المقالاتفكر وفلسفة

الطاو والفيض؛كيف يحدِّد الأصل الأوَّل للوجود نمط الحياة الروحيَّة؟

وقف إنسان قبل الحضارة وقفة فضول وتأمُّل أمام هذا الوجود العظيم الذي ما ينفك يتَّصل به، وقد نجم عن هذه الوقفة، أولا تساؤلات بشأن أصل العالم ومكوناته، وثانيا إجابات اكتست طابعا أسطوريا، أو هكذا نخالها كأساطير. ولأن السؤال في الفلسفة أهم من الجواب كما يعتبر ذلك كارل ياسبيرز، فإن إنسان ما قبل الحضارة كان إنسانا كثير السؤال، وإن كانت الطريقة التي تطرح بها الأسئلة عنده غير واضحة ومشوشة ولا تنبع من قرارة العقل وإنما يسوقها الخوف، إن سؤاله بهذا المعنى سؤال مرتجف ومرتعد وتلقائي، وليس ثابتا ولا يخضع لأي نظام محدَّد. أما إنسان الحضارة فقد طرح أسئلة ميتافيزيقيَّة انبثقت من جموح رغبته إلى فهم العالم حوله انطلاقا من ذاته، لأنه يدرك بأن العلم بالأصل يكفل له انتهاج سبيل لعيش حياة حكيمة وليس فقط التخلص من الخوف، وهكذا كان الإنسان الشرقي القديم يعتقد، ولأنه يعيش في وسط تعمه الفوضى ويطبعه التعدد ويسمه التغير فإنه سعى إلى تتبع مسار التغير لبلوغ الوحدة والثبات، على اعتبار أن هذا التشظي الموجود في العالم إنما هو منبعث من أصل ثابت لا يتغير، فإذا كان الإنسان الأول تعلق بالأصل وشد وثاقه بالأسطورة والاستعطاف حتى بات يتشكل على هيئة تتشبه بالإنسان، فإن الثاني قد وضع الأصل موضع تساؤل بما هو وحدة وثبات، ولا نلفي في الفكر الشرقي أجذر من الفلسفة الطاويَّة في تقديم تصور فسلفي متكامل حول الأصل، ولعلنا نجد شبيها لهذا التصور في الفلسفة اليونانيَّة مع الأفلاطونيَّة الجديدة ونظريَّة الفيض، لذلك سنعقد مقارنة في ظاهرها إجابة عن إشكال الأرخي أو الأصل وفي باطنها إبراز لأسبقيَّة الفكر الشرقي إلى احتلال مشهد التفكير الفلسفي الذي يتوسم بالتساؤل ويتسامى بالتأمل وينتعش بالدهشة. فما هو الأصل الكوسمولوجي للوجود بين الفكر الشرقي والفكر الغربي؟  أو بين الطاو والفيض؟

الطاو أو وحدة الوحدة:

 لقد غرف مفكرو الصين من معين التراث الصيني القديم المعبر عنه في كتاب ” التغيرات ” وهو كتاب تجهل هويَّة كاتبه، ويوحي من عنوانه إلى مفهوم أساسي هو مفهوم التغير، لذلك فالإنسان الصيني كان مشغول البال تجاه الحركيَّة التي تميز هذا العالم، فدأب على البحث عن الإطار الذي يوجه عمليَّة التغير هذه، فصحيح أن كل شيء يتغير، لكن هذا التغير موجود في إطار ثابت لا يتغير، وهذا الإطار هو ” الطاو ” عند الفيلسوف الحكيم لاوتسو، هذا الكيان الذي لا يتطابق مع أي مفهوم نعرفه عن الألوهة المفارقة، الخالقة للعالم والمتحكمة فيه عن بعد، ولا مع أي قانون مفروض على العالم من خارجه، بل هو الخميرة الفاعلة في الكون من داخله، والنظام الضمني الذي يدفع صيرورة عمليات الطبيعة، وصف لاوتسو الطاو قائلا:

هناك شيء بلا شكل

موجود قبل السماء والأرض

صامت وفارغ

قائم بنفسه لا يحول

شأنه الدوران بلا كلل

مؤهل لأمومة هذا العالم

لا أعرف اسمه فأدعوه: الطاو

لا أستطيع وصفه فأقول: العظيم

الامتداد يعني امتداد بلا نهاية

الامتداد بلا نهاية يعني العودة إلى نقطة المبتدى [1]

