المقالاتمنوعات

الشخصيَّة التجنُّبيَّة (اضطراب نفسي يتَّسم بالخوف والحذر الشديد)

” عندما تدرك إمكاناتك الذاتيَّة وتثق بقدراتك على استخدامها، يمكنك أن تبني عالماً أفضل .

” قال أحد الحكماء: نصف الثقة بالنفس عدم المقارنة مع الآخرين، ونصف الراحة عدم التدخُّل في شؤونهم، ونصف الحكمة الصَّمت .

تمهيد:

إذا نظرنا إلى الناس في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، وتصرفاتهم، وانفعالاتهم، وطرق تفكيرهم، رأينا ان كل شخص يختلف عن غيره من جهة ويشترك معه في عدد من النواحي، لذلك نستطيع القول بأن كل إنسان يشبه كل الناس من جهة ويشبه بعض الناس من جهة أخرى، وهو متميز من جهة ثالثة حيث إنه ينتمي إلى نوع الانسان ويحمل خصائصه الإنسانية العامة ويشبه عدداً من الناس في بعض تصرفاتهم ومظاهر سلوكهم ولكن يبقى متميزاً من حيث هو شخص. ثم أننا نرى الفرد في تفاعل مستمر مع الشروط والظروف التي تحيط به فهو يأخذ منها ويتحمل آثارها من جهة وهو يحدث فيها نوعاً من الفعل من جهة. إنه كثيراً ما يواجه ظروفه بنجاح ويتكيف معها تكيفاً مناسباً وكثيراً ما يفشل في مواجهتها بما يلزم وقد يطول فشله وقد يصبح تكيفه معها غير مناسب وغير مرضي.

وهذا يعني أن جميع البشر يتمتعون بشخصيات فريدة تتألف كل منها من مجموعة معقدة ومختلفة من السمات. وتؤثر السمات الشخصية في كيفية إدراك الأشخاص العالم المحيط بهم وطريقة التفاعل معه، وكذلك كيف يرون أنفسهم.

وفي الوضع المثالي، تساعد سمات الأفراد الشخصية على تمكينهم من التأقلم بمرونة مع بيئتهم المتغيرة بطرق تؤدي إلى تكوين علاقات صحية أكثر مع الآخرين وتحسين استراتيجيات التكيف. وحين تكون لدى الشخص سمات شخصية أقل قدرة على التأقلم، يؤدي ذلك إلى انعدام المرونة وعدم القدرة على التكيف كما ينبغي. على سبيل المثال، قد يتغلب على التوتر من خلال ممارسة التدخين أو إدمان الكحول أو إساءة استخدام بعض الأدوية والعقاقير، ويواجه صعوبة بالغة في التحكم في غضبه، ويصعب عليه الوثوق بالآخرين والتواصل معهم.

تتشكل الشخصية في مقتبل العمر، وتكون مزيجاً من الجينات الوراثية حيث تنتقل بعض السمات الشخصية من الوالدين للفرد. ويطلق على هذه السمات أحياناً اسم الحالة المزاجية. بالإضافة إلى البيئة الاجتماعية تشمل الأجواء المحيطة بك، والأحداث التي تعرضت لها وجرت حولك، والعلاقات مع أفراد العائلة وغيرهم وأنماط التفاعل معهم.

وهذا يعني أن الشخصية الإنسانية منفردة في نوعها وتختلف من شخص لآخر ابتداءً من بصمات الأصابع التي جعلها الله تعالى مختلفة عند كل البشر، وتتباين طبائع البشر لأسباب بيولوجية وتكوينات داخلية أو بسبب تأثيرات البيئة واختلافها وبناءً على هذا الاختلاف تتعدد شخصيات الأفراد.

تُعرّف الشخصية بأنها: مفهوم شامل للذات الإنسانية ظاهراً وباطناً بكافة ميوله وتصوراته وأفكاره، واعتقاداته وقناعته وصفاته الحركية والذوقية والنفسية. بمعنى هي جملة من الصفات الجسدية والنفسية (موروثة أو مكتسبة) والعادات والتقاليد والقيم والعواطف، متفاعلة كما يراها الآخرون من خلال التعامل في الحياة الاجتماعية.

