الشخصانيَّة الإسلاميَّة عند محمد عزيز الحبابي
لقد مارست الشخصانيَّة الأوروبيَّة تأثيرًا بالغًا على الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، بل كانت النموذج الفكري الوحيد الذي ألهمه وفتق عنده قريحة التفكير والتنظير، واقتفى خطواتها، بداية من خطوتها الأولى التي اكتست طابعًا مثاليًّا مع رونوفي، مرورا بمونيي الذي أرسى مبادئها وقعَّد أصولها، وصولا إلى الشخصانيَّة التي تلحَّفت بالدين المسيحي مع مونيي نفسه ثم مع برديائف ولاكروا، واهتدى الحبابي إلى هذا الطابع الديني الذي كان يسم التوجُّه الشخصاني، فأراد من جانبه وإقرارًا لهويّته الإسلاميَّة العربيَّة أن يؤسِّس لشخصانيَّة إسلاميَّة، ودأب على إبراز معالم الشخصانيَّة في التراث الإسلامي، سواء ذلك الذي يجسّده القرآن والسنَّة، أو ذلك الذي أبدعه الفلاسفة المسلمون، فما هي الشخصانيَّة الإسلاميَّة؟ وما المنهج الذي وظَّفه الحبابي لاستخراج التراث الشخصاني المتمركز حول الشخص من باطن العقل العربي الإسلامي المتمثِّل في القرآن والسنَّة وبعض الفلاسفة الذين نحتوا اسمهم بأحرف من ذهب في هذا العقل؟
ننطلق من ملاحظة مهمَّة جدا، هي أنَّ كتاب محمد عزيز الحبابي ” الشخصانيَّة الإسلاميَّة ” ينضح بالكثير من الاستشهادات من الكتاب والسنَّة، والتي شكَّلت دعامة لكل رأي وتأسيسًا لكل فكرة، في حين إنَّ أقوال الفلاسفة المسلمين تكاد تغيب في الكتاب، اللهم إذا استثنينا إسهابه في عرض المتن الرشدي[1].
هذه الملاحظة ستفتحنا على أفق جديد، هو الأفق الذي بحث فيه الحبابي عن مفهوم الشخص في التراث الإسلامي، وهو المفهوم الذي دار حوله الجدل بين ممثلي الشخصانيَّة واختلفوا في تعريفه أكثر ما اتفقوا، حتى قال الحبابي إنَّ الشخص لا يعرف[2]، وجل ما يمكن أن نقول عنه إنَّه هو الممكن في توتُّر نحو اللانهاية، أي أنَّه دائم التغيُّر، وتغيُّره هذا ينبع من منبعين أساسيّين: الأوَّل هو الانكماش والانكفاء بالذات لإيقاظ ما يسمِّيه بيرغسون بالأنا العميق، فكما يقول كيركغارد فحصول الوجود لا بدّ أن يكون الموجود فردًا، لكن كونه فردًا لا يجعله شخصًا، فالفرد حسب الفيلسوف الفرنسي غوسدوف يميل إلى الانفصال والتميُّز، بينما الشخص ينزع إلى التضامن والتعاضد، لأنَّه يعلم أنَّ الأنا لا يمكنه أن يتحقَّق إلا مع النحن، وهذا هو جوهر الشخص أساسًا، بل إنَّه جوهر الشخصانيَّة ككل، وسنبحث عنه مع الحبابي.
يجيب الحبابي عن سبب تسميته لشخصانيته بالإسلاميَّة قائلا: ” قد يوجد من يأخذ علينا وصف الشخصانيَّة بالإسلاميَّة، فلنؤكِّد له أنَّ الإسلام في عهده الأول، قد رسم خطوطًا سارت عليها باستمرار حركة للنمو وكانت مصدر تقدُّم معنوي وترقية إنسانيَّة، فمن العبث إذن أن نحصر مقاييس الحكم على المسائل التي ندرسها هنا في معايير القرن 20 وحدها “[3]و يضيف الحبابي: “إنَّ الإسلام الصادق لن يكون إلا شخصانيًّا “[4]. يظهر جليًّا أنَّ نعت الفلسفة الشخصانيَّة بالإسلاميَّة لا تزعج الحبابي، على عكس مثلا بول ريكور الذي كان يمتعض من وصف فلسفته بالمسيحيَّة، وأكَّد في أكثر من موقع أن اعتماده على استشهادات من الإنجيل لم يكن بتاتا بنيَّة توظيفها كحجَّة، فهو لم يسعَ إلى إثبات أي شيء أو نقضه.