هذه العمليات الطبيعيَّة تشبه تفتح زهرة، حيث تنبثق الفعاليَّة الخلاقة من الداخل إلى الخارج، لا من الخارج لتؤثر على الداخل، ومن خلال هذه الفعاليَّة التلقائيَّة يفيض الطاو من اكتماله البدئي ليتحول إلى ما لا يحصى من المظاهر الحيَّة والجامدة ( بالتركيز على كلمة فيض )، هذا الفيض ليس فعلا إراديا ناشئا عن خطة محكمة مسبقة ذات مقاصد محددة في عقل مستقل مفارق[2]، بقدر ما هو نوع من الفعل التلقائي الذي يصفه المعلم لاوتسو بأنه فعل اللافعل يقول: ” الطاو ليس شيمته الفعل، ومع ذلك لا يترك شيئا بلا إتمام”. إذن فالطاو هو عنصر لا يمكن قوله، إنه ينفلت من قبضة اللغة، إنه مجرد عن كل اسم وعار على كل الصفات[3]، فهو ليس شيئا وإن كان مبدأ الأشياء كلها، يقول ” الطاو أوجد الوحدة، الوحدة أوجدت الثنائيَّة، الثنائيَّة أوجدت التثليث، التثليث أوجد كل آلاف الأشياء… “. لكن، إذا قلنا أن الطاو لا يمكن قوله أو تسميته، فما هذا الذي نسميه طاو؟ إن لاوتسو يهدف بقوله إن الطاو يتجاوز كل الأسماء إلى إيضاح أن المصدر والمبدأ الأساسي لا يمكن تسميته لأن المصدر ذاته لكل الأسماء والأوصاف، وينبني على ذلك أن الطاو هو لا اسم، فهو لا يشير إلى أي شيء واحد، وإنما هو بالأحرى يشير إلى ذلك الذي يمكن الأشياء من أن تكون ما هي عليه، إنه ذلك الذي يمنحها الوجود، ويسمح لها بأن تنداح إلى العدم، وعندما يقال إن الطاو هو مصدر كل الوجود والعدم، فإن كلمة طاو تعمل مثل كلمة (ذلك)، عندما يقال: ” ذلك الذي منه ينطلق الوجود والعدم “[4]، فالطاو لا يميل إلى مظهر دون مظهر مضاد آخر، وإنما يقبع بين جميع المظاهر المتقابلة والمتنوعة والمختلفة، إنه الوحدة التي تجمع الذوات إلى بعضها، وتجمعها إلى ما لا يحصى من الظواهر الحيَّة والجامدة، حيث يتخذ كل جزء معناه من الكل، ويتخذ الكل معناه من الأجزاء، وتؤول التعارضات على المستوى الظاهري إلى تواحد على المستوى التحتي. فالطاو هو الماضي والحاضر، هو الشكل والهيولي، هو الوجود والعدم، هو اليانغ والين. إنه وحدة الثنويات والمنبع البدئي لكل بداية ونهاية، إنه المستوى الذي ينشأ عنه كل ميلاد وإليه يهوي كل موت.