والشخصية السوية ليست كاملة الأوصاف وسوية تماماً ولكنها الأقل تأثراً بالأمراض النفسية والتي تميل إلى السوية في الحياة العامة ومنصاعة على نحو شبه كلي للقيم العامة للمجتمع، وهي غير محصنة ضد الأمراض النفسية كامل محطاتها العمرية. لأن منظومة الإنسان ذو حساسية عالية للمؤثرات الخارجية المحرضة للرواسب الكامنة في الذات الإنسانية، وما يؤثر سلباً أو إيجاباً في التحول من نمط معين إلى آخر يطبع الشخصية ويغير سلوكها العامة وهذه حقيقة نفسية علمية ثابتة. وهي أيضاً ” مجموعة من الصفات الجسدية والنفسية (موروثة ومكتسبة) والعادات والتقاليد والقيم والعواطف، متفاعلة كما يراها الآخرون من خلال التعامل في الحياة    الاجتماعية “.

إذن، الشخصية هي الطريقة التي يفكر ويشعر ويتصرف بها المرء. إنها تمثلنا وتمثل مشاعرنا تجاه أنفسنا. بالنسبة للبعض يبقى هذا ثابتاً إلى حد كبير في مختلف الأوضاع والأوقات، لكن قد يتعرض البعض الآخر إلى مصاعب في الطريقة التي يفكرون بها ويشعرون بها تجاه أنفسهم والآخرين. 

ولكل فرد شخصيته الخاصة وتتطور الشخصيات مع التجارب الحياتية المختلفة التي يمر بها الفرد. ويتحلى معظم الناس بالمرونة الكافية للتعلم من التجارب السابقة وتغيير سلوكهم عند الحاجة. ويجد من يعاني من اضطراب في الشخصية صعوبة أكبر في السيطرة على تصرفاته، ويمر بأفكار ومشاعر جياشة إلى درجة يجد معها صعوبة في التكيف مع الحياة اليومية فيتصرف بطرق لا يستطيع السيطرة عليها، ويجد مشقة في التعامل مع الأوضاع والناس. ونتيجة لهذه التحديات فإنه غالباً ما يعاني من مشاكل ومعوقات كبيرة في علاقاته ولقاءاته الاجتماعية وفي العمل والمدرسة.

وقد يخلط الناس أحياناً بين اضطرابات الشخصية والاضطراب ثنائي القطب (الاكتئاب الهوسي). إن اضطراب الشخصية ينطوي على نمط متواصل وطويل الأمد من التقلبات المزاجية المباغتة واللحظية، بينما ينطوي الاضطراب ثنائي القطب على نوبات هوس واكتئاب متميزة. أي إن اضطرابات الشخصية هي مشاكل في الصحة العقلية تجعل شخصيتك وتصرفاتك تسبب لك أو للآخرين معاناة نفسية، وهناك أنواع عديدة ومختلفة من اضطرابات الشخصية والأسباب المحتملة لها، وتتنوع عالماتها وأعراضها.

– مفهوم اضطراب الشخصية: هي نماذج سلوكية مستمرة وعميقة ومتأصلة تظهر على شكل ردود واستجابات غير مرنة في مدي واسع وعريض من المواقف الاجتماعية والشخصية، وتتضح من خلال الانحراف الواضح عما هو سائد في ثقافة الفرد فيما يتعلق بالإدراك، والتفكير، والإحساس وكيفية الارتباط بالآخرين.

يتميز اضطراب شخصية بأحاسيس مستمرة وواسعة المدي بالتوتر والتوجس، واعتياد الوعى الشديد بالذات، وأحاسيس بعدم الأمان والدونية، والسعي الدائم لحب وقبول الآخرين، وحساسية مفرطة نحو الرفض والنقد، ورفض الدخول في أي علاقات، إلا بعد الحصول على ضمانات شديدة بالقبول غير المشروط بنقد، وارتباطات شخصية محدودة جداً واستعداد دائم للمبالغة في الأخطار أو المخاطر المحتملة في المواقف اليومية، إلى حد تجنب بعض النشاطات المعنية، ولكن ليس الي حد التجنب الموجود في الرهاب، وأسلوب حياة محدود بسبب الحاجة الدائمة إلى التأكد من الأشياء والشعور بالأمان.

بمعنى آخر يمكننا اعتبار اضطراب الشخصية هو حالة من حالات الصحة العقلية يتسم فيها الشخص بنمط ثابت مدى الحياة لطريقة رؤيته لنفسه وتفاعله مع الآخرين على نحو يؤدي به إلى مواجهة المشكلات. ويواجه الأشخاص المصابون باضطرابات الشخصية غالباً صعوبة في فهم المشاعر والتعامل مع التوتر. ويتصرفون باندفاع ورعونة. ويُصعب ذلك عليهم التعامل مع الآخرين، ويؤدي إلى حدوث مشكلات جسيمة، ويؤثر في حياتهم العائلية وأنشطتهم الاجتماعية وأدائهم في العمل والمدرسة وجودة الحياة عموماً.