فالحبابي إذن استعمل الاستشهاد حجَّة بغية إقرار الشخصانيَّة في التراث الإسلامي، بل وسلك سبلا أخرى من أجل هذا الإقرار، ويتمثَّل أبرزها في إثباته أنَّ تاريخ العرب قبل الإسلام يخلو تماما من مبادئ الشخصانيَّة، إذ يقول: ” كان الشعور بالذات عند العرب في الجاهليَّة مبلبلا بنوع من الأنانة القبليَّة، وبظهور الإسلام، أخذ العرب تدريجيًّا، يعي ذاته كجزء من أمَّة، أي بوصفه جزءًا من مجموع المؤمنين، داخل وحدة معشريَّة منظَّمة تنظيما محكما[5] اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا… يحركه نزوع نحو التعالي بفضل هذه الروابط الاجتماعيَّة الجديدة التي تبني المواطنة على القرابة الروحيَّة، والتي تجعل كل مؤمن مساويا للآخرين (( وأن هذه أمتكم أمة واحدة ))، دخل العربي أوراشا تاريخيَّة جديدة على مستوى العالم، بذهنيَّة وقيم وسلوك لم يكن له سابق معرفة بها، وهكذا تجاوز العربي فرديته وحدود القبيلة والجنس، فبانتسابه للأمَّة، أصبح مسؤولا، هو عينه كفرد، عن جميع أفعاله تجاه الإله الكائن المطلق، وتجاه جميع الكائنات البشريَّة باعتبارهم أنداده وإخوانه، لأنَّهم جميعا مخلوقات الله الكائن – الكل – الواحد ” [6].
إنَّ الأنانة القبليَّة حسب الحبابي تتنافى مع مبادئ الشخص، والشخص لا يكون شخصا إلا إذا انعتق منها، فبها يغرق في الانطواء على الذات، أو الانطواء الجماعي على قبيلة معينة، الأمر الذي يخلق عنده عصبيَّة قبليَّة تقوده إلى إكنان الحقد والكره للجماعات والقبائل الأخرى، وهذا كان سائدا بين عرب الجاهليَّة الذين يفرقون بين عربي وعجمي، والعجمي عندهم يماثل البرابرة عند الإغريق، إذ يجوز استرقاقه واستعباده، وبالنسبة للحبابي تبتدئ الشخصانيَّة حينما يرفض الشخص الطاعة العمياء التي يمليها الاستعباد[7]، فأن تستعبد معناه أن تسلب حريته، والحريَّة إذا سلبت، سلبت الهويَّة الذاتيَّة، وفي الأخير تطمس الهويَّة الاجتماعيَّة، فيذوب الشخص.وغني عن البيان أنَّ الثورة الشخصانيَّة الإسلاميَّة، في فكر الحبابي تتطلَّع إلى محاربة جميع أشكال وأنواع الاسترقاق والاستعباد والاستيلاب والاستغلال، ويظهر ذلك في أنَّ الإسلام لم يكن رجعيًّا في مواقفه عن المرأة، فقد منحها حقّ الفتوى والعمل… إلا إنَّ الحبابي قد تغافل عن بعض مظاهر الاسترقاق في التراث الإسلامي كالسبايا مثلا.
