتك بالتعليم ومؤسّساته في العالم العربي والإسلامي، مشدّداً على أن التعليم الحقيقي يساهم في تحقيق العدالة باعتباره قوّة فاعلة للخير. ويرى أنَّ إصلاح التعليم يبدأ من إصلاح المناهج التي تراعي أن يكون هدف الجامعات ليس زيادة أعداد الخريجين، بل تحقيق نهضة تنمويَّة شاملة.
ويعرج د. العاتي في حديثه على ضياع صوت التيار الوسطي الذي ينفتح على العصر ويقدِّر المتغيّرات مع ضرورة الحفاظ على الثوابت، في ظلّ التحارب الناشب بين الحداثة والقديم، التقته “التنويري” وكان معه هذا الحوار:
ما أهداف التعليم في الإسلام؟
تتلخّص أهداف التعليم في الإسلام في التعريف بمبادئ الدين الحنيف من النواحي العقديَّة والشرعيَّة والسيرة النبويَّة وغيرها من العلوم التي تساعد على فهم النص القرآني وتبليغه وتعليمه للمسلمين، قال تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وإن كان التعليم في الإسلام يشمل العلوم المختلفة، وليس العلوم الدينيَّة فقط، والمعروف أنَّ جابر بن حيان الكيميائي الشهير قد تتلمذ على الإمام جعفر الصادق وروي عنه الكثير من رسائله في الكيمياء.
ما هي الخصائص الأساسيَّة للتعليم الجيّد بشكلٍ عام، والتعليم الديني خاصَّة؟
تتمثَّل خصائص التعليم الجيّد في:
أ. عرض القضايا والأفكار بشكلٍ حيادي وموضوعي مع احترام وجهات النظر الأخرى.
ب. شرح المفاهيم وتقريبها من أذهان الطلبة وربطها بالواقع المعاش.
ج. الاستفادة من طرق التعليم الحديثة ومناهج البحث العلمي المعاصر.
أمّا التعليم الديني فهو الذي يعاني من ثغرات وأمراض مزمنة ولذا فإن خصائص التعليم الديني وطرقه الجيدة تتمثّل في:
الرجوع إلى القرآن الكريم والصحيح من سنّة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم طبقاً لمبادئ علوم الحديث.
في دراسة القضايا والمفاهيم الإسلاميَّة يجب الرجوع إلى آراء المذاهب المختلفة دونما إقصاء لمذهب معيّن أو تكفيره أو ما شابه، وهذا لن يتحقَّق إلا بالاطلاع على آراء مختلف المذاهب الإسلاميَّة التي ينبغي الرجوع إلى مؤلّفيها وعلمائها أنفسهم لا إلى ما يكتبه الخصوم عنهم.
هل بالإمكان تسمية العودة إلى القرآن بـ (التنوير الإسلامي) على غرار تسمية الدعوة إلى العقل بــ (عصر الأنوار الغربي)؟
بداية.. متى ترك المسلمون القرآن حتى يعودوا إليه؟ القرآن كتاب المسلمين الخالد الذي أنزله الله على نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلّم ورسم فيه طريق الهداية للناس كافَّة: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم) والقرآن هو الذي يدعو المسلمين إلى الالتزام بالسنَّة القطعيَّة الصحيحة (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
ولكن إذا كان المقصود أنَّ جماعة من المسلمين قد غالت في الاعتماد على السنَّة حتى وإن خالفت صريح القرآن، وهو ما تقوم به الجماعات التكفيريَّة والوهابيَّة المتأثِّرة بابن تيمية، فقد يكون هذا الكلام مقبولاً مع حفظ الفوارق… لأن عصر التنوير الغربي قام على أساس التضادّ مع الدين، خاصَّة في نسخته الفرنسيَّة، وأبرز ممثّليها الفيلسوف والأديب الفرنسي فولتير.