أي يشعر العديد من الناس بعدم الأمان والاستقرار، ويظهرون نوعاً من الخجل وقلة التفاعل الاجتماعي، ويعتبر ذلك أمراً طبيعياً، إلا أنه عندما تكون هذه المشاعر مكثفة وتقود إلى تجنب التفاعل الاجتماعي وتؤثر بشكل سلبي على الحياة اليومية للشخص، فإنها تدل على وجود اضطراب بالشخصية يسمى ” الشخصية التجنبية ” وهو بأبسط تعبير” عبارة عن فرط الحساسية تجاه النقد أو الرفض، والمعاناة من الحياء الشديد “. وتتحد المعايير التشخيصية العامة باضطرابات الشخصية من خلال ما يلي:

1. نمط دائم من الخبرة الداخلية والسلوك يحيد (يشذ) بدرجة كبيرة عن المعايير الاجتماعية والسلوك في ثقافة الفرد. ويتمثل هذا النمط في مجالين أو أكثر مما يلي:

– المعرفة: وتتعلق بطريق إدراك وفهم الذات وفهم الآخرين والأحداث.

– الوجدان: يسود الوجدان انفعالات شديدة والتأرجح وعدم التناسب مع الموقف.

– العلاقات الاجتماعية: تحديد طبيعة العلاقات بين الأفراد (علاقات سيئة ومضطربة مع الآخرين كالأسرة أو الأصدقاء أو الزملاء).

– فقدان السيطرة: عدم التحكم في السلوك المندفع.

2. نمط دائم من التصلب يشمل جميع المواقف الشخصية والاجتماعية يؤدى إلى الشعور بالكدر أو الكرب الشعور بالضغط النفسي واختلال في الأداء الاجتماعي أو المهني.

3. نمط ثبات عبر مدى واسع من المواقف الشخصية والاجتماعية. ويمكن تعقب بداية الاضطراب من الماضي بدايةً من مرحلة المراهقة.

4.  نمط من الكرب أو عجز في المجالات الحياتية الهامة مثل الجوانب الاجتماعية والمهنية… إلخ.

5. نمط يظهر بداية من المراهقة وبداية سن الرشد.

6. نمط لا تتداخل ولا تنطبق أعراضه على الاضطرابات النفسية الأخرى.

7. نمط من الأعراض لا يعزى لأسباب فسيولوجية مثل: (تعاطي المخدرات أو العقاقير الطبية أو إصابة الدماغ).

أما فيما يتعلق الأسباب العامة لاضطرابات الشخصية نجد أنها ترتبط اضطرابات الشخصية بمجموعة من العوامل المتعددة والمتفاعلة، حيث إن أسباب اضطرابات الشخصية يمكن إرجاعها في مجملها إلى انحراف عملية النمو النفسي للإنسان فأغلب هذه الاضطرابات يمكن اعتبارها مظهراً لإعاقة النضج كما يمكن تصنيف هذه الأسباب إلى ثلاثة عوامل هي:

– الوراثة: فقد لوحظ تواتر اضطرابات الشخصية بين العائلات الواحدة. بمعنى أنه قد ينتقل اضطراب الشخصية التجنبية في بعض العائلات عبر الجينات الوراثية، فنجده أكثر تكراراً بين أفراد الأسرة الواحدة.

– الظروف الاجتماعية وأسلوب التربية: تحفز الظروف التي يعيشها الفرد في طفولته بشكل كبير هذا الاضطراب، مثل تجاهل مشاعر الطفل العاطفية، أو توجيه اللوم بشكل مستمر للطفل، أو التدخل المبالغ فيه بحياة الطفل بحجة الخوف عليه، أو الرفض من الأبوين أو الأقران، كل ذلك يؤثر على تقدير المرء لذاته وإحساسه بقيمته. فقد لوحظ أن الإفراط في التدليل خاصة، وكذلك الإفتقار إلى القيم الخلقية التي تحكم العائلة والتذبذب بين القسوة والتدليل وعدم وجود القدوة الحسنة كل هذه العوامل تؤثر في مسيرة النمو وبالتالي تنتج عنها اضطرابات الشخصية.