لا ينبغي في ظل الطاو أن نعتبر الإنسان مركزا للكون كما ذهبت إلى القول بذلك الفلسفة الكونفوشيوسيَّة التي لم تكن تأبه لمشكلة الأصل بل كانت تسلم فقط بقدسيَّة السماء كمعتقد قديم لدى الصينيين القدماء، فلاوتسو يرى أن كل شيء إنما هو شيء مركزي في الكون، وكل الأشياء تتساند مع بعضها البعض لكي تنتج الحياة، حتى الأشياء التي نضعها في موضعين متقابلين متضادين، إنما هي تدخل في حالة اندماج لتحقق النظام والتوازن، الأمر هنا أشبه بإنسان ” الجين ” عند كونفوشيوس، الإنسان الذي لا هو يميل إلى الإفراط ولا هو يميل إلى التفريط، فقط يكتفي بموقع الوسط حيث تكمن السعادة الحقيقيَّة، ومن هذا المنطلق يمكن أن نستشف مرتبة الإنسان عند لاوتسو، فهو مجرد جزء من أجزاء الطبيعة وهو أحد كائناتها وليس مركز الكون، لكنه مركز بالنسبة للطاو الذي يحدد كل شيء كمركز لا غنى عنه، الأمر هنا يشبه سطح الكرة حيث تتخذ كل نقطة عليه دور المركز، فالإنسان إذن لا هو حاكم ولا هو محكوم، وذلك لأنه يحتاج أشياء أخرى لكي يوجد، يحتاج إلى القمح، والقمح يحتاج الأرض، والأرض تحتاج الماء، والماء يحتاج دورة الفصول، وهذه الدورة تحتاج للشمس، والشمس إلى المجرة، والمجرة إلى بقيَّة النظام الكوني، وكما انتقلنا بشكل تصاعدي من الجزء إلى الكل، يمكننا كذلك أن ننتقل بشكل تنازلي من الكل إلى الجزء، ولكن لا يقودنا إلى القول بأن الطاو وعاء يحتوي كل الأشياء، لأنه ليس وحدة، بل هو مصدر الوحدة، إنه بذلك فارغ [5]، بيد أن هذا الفراغ لا يعني عدم وجود شيء، لأنه منبع الفراغ ومنبع عدم وجود شيء. وعلى الرغم من أنه فارغ وخاو فإنه الأكثر نفعا بين كل الأشياء، وكما أن الشيء الأكثر نفعا في المنزل هو خواؤه، الفراغ الموجود فيه، فكذلك الشيء الأكثر نفعا في الطاو هو خلوه من الخصائص والسمات، لأن هذا يعني أن له طاقة لا نهايَّة لها، لذلك فإن خواء الطاو مرادف لكونه المصدر غير المتناهي لكل الأشياء.

وبما أن الإنسان جزء فإن عليه أن يستسلم للطاو أو النظام الكوني الطبيعي، وذلك بالتقليل من الرغبات والطموحات إذا ما أراد أن يعيش في هدوء، وكان لاوتسو نبيها إلى مشكلة الرغبة، بحيث كان اسبينزا ومن بعده أندري كومت سبونفيل وغيرهما من الفلاسفة يقدحون الرغبة باعتبارها السبب الرئيسي في انبتات حالة اليأس والإحباط في نفس الإنسان، لأن الرغبة لا تنتهي، وما إن يتخلص الإنسان من رغبة حتى تطفو له رغبة أخرى على السطح، فتتحول حياته إلى لهث متواصل وراء تلبية رغباته، والحق عند الحكيم لاوتسو حينما قال ” بقدر ما يقلل الإنسان من رغباته ويستسلم لكل ما هو طبيعي بقدر ما يكون سعيدا “[6]. واقترح لاوتسو منهجا في الحياة مستمدا من الطاو، هو منهج ” الوي واي ” أو عدم الفعل أو فعل اللافعل، فكما أن الطاو لا يفعل شيئا، فعلى الإنسان كذلك ألا يفعل شيئا، وكل ما يسعه أن يفعله هو أن ينساق بانسيابيَّة دون أي مقاومة أو جهد أو نشاط مع النظام، ولن يتحقق ذلك، إلا عن طريق البساطة والوضاعة، فعندما تغدو الدنيا باردة للغايَّة فإن عكسا للأمور يحدث، ويبدأ الدفء في القدوم، وعندما يتفاقم الحر، فإن عكسا للأمور يحدث مجددا ويبدأ البرد في الانعدام، وهذا هو طريق أو طاو الطبيعة، وأنا جالس في هذه الغرفة أكتب هذا المقال تشتد موجة الحر في الخارج غير أن ذلك لا يمنعني من مواصلة الكتابة، فلا أنا أفكر في شراء مكيف أو آلة للتبريد، ولا أنا أشتهي فاكهة باردة كالبطيخ مثلا، ولا أنا أنتف نفسي بسبب صعوبة الحر، جل ما أفعله هو أنني أكتب دون أيَّة رغبة أو مقاومة. وبطريقة مماثلة للطبيعة فحينما يغدو شخص ما شديد الكبرياء والكرامة فإن الفضيحة والذل سيعقبان ذلك. ومعرفة الانعكاسات والانقلابات التي تشكل عمل الطاو، وتحقق التوافق مع التحركات ليس إلا الطريق نحو السلام والرضا، وكما أن المرء لا يرتدي ملابس خفيفة في الشتاء ويعاني من جراء البرد، ولا يرتدي ملابس ثقيلة في الصيف ويعاني من الحر، وإنما يرتدي ملابس خفيفة في الصيف ويستمتع بالجو الدافئ، وملابس ثقيلة في الشتاء ويستمتع بالبرد، ولا يمكن أن نتصور شتاء بلا صيف أو حر بلا برد، فنظرة الانسان الطاوي هذه إلى المظاهر في نشوئها التزامني، والى وحدة الثنائيات وتماثل الأضداد، تقوده إلى رؤية الكثرة في الوحدة والكل في الأجزاء، وللاوتسو مقطع جد رائع يعبر عن هذا التكامل في الكون:

الفقر والغنى ينبعان من المصدر نفسه

الصعوبة والسهولة يكمل كل منهما الآخر

الطويل والقصير يتناقضان

يقف العالي فوق المنخفض

الصمت والضوضاء يتناغمان

الأمام والخلف يتبع الواحد منهما الآخر

لذلك يمشي الحكيم على الأرض

يفعل لا شيء، يعلم بلا كلام[7]

إن الطاويَّة بهذا المعنى تناشد الإنسان للعودة إلى الفطرة الأولى، فطرة الطفل البريء الذي يفعل كل ما يفعل بدون وعي، لأن الوعي يفسد الأفعال، ويضفي أبعادا مجهولة قد تكون خبيثة، فالإنسان البدائي ( ليس بالمعنى الأنثروبولوجي ) هو إنسان عاش في حضن الطبيعة وانساق معها ومع قوانينها وبغياب الوعي عنه وخمود جذوة الرغبات عنده فإنه إنسان بسيط عاش سعيدا، أما إنسان اليوم فيكفي أن نحصي معدلات الاكتئاب لكي نحكم عليه. وإنها ( أي الطاويَّة ) لا تنسحب بالإنسان عن الوجود الحقيقي، وإنما تنتشله من الوجود الزائف الوهمي الذي يصنعه لنفسه عن طريق الوعي، فطريق الطاو يكمن في التماهي مع النظام والانصهار في الطبيعة والاتحاد مع نواميس الكون، ولا يتحقق ذلك إلى بالتخلية والتأمل والصفاء الروحي والنقاء الذهني [8].

الواحد في نظريَّة الفيض:

 إن تحسس التناقض الذي يعتري الوجود يستدعي فلسفة بغية توضيح وحدته، وكانت وسيلة الفيلسوف اليوناني أفلوطين لتحقيق هذا الهدف هي الفهم الجنيني للوجود، أي أن أشكال الوجود بالرغم من اختلافاتها المتعددة، ما هي إلا مراحل لتطور واحد، صحيح أن العالم الواقعي يختلف جذريا عن العالم المثالي وفق ثنائيَّة أفلاطون، كما أن العالم الأرضي يختلف عن العالم الإلهي ولكن يخرج هذين العالمين من الآخر. ويقر أفلوطين أن أصل هذا التشتت في العالم هو نظام سرمدي كامل الكمال، إنه أشبه بالطاو عند لاوتسو، ولا يمكن قوله أو التعبير عنه، بل لا يمكن التفكير فيه حسب الفيلسوف اليوناني فيلون، أي أن اللغة والفكر يعجزان عن بلوغه، فكيف ذلك؟ الأمر بالغ التعقيد هنا، فإذا قلنا أن الأصل يمكن قوله، فهذا يعني أننا سنوظف اللغة في عمليَّة القول، واللغة تقودنا مباشرة إلى الإشارة، والإشارة تفيد مشيرا ومشارا إليه، وهنا نكون قد وقعنا في فخ الثنائيَّة الذي نصبته اللغة، ولكون أفلوطين ينادي ويناصر وحدة الوجود، فإنه لم يسمي الأصل أو إلهه الميتافيزيقي إلا بالواحد، فأراد التعبير عنه فلم يستطع، فقام بمحاولة قوله دون قوله، ليقول في الأخير ” أهرب وحيدا إلى من هو وحيد “، إن الانتقاص من اللغة تجاه التعبير عن الوجود قد تبدى في الفكر اليوناني قبل أفلوطين، خصوصا مع بارمنيدس وغورغياس، هذا الأخير عبر عن هذا الانتقاص بقوله: ” لا وجود لشيء، ولو وجد شيء فلا يمكن معرفته، وإن تركنا إمكانيَّة معرفته، فلا يمكن نقل معرفته أي لا يمكن التعبير عنه “. ومن هذه الاستنتاجات التي تخلع عن اللغة سمة التعبير عما يخالج هذا الكون من أسرار وألغاز ولبوس، نخلص إلى ما يسمى في الثيولوجيا المسيحيَّة باللاهوت السلبي مع توما الأكويني، والذي يقوم على إنكار إمكانيَّة توصيف الإله، ومن هنا فبدل أن نصف الإله بما هو نصفه بما ليس هو، أي ننفي عنه صفة تنتقص منه دون أن نثبت فيه أي صفة، كأن نقول: ” الإله ليس عاجزا ” بدل أن نقول ” الإله كلي القدرة “. أما إذا قلنا أنه يمكن التفكير في الأصل أو الإله أو الأرخي أو الواحد فإن عمليَّة التفكير لا تتم إلا عبر جهازها، وجهازها هو العقل، والعقل يعقل الشيء أي أنه يمسك به ويقبضه، معنى ذلك أنه يموضعه، أي يجعله موضوعا قابلا للملاحظة والقياس وما إلى ذلك، وهذا الذي نجعله موضوعا، إنما هو شيء، فهل يمكن منطقيا إذا قلنا أن الواحد كامل الكمال أن نفكر فيه ونجعله شيئا موضوعا؟ الجواب عن هذا السؤال يقودنا إلى فهم أزمة إذلال الإله في الديانات التجسيديَّة التي تعتمد على المشخص وتؤنسن صفاته.  وبالتالي فلا يمكن التفكير في الأصل لأن كل تفكير يحد ويسود ما يفكر فيه، إنه لا يوصف، ونحن في الحقيقة لا نستطيع أن نعرف شيئا عن الواحد سوى أنه ” موجود “، وسنكون أصدق في وصفه إذا التزمنا الصمت[9].