وإذ قلنا سابقا، إنَّ الشخص ينزع إلى التضامن والتعاون، فإنَّ الإسلام قد زرع هذه القيم في قلب كل عربي، فهو الدين الذي يعتبر أنَّ كل كائن إنساني شخص، بقطع النظر عن عرقه ولغته ولونه، إذ لا فرق بين عربي وعجمي، كما أنه لا إكراه في الدين، أي أن لكل شخص حريَّة اختيار معتقده، وينم ذلك عن استقلال ذاتي لا يمكن زحزحة أواصره، وهو الاستقلال الذي أقرت به فرقة المرجئة مع بن صفوان والأشعري، والتي جسَّدت أرقى معالم الاستقلال الذاتي للشخص في الفكر الإسلامي، وذلك لأنَّ هذه الفرقة تنظر إلى مسألة الإيمان من وجهة نظر ذاتيَّة أو بالأحرى باطنيَّة، فالإيمان بالنسبة لهم هو عقد بالقلب فقط، فلا يزول المرء ولو أظهر الكفر والتثليث قولا وفعلا، وبالتالي فالإيمان هو شأن خاصّ بكل شخص، فعندما نقول إنَّ للأشخاص استقلالا ذاتيًّا، نؤكِّد له أنه لا وجود لنموذج إنساني أو لقالب يفرغ فيه جميع الأشخاص ليكونوا على نمط واحد، إذ لكل شخص وجهته وتطلعاته الخاصة، وهي منبع لا ينضب من العفويَّة والمبادهة.
إنَّ الشخصانيَّة الإسلاميَّة هي الاعتدال والوسطيَّة بين متطلّبات الروح ومستلزمات الجسد والمادة، إنها انسجام بين الظاهر والباطن، واتساق بين الأنا العميق والأنا السطحي، فهي لا تتمثل في الزهد والتبتل، ولا في التهتك والمجون، فللجسد فيها مكانة، وللروح فيها منزلة، ويظهر ذلك جليا في بعض العادات والممارسات الدينيَّة، كالوضوء والطهارة مثلا [8]، فهي أفعال تشترك فيها الروح مع الجسد، عن طريق النيَّة ( الروح )، والغسل ( الجسد ). كما أن الشخصانيَّة تتبدَّى في الشهادة، فعندما ينطق الأمر أن ” لا إله إلا الله ” يصبح مسلما، أي أنَّ الشهادة هي مفتاح دخول الإسلام، وبالتالي يشعر أنه قادر على إصدار أحكام وتحمل الشهادة، يعني أن قادر على استخدام عقله، واستثمار حريته، واستقلاله الذاتي، إذن تكمن ميزة الشهادة في أنها تنقلنا من الكائن إلى الشخص،لأنَّها تجعلنا نسبر أبعاد الشخص مثل: العرض والحسب والنسب، وهي ما يشكل شخصيَّة الشخص، إنَّها ما به تبدأ الشخصانيَّة الإسلاميَّة[9].
وقد اعتمد الحبابي على عمليَّة استنباطيَّة من المصادر الإسلاميَّة الخالصة، أي قبل احتكاك الإسلام بالثقافات اليونانيَّة والفارسيَّة والهنديَّة، وقبل تفاعله مع الثقافة الإسرائيليَّة والمسيحيَّة، ممَّا سيجعلنا نبرز العناصر المكونة لشخصانيَّة إسلاميَّة أصيلة. الشيء الذي يبيِّن ضمنيًّا سبب استبعاد الحبابي للفلاسفة المسلمين، وذلك لكون أغلبهم متأثر بالثقافة اليونانيَّة، وهذا ما ينزع الأصالة من نصوصهم. وعجز الحبابي عن بناء موقف فلسفي رصين لأنَّه اكتفى فقط بالاستناد على المأثورات من الأقوال، وذكر آيات قرآنيَّة والاستشهاد بأحاديث نبويَّة.
محمد عزيز الحبابي، الشخصانيَّة الاسلاميَّة، دار المعارف، ط 2، ص 130[1]
محمد عزيز الحبابي، من الكائن إلى الشخص، ص 84[2]
محمد عزيز الحبابي، الشخصانيَّة الاسلاميَّة، ص 129[3]
أنظر أيضا : محمد عزيز الحبابي، من المنغلق إلى المنفتح، ص 69[5]
المرجع نفسه، الشخصانيَّة الاسلاميَّة، ص 9 – ص 17[6]
المرجع نفسه، ص 13 – 14[9]
__________
إبراهيم ماين: طالب باحث في شعبة الفلسفة بسلك الإجازة في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب ، حاصل على شهادة الدراسات العامة في شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب و العلوم الإنسانية في جامعة ابن زهر أكادير .
*المصدر: التنويري.