– الأسباب العضوية: حيث تبين لبعض الباحثين أن عدم نضج السلوك يساير عدم نضج المخ ويظهر ذلك في رسم المخ الكهربائي وذلك في أنواع معينة من اضطرابات الشخصية كاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع.

يعتبر اضطراب الشخصية التجنبية من الأمراض النفسية التي يتعرض الشخص المصاب بها لبعض المضاعفات النفسية، ومن أبرزها ضعف احترام الذات، وعدم القدرة على تقبل الرفض من قبل الآخرين، وتجنب التعامل مع الآخرين أو الخضوع لمواقف اجتماعية.

بمعنى أوسع ينظر إلى اضطراب الشخصية التجنبية أو اضطراب الشخصية التجنبية   Avoidant Personality Disorder   باعتباره اضطراباً نفسياً يتسم بالخجل الشديد، وتجنب التفاعل الاجتماعي، وصعوبة تكوين العلاقات والحفاظ عليها جراء الخوف المسبق من التعرض للرفض وشعور الشخص بالدونية وعدم الكفاءة. حيث يعاني المصاب باضطراب الشخصية التجنبية من حساسية شديدة للنقد والخوف من عدم ترحيب الآخرين به مما يؤثر سلباً على حياته العملية والاجتماعية، فقد يصل الأمر إلى تجنب حضور مقابلات التوظيف والاجتماعات، وغير ذلك.

وترى منظمة الصحة العالمية بأن هذا الاضطراب يتميز بأحاسيس بالتوجس والتوتر المستمرة والمنتشرة، بالإضافة إلى اعتقاد المريض بأنه في غير موضعه الاجتماعي المناسب، وأنه غير مقبول اجتماعياً وشخصياً، أو أنه أقل من الآخرين، انشغال شديد بكونه موضع نقد أو رفض في المواقف الاجتماعية، عدم الرغبة في مشاركة الآخرين إلا عند التأكد من كونه محبوباً. وقيود تقيد أنماط حياته بسبب الحاجة إلى الشعور بالأمان الذاتي، تجنب الأنشطة الاجتماعية والوظيفية التي تتطلب علاقات شخصية أساسية بسبب الخوف من النقد، أو الاعتراض، أو الرفض. كما يعرفه الدليل التشخيصي الخامسبأنه ” يتسم أصحابها بعدم الاعتناء بالعلاقات الاجتماعية، ويشعر بقلة الحيلة ويحكم سلبياً على نفسه والحساسية الاجتماعية، وتبدأ في مرحلة الرشد المبكر، ومن السمات التحليلية للشخصية التجنبية تتسم بأنها نمط من الانزعاج الاجتماعي والجبن والخوف من التقييم السلبي الذي يسود حياة المصابين به بمعنى آخر هذا الاضطراب هو أنموذج من التثبيط الاجتماعي، ومشاعر القصور وعدم الكفاية، وفرط الحساسية نحو التقييم السلبي، ويبدأ هذا الاضطراب في فترة البلوغ ويتظاهر في سياق العديد من التصرفات، ويستدل عليه بتوفر أربعة على الأقل مما يلي:   – يتأذى صاحب هذه الشخصية بسهولة من انتقاد الآخرين له أو عدم استحسان تصرفاته.

– ليس لديه أصدقاء مؤتمنون أو مقربون (ربما) صديق واحد من غير أقارب الدرجة الأولى، فهو يبدي تحفظاً ضمن العلاقات الودية بسبب الخوف من أن يكون موضع استهزاء وخجل.

– لا يرغب بإقامة علاقات مع الآخرين ما لم يكن متأكداً من أنه سيكون محبوباً.

– يتجنب النشاطات الاجتماعية أو المهنية التي تتطلب احتكاكاً مهماً مع الآخرين، فعلى سبيل المثال يرفض الترقية التي تزيد من واجباته الاجتماعية.

– يتصف بكونه كتوماً لخوفه من التفوه بأشياء غير ملائمة أو تتسم بالحماقة أو لخوفه من العجز عن الإجابة على أي سؤال يوجه إليه، فهو مثبطاً في المواقف البينشخصية الجديدة.

– يخاف من الارتباك في مواجهة الآخرين، هذا الارتباك يتظاهر بالبكاء والخجل وظهور علامات القلق، فهو ينظر إلى ذاته على أنه غير كف، ولا يسترعي الانتباه أو ناقص في أعين الآخرين.