فكيف أضفى أفلوطين طابعا في غاية التجريد على الأصل الأول؟ وما هذا الواحد عنده؟ وكيف انبثق الوجود بالنسبة له؟

يفترض أفلوطين بأن أشكال الوجود تختلف في درجة الكمال، كلما كان الوجود أكمل: لما كانت له قوة خلاقة أكبر، والمخلوق دائما أقل كمالا من الخالق،و يأتي كل شكل للوجود من شكل أكثر منه كمالا، أي أن الكمال الذي يبلغ حده يفيض ويسيل، وفق نظريَّة الفيض، فالفيض في الوجود هو نظام الكمال المتناقض، فهو سلسلة من المستوى المنحدر، يبدأ من الوجود الأكمل ويدوم طالما كانت درجات الكمال في تناقض ولم تنفذ بعد قوى الخلق. وهذا الذي نعتبره منبعا للوجود بالنسبة لأفلوطين لا يمكن أن يسمى إلا بتسميتين أولهما شامل: الواحد والخير. فالواحد هو الواحد على الإطلاق، وهو الوحدة الكامنة وراء كل كثرة، وفيه لا يوجد تعدد أو حركة أو تمايز، ولا يمكن وصفه في إطار الإرادة والفعاليَّة، لأن الإرادة تتضمن التفرقة بين المريد والمراد، والفاعليَّة تفترض تمييزا بين الفاعل ومن يقع عليه الفعل، ولهذا فإن الأصل أو الإله ليس فكرا أو إرادة أو نشاط وهو وراء كل فكرة وكل وجود. إن الإله يعلو عن الكل إنه حاضر في كل شيء بغير حركة الحضور، فبينما هو بغير مكان، لا يخلو منه مكان. ولما كان لا متناهيا بشكل مطلق، فإنه لا يمكن تحديده بشكل مطلق كذلك. ونعود لنطرح نفس السؤال على الواحد كما طرحناه على الطاو هو: كيف يمكن استخلاص العالم من مبدأ أول كهذا؟ فلما كان الله متعاليا تماما على العالم فإنه لا يمكن أن يدخل العالم، ولما كان واحد على نحو مطلق فإن التعدد لا يمكن أن يصدر عنه، ومع هذا فإن الكيفيَّة التي بها انبعث الوجود لا يمكن تصورها لأن أي فعل من هذا النوع يدمر وحدته ولاتناهيه. هذا مأزق منطقي ضرب بالصفح عن فكرة الواحد، وبما أن أفلوطين فيلسوف صوفي فإن المحاولات المنطقيَّة لا تزعج الصوفيَّة، ولما كان غير قادر على تفسير كيف يمكن للعالم أن يصدر من خواء الواحد فإنه كان عليه أن يلجأ إلى الشعور والتشبيه. فالإله كما قلنا سابقا باعتباره الأصل وبفضل كماله الفائق يفيض، ويصبح هذا الفيض هو العالم، فكل الكائنات تصدر عن الواحد.