في خضم ارتفاع حدّة الأصوات المتطرّفة، يتمّ تهميش أساليب التعليم المستنير دائماً في المجتمعات ذات الأغلبيَّة المسلمة، أين يكمن العيب في رأيك، هل بسبب النخبة التعليميَّة أو القراءة القديمة للنص الديني، أو كلاهما؟
أعتقد أنّ السبب مشترك بين النخب التعليميَّة والقراءة القديمة للنص الديني، فالنخب التي تولَّت أمر التعليم كانت منبهرة بما رأته في الغرب دون اعتبار للواقع الموجود في المجتمعات الإسلاميَّة، خاصّة العلوم الإنسانيَّة من تربية وعلم نفس واجتماع وفلسفة، بل حتى علوم الدين التي حاولوا أن يطوعوها للمناهج والثقافة الغربيَّة، وخير مثال على ذلك ما كتبه طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر). وكان نقيض هؤلاء هم المتمسّكون بالنصوص القديمة دون اعتبار لتغيّر الزمان والأحوال فكأنّهم يعيشون في الوقت الذي نزلت فيه تلك النصوص. وقد ضاع صوت التيّار الوسطي الذي ينفتح على العصر ويقدّر المتغيّرات مع ضرورة الحفاظ على الثوابت.
هناك كلام كثير في أوساط المسلمين عن (تجديد التفكير الديني) انسجاماً مع العصر، وهنالك من يدعو لذلك، لكنه يرفض الخروج أو على الأقل مراجعة الأنساق الفكريَّة المكرّسة تاريخيّاً للمسلمين، مثل موقع التراث الديني المركزي في تكوين الهويَّة والعقيدة المسلمة. ما هي محدوديَّة مثل هذا التوجّه في حلّ ما يبدو معضلة حضاريَّة لمسلمي اليوم، وما هو التّوجّه الأسلم لتجديد التفكير؟
التجديد أمر راود أذهان المصلحين منذ ما يقرب من قرنين في العصر الحديث على الأقل، وهو يهتمّ بتسليط الأضواء على جملة من المعطيات والممارسات والأفكار التي حسبها الناس على أنّها من الدين، والدين منها براء، وإنما هي أقرب إلى العادات والتقاليد التي توارثتها الأجيال وتمسّكوا بها ظنّاً منهم أنّ لها قدسيَّة، وشجّعهم على ذلك سكوت بعض أهل العلم الذين كان المفروض بهم أن يبصِّروا المجتمع بحقيقة هذه الممارسات ومدى قريبها أو بعدها من الدين الحنيف.
كيف يمكننا من الناحية العمليَّة أن نجعل التعليم قوّة للخير في المجتمعات الإسلاميَّة لتمكين الناس من تحقيق العدالة الاجتماعيَّة، وتقييد سلطة السياسيّين والمؤسّسات الدينيَّة؟
يكون التعليم قوّة للخير والفائدة للجميع إذا ساهم في تحقيق العدالة، لأنّ السياسيين غالباً ما يفضّلون إشاعة وتعليم الناس طاعة الحكّام والخضوع لهم حتى وإن كانوا جائرين، ويعاونهم في ذلك بعض المحسوبين على المؤسّسات الدينيَّة لوجود مصلحة مشتركة بين الظرفين، لكننا نجد أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ابتدأ من أوّل يوم استلم فيه الخلافة تصحيح المسارات وإزاحة المفسدين من الولاة والحكّام، وحينما نصحه بعض الصحابة بالتريّث في ذلك حتى تستتب له الأمور لأنَّ هذه القرارات ستفتح عليه جبهات كثيرة، قال كلمته الشهيرة: ( إنَّ في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق).
في التقاليد الإسلاميَّة وحديث النبي، كمثال في هذا السياق: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” هناك تركيز على التحقيق المفتوح والتعلّم مدى الحياة. أنها تدور حول الاعتقاد بأن الرحلة اللانهائيَّة من الوعي والنضج سوف تطوّر البشر روحيّاً وفكريّاً. وبعبارة أخرى توجّه البحث المستمرّ والمتجدِّد عن المعارف الجديدة، هل من الممكن التوفيق بين مثل هذه الفرضيَّة مع مبادئ التربيّة الإسلاميَّة العالقة عموماً في الذهنيَّة والمعرفة السائدة للعصور الوسطى؟
إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي أشرتم إليه هو فعلاً يعني استمراريّة العلم والتعلّم مدى الحياة، وهذا يعني استيعاب المعطيات الجديدة والاكتشافات التي يجود بها العلم كل يوم بل كل ساعة. وآية (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) تعني أنّ العلم والتعلّم لا حدود لهما.
في تجربتي التعليميَّة على مستوى التعليم العالي (الجامعي) عادة ما أدفع الطلبة على أهمّيَّة “كيف تفكّر” بدلا عن “بماذا تفكِّر” لتطوير القدرة على حلِّ المشاكل. وأن يصبح الطلبة خلاقين، وعقولهم مدرّبة ومبدعة في تطوير الحلول العصيَّة. هل من الممكن بالتالي للتعليم عموماً وللتربية الإسلاميَّة بشكلٍ خاصّ تحقيق هذه الأهداف للشباب وكيف يتمّ ذلك عمليّاً؟
ما أفهمه من (كيف تفكِّر) هو سؤال عن المنهج (وبماذا تفكِّر) سؤال عن المحتوى وكلاهما مهمّان، لكن المنهج وطريقة التفكير هي التي تنقص الدعاة في إيصال المعلومات والمضامين التربويَّة والخلقيَّة الرائعة التي أمر بها الدين الحنيف إلى الشباب بصورةٍ صحيحة وتتناسب مع تفكيرهم الحديث والمجتمعات المتطوّرة التي يعيشون فيها.
التربية الإسلاميَّة حاليّاً تستند إلى حدّ كبير على عناصر الهويَّة والأصالة، وتركِّز كثيراً على افتراض أنّ الاستعمار الغربي (الغزو الغربي) كان للسيطرة على عقول المسلمين. مع هذا الانتشار الواسع للمفهوم والمتجذِّر في التعليم الحديث والديني. كيف / أين نبدأ إصلاح التعليم؟ وكيف لنا المواءمة بين الأهداف المتنافسة لتشكيل الهويَّة والتنمية الاستقلاليَّة الذاتيَّة لدى الطلبة؟
الغزو الثقافي الذي قام به الاستعمار الغربي صحيح وموجود بنسب متفاوتة تبعاً لقسوة تلك الدول وحدّتها في تنفيذ مخطّطاتها. فالاستعمار الفرنسي مثلاً عرف بقسوته في تطبيق سياسة (الفرنسة) في الجزائر ومحو الهويَّة العربيَّة والإسلاميَّة للشعب الجزائري، بينما كانت بريطانيا مثلاً تمارس هذا الغزو الثقافي قد ضخّم بشكلٍ كبير وأرى أنّ إصلاح التعليم يبدأ من إصلاح المناهج التي تراعي أن يكون هدف الجامعات ليس زيادة أعداد الخرّيجين بل تحقيق نهضة تنمويَّة شاملة.
المشكلة مع التعليم عموماً والتعليم الإسلامي على وجه الخصوص اليوم أنهما يفتقران لطرق التدريس الحديثة التي لا تفضي بما فيه الكفاية لتطوير التفكير النقدي الحقيقي والابتكار للطلبة على حدٍّ سواء. قراءة القرآن الكريم تشير بوضوح إلى دور التفكير الجدلي في سموّ إيمان الإنسان وبالتالي على أهمّيَّة دور التربية الإسلاميَّة في مقاومة التلقين وتعلّم الحفظ والتعلّم المتمحور حول المعلّم، والاستماع السلبي.. الخ. ما هو رأيك؟ وإذا كنت توافق فكيف يمكننا تنفيذ ذلك عمليّاً من حيث التعليم والتعلّم والتقييم؟
أن طريقة الحفظ والتلقين وترديد المعلومات كما يردّدها الببغاء هي الآفة التي تفتك بالتعليم ومؤسّساته في العالم العربي والإسلامي، وإنّ غياب الحسّ النقدي لدى الطالب ينتج شخصاً سلبيّاً يتلقّى ما يتعلّمه دونما تحقّق أو تمحيص. ولعلّ هذا يفسِّر الأجيال التي يجنّدونها في العمليّات الانتحاريَّة التي تفتك بالمدنيّين الأبرياء، ويخدعونهم ببضع كلماتٍ مضلّلة يقولها هذا الشيخ أو ذاك تنفيذاً لأجندات سياسيَّة مشبوهة.
بطاقة:
_______
. ولد في مدينة النجف الأشرف (العراق).
. حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة دمشق، وشهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة عين شمس (القاهرة).
. امتهن التدريس في جامعات الجزائر وليبيا ولندن والعراق.
. أشرف وناقش على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه.
. يشغل حاليّاً منصب عميد الدراسات العليا في الجامعة العالميَّة للعلوم الإسلاميَّة في لندن.
. عضو الجمعيَّة الفلسفيَّة العربيَّة في عمّان (الأردن).
. صدرت له العديد من الكتب والأبحاث والدراسات.
*المصدر: التنويري.