– يبالغ في الصعوبات والمخاطر الجسدية والمتاعب التي قد يلاقيها حين تأدية عمل عادي خارج نطاق الأعمال الروتينية المعتادة، وكمثال على ذلك أن يلغي خططاً اجتماعية لأنه يتوقع أن يصاب بالإعياء إذا بذل الجهد لتأديتها.

تنتشر هذه الشخصية بشكل واضح في وقتنا المعاصر، ومن المظاهر المرافقة لها ما يلي:

– من الشائع أن يعاني صاحب هذه الشخصية من الاكتئاب والقلق والغضب من نفسه لإخفاقه في إقامة علاقات اجتماعية وقد يترافق الاضطراب مع رهابات محددة.

– يتوق صاحب هذه الشخصية على الرغم من عزلته الاجتماعية إلى نيل محبة الآخرين وقبولهم له خلافاً للمصاب باضطراب الشخصية الفصامانية الذي يتصف بالعزلة الاجتماعية، ولكن ليس لديه الرغبة في إقامة علاقات اجتماعية.

وعلى العموم تتصف اضطراب الشخصية الاجتنابية بوجود خلل وظيفي ذي نمط منتظم يشمل التفكير أو السلوك القلق، يتمظهر الحساسية البالغة تجاه الانتقاد أو الرفض، والشعور بعدم الكفاءة، أو دنو الرتبة أو عدم الجاذبية. واجتناب أنشطة العمل التي تتطلب التواصل مع الآخرين. والعزلة الاجتماعية. واجتناب تجربة الأنشطة الجديدة وعدم الإقبال على التعرف على أشخاص جدد. والخجل المفرط في المناسبات الاجتماعية والتعامل مع الآخرين. والخوف من التعرض إلى الرفض أو الحرج أو السخرية. وأخيراً تدني الذات.

يعد تدني الذات استعداد لا شعوري مكبوت بداخل الفرد نشأ عن التعرض لخبرات ومواقف باءت بالفشل والعجز، مما ينتج عنه تقديراً منخفضاً للذات، وشعور بالنقص. ويُعرف أيضاً بأنه أحد الحالات التي تنتج عن الاضطرابات النفسية أو العضوية التي تتسبب في ظهور اضطرابات اللا سوية تجاه الآخرين وتجاه الذات كعدم الثقة بالنفس، والخجل والانسحاب الاجتماعي، وعدم القدرة على إدارة الأمور واتخاذ القرارات بأنه الافتقار للقيمة الذاتية باختصار شديد هو الافتقار للقيمة الذاتية وعدم الاقتناع واليقين بالذات، التي تنشأ من خلال اللاوعي، والتي تدفع لصاحبها للخوف نظرة الآخرين له على أنه غير ذي مكانه أو حيثيه، مما يجبره عن العزلة والابتعاد عن الآخرين.

ويشير الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية إن الميزة الأساسية لاضطراب الشخصية التجنبية نمط من الكف الاجتماعي ومشاعر النقص وفرط الحساسية للتقييم السلبي، والأفراد ذوي اضطراب الشخصية التجنبية، بذلك تنحصر المظاهر التشخيصية لاضطراب الشخصية التجنبية ما يلي: 

1) يتجنبون الأنشطة التي تتضمن التفاعل البين شخصي بسبب خوفهم من النقد، وعدم التقبل، والرفض من الآخرين.

2) يحجمون عن عروض التميز والترقيات بسبب المسؤوليات الجديدة التي قد ينتج عنها انتقادات من زملاء العمل.

3) يتجنبون عقد صداقات جديدة ما لم يكونوا متأكدين من أنهم سوف يتلقون الحب دون نقد.

4) الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب لا يشاركون في الأنشطة الجامعة ما لم تكن هناك عروض سخية متكررة للدعم والحنو، بالإضافة إلى أن إقامة علاقات حميمية مع الآخرين في كثير من الأحيان تكون صعبة، على الرغم من قدرتهم على تكوين علاقات حميمية خاصة ورغبتهم في ذلك، عندما يكون هناك ضمان للقبول دون تمحيص.

5) قد يتصرف دوي اضطراب الشخصية التجنبية بحذر وحيطة، ويجدون صعوبة في الحديث مع أنفسهم، ويحجبون المشاعر الحميمية خوفاً من التعرض للسخرية أو الخزي والفضيحة.

6) ولأن هؤلاء الأشخاص منشغلين بما قد يتعرضون له من نقد أو رفض في المواقف الاجتماعية، قد تكون لديهم عتبة منخفضة بشكل ملحوظ للكشف عن ردود أفعالهم في مثل هذه المواقف، فإذا ما أنتقده شخص ما أو شعر بعدم الاستحسان حتى لو بسيط وبطريقة لطيفة، فإنه قد يشعر بضرر وألم بالغ، ونتيجة لذلك يشعر بالخجل، والكف، والرفض. فهم يتوقعون أن لا أحد يهتم بقولهم، وأن ما يقولونه يراه الآخرين خاطئ، ولذلك نجدهم يصمتون ولا يتكلمون، وحساسين جداً للمنبهات التي قد توحي بالسخرية أو بالاستهزاء لهم.

7) ورغم تجنبهم للمشاركة في الحياة الاجتماعية إلا أنهم يرون أن سعادتهم ورفاهيتهم ودعمهم في أيدي الآخرين.

8) وذوي اضطراب الشخصية التجنبية يخافون من المواقف البين شخصية الجديدة بسبب شعورهم بالنقص والعجز ولديهم تقدير لذواتهم منخفض.

9) كذلك لديهم شكوك بشأن الكفاءة الاجتماعية والجاذبية الشخصية وأنهم أقل شأناً من الآخرين وشعورهم بالقصور الشخصي وخاصة في المواقف الاجتماعية التي تتضمن التفاعل مع الغرباء.

ومن أهم النظريات المفسرة لاضطراب الشخصية التجنبية: نظرية كارين هورنيKarin Horny))  تعتبر أحد نظريات المدرسة التحليلية، والتي مفادها أن العوامل البيئية والاجتماعية هي العوامل الأكثر تأثيراً في تكوين وتشكيل الشخصية، كما تركز النظرية على اهمية العلاقات الإنسانية منذ مرحلة الطفولة، إذ أن عوامل الأمن والأمان والحماية الوالدية الغير مستقرة هي ما تسبب في حدوث اضطراب الشخصية نتيجة للصراع الداخلي، وقد اقترحت النظرية ثلاثة أساليب يتبناها الأفراد لإيجاد الأمان كما يلي:

– النزعة ضد الآخرين وتتمثل في العدوانية والمزاج المتقلب وعدم الاستقرار.

– النزعة نحو الآخرين: وتتمثل في نمط الصداقة والود.

– النزعة المتباعدة عن الآخرين وتتمثل بالعزلة والشعور بالاغتراب والقلق وفقدان الحس العاطفي.

أما فيما بنظرية بيك (Beak)  تنتمي هذه النظرية إلى النظريات المعرفية لاضطرابات الشخصية، والتي تؤكد على دور المخططات وهي تراكيب معرفية أو إدراكية تحتوي على معتقدات الفرد واتجاهاته، ويري بيك أن الأفراد الذين يعانون من الاضطرابات النفسية هم الذين تتواجد لديهم مخططات لا تكيفية ومعتقدات مختلة وظيفياً، وفي حال تنشيط هذه المخططات فإنها تمنع تنشيط المخططات المناسبة وتجعل تفسيرات الفرد للمواقف متحيزة، وترجع النظرية المخططات اللا تكيفية لدى أصحاب السلوك التجنبي إلى تفاعلات الطفولة المتشددة وكثيرة النقد والرفض، مما يدفع الفرد لإدراك ذاته كذات غير ماهرة وغير مرغوبة اجتماعياً، ومعرضة دائماً للنقد.

وأخيراً نظرية يونغ (Young) النظرية السلوكية المعرفية، والتي مفادها أن البيئة هي القوة الدافعة للسلوكيات اللا تكيفية التي تتم ملاحظتها في اضطراب الشخصية التجنبية، وهي ما يترك تأثيراً في عملية إدراك الفرد، كما تفترض النظرية أن عدم تلبية الحاجات الأساسية للأبناء هي ما يعمل على تشوه التفكير تجاه الذات وبالتالي العلاقات مع الآخرين.

– علاج اضطرب الشخصية التجنبية: في حقيقة الأمر، يتوقف نوع العلاج على نوع اضطراب الشخصية عموماً، حيث يرتبط العديد من اضطرابات الشخصية بمشاكل أخرى في الصحة العقلية، بالرغم من أن الاضطرابات تكون عادة مزمنة ومتواصلة لمدة أطول. فعلى سبيل المثال، يرتبط اضطراب الشخصية الوسواس القهري بالاضطراب الهوس القهري واضطراب الشخصية الفصامي بالفصام، أما اضطراب الشخصية الحدي فتستخدم له العلاجات بالتحدث كوسيلة علاجية رئيسية، ويمكن استخدام الأدوية لعلاج نواحٍ من هذا الاضطراب. وفي حالة اضطراب الشخصية التجنبية يرتبطبالرهاب الاجتماعي فلا بد أن يعتبر المريض الرعاية الذاتية ضرورة، بالإضافة إلى الابتعاد عن إدمان المواد المخدرة، أو الإفراط في تناول الطعام، فضلاً عن الابتعاد عن محاولات إيذاء الذات، كما ينبغي تقديم الدعن له وتشجيعه على العلاج.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ” كيف يجب التعامل مع الشخصية التجنبية؟ ” فقد يتساءل البعض حول طرق التعامل مع اضطراب الشخصية التجنبية، فأولى الخطوات هي أن يعرف الشخص أن لديه مشكلة تستلزم الحل، ثم فهم هذه السلوكيات، وأسباب اللجوء إليها، إذاً عليه إتباع ما يلي:

– التعرف على علامات اضطراب الشخصية التجنبية.

– إدراك أسباب اتباع هذا السلوك.

– البحث عن أخصائي نفسي للمساعدة.

– مشاركة الأصدقاء والعائلة في نمط العلاج.

ويرى بعض الأخصائيين النفسيين أن هناك صعوبات في علاج هذا الاضطراب، لأن الشخص المصاب به لديه جذور عميقة في الفكر والسلوك تكونت على مر السنين. وعلى الرغم من ذلك، فإن العلاج النفسي يمكن أن يساعد على التحدث بحرية عن كيفية رؤية الشخص لنفسه والوصول إلى حل، فضلاً عن العلاج السلوكي المعرفي الذي يساعد الشخص على محاربة تلك الأفكار والمشاعر السلبية. قد يصف الطبيب أيضاً بعض أدوية علاج الاكتئاب والقلق والتوتر للسيطرة على الأعراض قدر الإمكان. بمعنى أدق تشمل العلاجات الفعالة للمرضى الذين يعانون من اضطراب الشخصية التجنبية ما يلي:

– العلاج السلوكي المعرفي الذي يركز على اكتساب المهارات الاجتماعية والدعم النفسي والتحفيزي.

– علاجات جماعية أخرى إذا كانت المجموعة تتكون من أشخاص يعانون من نفس الصعوبات.

– يستفيد المرضى الذين يعانون من اضطراب الشخصية التجنبية من العلاجات الفردية الداعمة لفرط حساسية المريض تجاه الآخرين.

– العلاج النفسي الديناميكي الذي يركز على التدريب على مهارات التواصل الأساسية.

– لم يتم الاختبار أو الموافقة على أي أدوية لاستخدامها في علاج اضطراب الشخصية التجنبية.

خلاصة القول يجب على أفراد المجتمع العناية بصحتهم النفسية التي تعبر عن حالة من الرفاه النفسي تمكّن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة، وتحقيق إمكاناته، والتعلم والعمل بشكل جيد، والمساهمة في مجتمعه المحلي. وهي جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاه الذين يدعمان قدراتنا الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وإقامة العلاقات وتشكيل العالم الذي نعيش فيه.والصحة النفسية هي حق أساسي من حقوق الإنسان. وهي حاسمة الأهمية للتنمية الشخصية والمجتمعية والاجتماعية الاقتصادية. ومن التعريفات المهمة ” الصحة النفسية هي القدرة على الحب والعمل والحب ” هنا المقصود حب الفرد لنفسه، لكن بعيد عن الأنانية المفرطة والنرجسية، والحب هو حب الآخرين أي الأثرة والإيثار، فيكون المرض النفسي هو كراهية الذات أو الآخرين أو كليهما معاً أو طغيان أحداهما على الأخرى ومن الجدير قوله هذا أن التوافق الاجتماعي (التكيف الاجتماعي) والتكيف الشخصي أي قبول الإنسان لذاته هي من المؤشرات الواقعية للصحة النفسية.

كما أن الصحة النفسية لا تقتصر على غياب الاضطرابات النفسية. فهي جزء من سلسلة متصلة معقدة، تختلف من شخص إلى آخر، وتتسم بدرجات متفاوتة من الصعوبة والضيق، وبحصائل اجتماعية وسريرية يُحتمل أن تكون مختلفة للغاية. وتشمل اعتلالات الصحة النفسية الاضطرابات النفسية وحالات الإعاقة النفسية الاجتماعية، فضلاً عن الحالات النفسية الأخرى المرتبطة بالضيق الشديد أو ضعف الأداء أو خطر إيذاء النفس. ومن المرجح أن يعاني الأشخاص المصابون باعتلالات الصحة النفسية من تدني مستويات الراحة النفسية، ولكن لا يحدث هذا دائماً أو بالضرورة.

ترمي التدخلات في مجال تعزيز الصحة النفسية والوقاية من الاضطرابات النفسية إلى تحديد المحددات الفردية والاجتماعية والهيكلية للصحة النفسية، ثم التدخل من أجل الحد من المخاطر وبناء القدرة على الصمود وتهيئة بيئات داعمة للصحة النفسية. ويمكن تصميم التدخلات خصيصاً للأفراد أو فئات محددة أو للفئات السكانية بأسرها.

إن إعادة تشكيل محددات الصحة النفسية غالباً ما تتطلب اتخاذ إجراءات تتجاوز نطاق قطاع الصحة، ومن ثم فإنه ينبغي أن تشمل برامج تعزيز الصحة النفسية والوقاية من الاضطرابات النفسية قطاعات التعليم والعمل والعدالة والنقل والبيئة والإسكان والرعاية الاجتماعية. ويمكن لقطاع الصحة أن يسهم إسهاماً كبيراً بدمج جهود التعزيز والوقاية في الخدمات الصحية، والدعوة إلى التعاون والتنسيق بهدف تمتع أفراد المجتمع بجميع مظاهر الصحة النفسية. مما يدل على وجود ارتباط قوي بين الصحة النفسية وسمات الشخصية مثل الرضا عن الحياة واكتشاف المعنى منها، والقدرة على مواجهة المصاعب والتغلب عليها، والثقة بالنفس والكفاءة وتلعب هذه السمات دوراً جوهرياً في حياة الفرد والمجتمع.

_______

– المراجع المعتمدة:

1- دون لوري: تحليل الشخصية، ترجمة: حسين حمزة، كنوز المعرفة، عمان، ط1، 2014

2- سوسن شاكر مجيد: اضطرابات الشخصية (أنماطها- قياسها)، دار صفاء، عمان، ط2، 2015.

3- محمد شحاته ربيع: علم نفس الشخصية، دار المسيرة، عمان، ط1، 2013.

4- هنية منير عبد الله إبراهيم: الخصائص السيكومترية لمقياس اضطراب الشخصية التجنبية لدى طلاب الجامعة، مجلة العلوم التربوية، كلية التربية بالغردقة، جامعة جنوب الوادي، المجلد: 04، العدد: 02، أبريل 2021.

5- أسماء محمد مصطفى دفع الله: الصحة النفسية وعلاقتها بالسمات الشخصية لدى طلاب وطالبات الجامعات الحكومية بولاية الخرطوم (السودان)، المجلة الأكاديمية للأبحاث والنشر العلمي، العدد: 21، 2021.

6- أنور الحمادي: الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات العقلية (DSM-2)، إعداد وترجمة: أنور الحمادي، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، بيروت، 2014.

7- حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الرابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023.

8- أسيمة معن ظافر: دور المخطوطات الاستعرافية غير التكيفية المبكرة كوسيط في اضطرابات الشخصية وسمات الشخصية السوية لدى العاملين في المؤسسات التعليمية في مدينة دمشق، رسالة دكتوراه غير منشورة، قسم الإرشاد النفسي، كلية التربية، جامعة دمشق، 2015،

9- نادية محمد العمري: الخرس الزواجي وعلاقته باضطراب الشخصية التجنبية وتدني الذات لدى الأزواج السعوديين، مجلة الفتح، المجلد: 28، العدد: 02، حزيران 2024.

10- منظمة الصحة العالمية: الصحة النفسية: تعزيز استجابتنا، 17 حزيران/ يونيو 2022. تاريخ الدخول إلى الموقع 11/08/2024 https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/mental-health-strengthening-our-response

_______
*د. حسام الدين فياض/الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

*المصدر: التنويري.

Show More

Related Articles

التعليقات