وعلى نفس منوال لاوتسو، اقترح أفلوطين سبيلا للوصول إلى الواحد، ويتمثل في ثلاث خطوات: الأولى هي التطهير أي تحرير الإنسان من سادة الجسم والحواس ويتضمن هذا كل الفضائل الأخلاقيَّة. والثانية هي الفكر والعقل والفلسفة، والثالثة هي أن ترتفع النفس فوق الفكر إلى حدس العقل، وهو نفس ما دعا اليه بيرغسون. بيد أن هذه الخطوات ليس سوى إعداد للمرحلة النهائيَّة والقصوى للارتفاع إلى الواحد المطلق عن طريق الوجد والبهجة والورع [10]، وتنتقل النفس إلى حالة من السكر اللاشعوري وخلالها تتحد مع الإله على نحو صوفي. وهذا الفكر ليس فكر عن الإله وليس يعني أن النفس تراه، إن النفس لا تتطلع إلى الإله من الخارج بل تصبح متحدة معه.

خاتمة:

انطلاقا مما سبق نخلص إلى أن البحث في الأصل الأول للوجود قد أنار درب الإنسان إلى اكتشاف نمط أو منهج للعيش يتوافق مع هذا الأصل، فسواء لاوتسو وحكمته الطاويَّة أو أفلوطين وحكمته الصوفيَّة، كان الشيء الجامع بينهما هو فقدان الثقة في الوجود الحسي، فالواقع يعج بالتناقضات والاختلافات والتباينات، تسوده الكثير من الفوضى ويؤول إلى التشتت والتفرق والتشرذم، وفي ظل هذا الوضع، لا يمكن للإنسان أن يربط حياته وعقله بفوضى، لأن ذلك يؤدي إلى التشوش والتلبس والبعثرة، أما الأصل فهو الملاذ الذي يمكن للإنسان أن يهرب بعقله اليه، إذا ما أراد أن يعيش حياة الحكمة والفضيلة والسعادة، فهذه أمور لا تتحقق الا في خضم الوحدة والنظام والتناسق والتوازن.

بيبليوغرافيا

1. لوتسو، الطريق إلى الفضيلة، ترجمة علاء الديب، من الهيئة المصريَّة للكتاب 1998 

2. جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام، من سلسلة عالم المعرفة

3. لاوتسو، التاو تي تشينغ، انجيل الحكمة الطاويَّة في الصين، صياغة عربيَّة وتقديم وشرح الدكتور فرس السواح، دار علاء للنشر والتوزيع، ط 1

4. أفلوطين، التاسوعات، ترجمة الدكتور فريد جبر، مراجعة جيرار جهامي وسميح دغيم، من مكتبة لبنان، التاسوع الثالث، الفصل الثامن: في الطبيعة والمشاهدة والواحد


 لوتسو، الطريق إلى الفضيلة، ترجمة علاء الديب، من الهيئة المصريَّة للكتاب 1998 ، ص 31 [1]

 لاوتسو، التاو تي تشينغ، انجيل الحكمة الطاويَّة في الصين، صياغة عربيَّة وتقديم وشرح الدكتور فرس السواح، دار علاء للنشر والتوزيع، ط 1، ص 25[2]

 لوتسو، المرجع نفسه، صفحة 9 [3]

 جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام، من سلسلة عالم المعرفة، صفحة 363 [4]

 لوتسو، المرجع نفسه، صفحة 12[5]

 لوتسو، المرجع نفسه، صفحة 21[6]

 لوتسو، الطريق إلى الفضيلة، ترجمة علاء الديب، من الهيئة المصريَّة للكتاب 1998، صفحة 10[7]

 لوتسو، المرجع نفسه، ص 26[8]

 أفلوطين، التاسوعات، ترجمة الدكتور فريد جبر، مراجعة جيرار جهامي وسميح دغيم، من مكتبة لبنان، ص 282 [9]

 أفلوطين، التاسوعات، ترجمة الدكتور فريد جبر، مراجعة جيرار جهامي وسميح دغيم، من مكتبة لبنان ناشرون، ص 59 [10]
_________
*إبراهيم ماين: طالب باحث في شعبة الفلسفة بسلك الإجازة في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب ، حاصل على شهادة الدراسات العامة في شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب و العلوم الإنسانية في جامعة ابن زهر أكادير .

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات