المقالاتفكر وفلسفة

السيادة عند جان بودان

السيادة

يعتبر جان بودان من المفكرين الرواد في الفكر السياسي الحديث، بفضل موسوعيته التي أجلاها في «نبوغه المثمر ومعرفته الواسعة».[i] ويمكن القول بأنه يمثل أحد الوجوه الفكرية الهامة في التنظير للسيادة، بحيث إنه أطلق الشرارة الأولى خلال العصر الحديث، وذلك عبر توجيهه للنظرية السياسية إلى الشروع في هذا المسار. ويتبدى تأثيره المباشر على مجموعة كبيرة من المنظرين للسيادة، إذ توسلوا ذات المفهوم في نظريتهم السياسية، ومن ضمنهم «جنتيلي Gentili، وغروسيوس Grotius، وسبينوزا Spinoza، وهوبز Hobbes وبيوفاندورف Pufendorf، ولايبنز Leibniz، وروسو Rousseau، وجييرك Gierke، ويلينيك Jellinek، ودوغويت Duguit، وشميت Schmitt، وهيلر Heller، ولاسكي Laski، ومكإلوين McIlwain، وأرنت Arendt».[ii] علاوة على أن بودان شخصية مركزية داخل التاريخ السياسي والقانوني، فهو من المنظرين الأساسيين لمفهوم السيادة، ويمثل مرجعية فكرية مهمة على لاحقيه في هذه القضية.

وتجدر الإشارة أن بودان لم يبتكر مقولة السيادة، بل يرجع إليه الفضل مثلما أقر بذلك، إلى إقدامه على صياغة أول مقاربة «نسقية تهم طبيعة»[iii] لفظ السيادة، والذي كان متسما بنوع من الغموض في أصوله. وتظهر أصالة بودان في سعيه الدءوب إلى إماطة اللثام عن مفهوم السيادة، من خلال عرض مصادره التاريخية والقانونية والسياسية. وقد توصل إلى نتائجه حول السيادة، في مصنف الكتب الست للجمهورية الذي يحتوي بين دفتيه على نظرية عامة في الدولة والقانون، ونشر لأول مرة في 1576 بالفرنسية Les six livres de la république، وصدرت الترجمة اللاتينية التي أنجزها بنفسه De republica libri VI سنة 1586.

لقد شيد بودان تصوراته السياسية، بناء على التفاعل المباشر مع الوقائع السياسية، وبالخصوص أحداث الصراعات الدينية التي اشتملت على مظاهر العنف. واشتهر بودان بمقاربته للسيادة، حيث تأتي في سياق إتاحة كافة العناصر التي من شأنها المساهمة في تقوية السيطرة السياسية، والتوصل على مستوى الممارسة العملية إلى إدارة الدولة على أحسن وجه. ورمى بودان للتفكير في إستراتيجية قد تمكن من محاورة واقع الحرب الأهلية، وتساهم في ابتداع أدوات سياسية، التي تفضي إلى تمتين جذور سلطة سيادة الملك الفرنسي آنذاك، من أجل تجويد النظام وترسيخ الاستقرار.

اعتقد بودان أن ماهية الدولة تقوم في السيادة، وبأن مشروعيتها تتأسس عليها، وبدون وجود السيادة لا يمكن الحديث عن وجود الدولة. إذن، ما هي أصول السيادة عند بودان؟ وكيف تعتمد الدولة على السيادة في تبرير مشروعية وجودها؟

 لاحظ أغلب الدارسين لفكر بودان أنه لا يمكن التغاضي عن الخلفية الجوهرية في مقاربة نظرية السيادة، والتي تكمن في ضرورة استحضار السياق السياسي المباشر لفرنسا، الذي كان مسرحا لفصول دموية وأحداث عنف قاسية، انتهت بمذبحة سان-بارتيليمي سنة 1572. ولا يمكننا إنكار حجم هذا الواقع على ترسخ وعي بودان بمباشرة التأليف في ميدان السياسة وإنتاج نظرية السيادة. كما لا يجدر بنا تجاهل منحى آخر في مسيرة بودان، والمتمثل في عمله الأكاديمي، بحيث كرس عقودا طويلة لدراسة الأسس التاريخية والقانونية الخاصة بالدولة، بغية التأصيل النظري لقواعد السيادة وفق تصور فلسفي جديد.

لا يكمن مسعى بودان فقط في بناء منظور يسمح بإقرار فلسفة النظام، من خلال وضع قواعد تهم احترام الاستقرار، بل لا تتصل إقامة النظام ضرورة بالحاجة إلى توسل مفهوم السيادة. ووفق هذا المقصد، تبرأ بودان من مقاربة السيادة بمقولات تجريبية، من خلال عدم الاتكاء على حقل القوة لتحديد الأصول الرئيسية والدلالة الجوهرية للسيادة. وبدل ذلك رسم لنفسه طريقا آخر، إذ أرجع السيادة إلى معيار الحق، وأضحت السيادة تدل حسب هذا المنظور على النهل من مرجع الحق. وانطلق بودان من ميدان الفقه القانوني بغية التأصيل لمفهوم السيادة، بحيث أسعفه القانون في تناول منطق السيادة، عبر توسل الحق بدلا من القوة.

وإذا أردنا التعرف على المقصد النهائي من مفهوم السيادة عند بودان، أمكننا القول بأنه ماثل في طلب تحقيق الوحدة السياسية داخل الدولة الممزقة بين كيانات متعددة، والتي تنشد إحلال التماسك بين مختلف مكوناتها. وتصير السيادة تبعا لهذا التقدير، بمثابة قطب الرحى الحاسم، والذي يلم شمل أطراف الدولة المتناثرة ضمن وحدة صلبة، والتي تدعى في القاموس الفلسفي بالدولة، ولقبها بودان بلفظ الجمهورية. وبفضل السيادة يتحول المتعدد إلى وحدة.

كما استدل بودان على كون السيادة تقتضي نوعا من الإلزام يلف الرعية. ويشترط وجود صاحب السيادة باعتباره يمثل رأس الدولة، ضرورة خضوع كافة الجماعات وجميع الأفراد إلى سلطته، مما يدل على سمو حكمه عن كافة الفاعلين في المجتمع السياسي. وقد وضح بودان في هذا الإطار بأن السيادة تستوجب الولاء، مما يضمن حقوق وواجبات السيادة المشروعة، بحيث يسمح ذلك بتشييد وحدة الدولة على ركائز راسخة، ويؤدي إلى خلق نوع من الانسجام والتآلف يحيط بمجمل مكوناتها.

سعى بودان في هذا الاستدلال، إلى جعل وحدة الدولة ثابتة، وذلك عبر فرض إلزام جماعي يهم كل أفراد الرعية، من دون استثناء أي فرد من أفرادها. وقد استند في مناقشة حجج الإلزام، والذي يقترن مع مجموعة من الواجبات، والتي من المفترض تقديمها من الرعية إلى السيادة، في ضرورة تعلق الإلزام بسلطة سيادة واحدة تحظى بحق نيل الولاء، نظرا لحيازتها أسباب المشروعية السياسية، والمتمثلة في ضمان الوحدة السياسية للدولة. ومن هذه الزاوية القانونية، والمشتملة على وجوب الالتزام بطاعة السيادة، ندرك بأن بودان قد اعتمد في برهانه عن قضية المشروعية السياسية على إطار خاص، الذي يحتوي مجموعة من الحقوق والواجبات كفيلة للتعبير عن جوهر الدولة، وهي التي تمكن من ارتباط الرعية بسلطة سيادة مشتركة.

وتصور بودان المشروعية السياسية من زاوية السيادة. وتتصل السيادة بمفاهيم عديدة تقع في موقع التفاعل مع الحق، والالتزام والقانون. وسعى إلى تعريف السيادة بحدود الجلالة والحكم الأسمى، والتي لا ينبغي وصلها في هذا المنحى بمعنى القوة وإنما بدلالة الحق.

وتتميز ماهية السيادة بكونها الحكم الأسمى، بحيث تتخذ صورة سامية في إصدار الأوامر. وتمثل الأوامر الجانب الإلزامي لسلطة صاحب السيادة على رعاياه. ولا تنحصر هيئة السيادة في سلطة الأمر العادي، بل تتجلى في «السلطة البشرية في إصدار أوامر عليا».[iv] وتشير السيادة إلى سلطة إعلان الأوامر النهائية والعليا، وهي بهذا المعنى شاملة وعامة. كما أن جل أفعال صاحب السيادة جائزة، ومن ثمة تدخل في نطاق الحقوق السياسية. ولا يخضع حكم صاحب السيادة للقانون، ونظرا لكون أفعاله شرعية ومباحة، فذلك مؤداه أن الأفعال تصير في منزلة الحقوق الشرعية المشكلة للسيادة.

نتساءل في هذا السياق، هل يمكن للسيادة أن تخضع لسلطة ربما تكون فوقها أو تكافئها أو أدنى منها؟ وهل يوجد واجب شرعي يمكن أن يقيد السيادة؟ إن صاحب السيادة حسب بودان، يقيم في هرم الدولة ويمارس المراقبة الشاملة على من يقع تحته، ولا سبيل لتكافؤ سلطة السيادة مع سلطة محكوميه، فبحكم نظام التراتبية، فإن سلطة المحكومين تندرج تحت سلطة السيادة. ولا يخضع صاحب السيادة داخل الفكر السياسي الحديث إلى القانون. ولجأ بودان إلى صياغة مشتقة من القانون الروماني لكي يعرف صاحب السيادة، واعتبره حسب هذا التحديد متحررا من الالتزامات. هل نستطيع القول بأن كل شيء جائز للسيادة بصورة شرعية؟

أقر بودان بأن سلطة السيادة عبارة عن أوامر تجد ترجمتها في القانون. ونشير إلى كون الأوامر تتعلق مباشرة بالشؤون العامة للدولة. وافترض أن الأمر يقترن بالتزام مسبق يخص علاقة السيادة بالرعية. وقبل أن تتمكن السيادة من الشروع في توجيه أوامر خاصة تهم الرعية بشكل مباشر، من الواجب في البداية إدراك مواقع وأدوار السيادة والرعية، وفرز الحقوق والواجبات المرتبطة بكل دور وموقع على حدة. وقد وصف بودان أدوار السيادة والرعية بصفة الالتزام. وتتحمل مقولة الالتزام وجهين مختلفين، فالسيادة تتمتع بحق إملاء الأمر على الرعية، ومن واجب الرعية إكمال علاقتها بالخضوع لأوامر السيادة. ولا شك أن الرعية ملزمة أمام صاحب السيادة، إذ يرتبط ذلك بضرورة تنفيذ واجب الخضوع لأمر السيادة الذي قلنا بأنه يدل على الامتثال للقانون.

اعتقد بودان في فلسفته القانونية، بأن وظيفة القانون حسب منطق الفكر القانوني، تعبير على قواعد إلزامية. وتبدى له أن صاحب السيادة هو المسئول الرئيسي عن إنتاج النسق الإلزامي. وأكد على أهمية تشريع القانون من طرف السيادة، وأقر بكونه يصبح أداة أساسية في يده لتقييد الرعية ويسمح إليه بإملاء طرق تنفيذها لأفعال معينة. وقد أشار بودان في مصنف الجمهورية إلى جوهر السيادة، والذي يتمثل في حيازة حق التشريع، والسهر على إلزام المحكومين بتحقيق فعل محدد عبر صياغته في قضايا صورية تدل على الأمر، بحيث يمكن القول إن «كافة حقوق السيادة الأخرى مردودة ومشتقة من هذا الحق».[v]

إن السلطة التشريعية، لا تقتصر وفقط على سن قوانين جديدة، بل تعنى كذلك بإبطال القانون القديم. وبهذه الكيفية اعتقد بودان بأن التشريع يعبر عن حقوق «سلطة السيادة في سن وإبطال القانون».[vi]

ظن بودان أن السيادة تتميز بسلطتها المطلقة، بحيث تستطيع تخليص الرعية من التقيد بالالتزام، وتتشابه في هذا المستوى مع السلطة الكهنوتية في تخليص المؤمن من الإحساس بالذنب في ارتكاب الخطايا. «ولا يمكن أن تكون سلطة السيادة إلا مطلقة»،[vii] إذ يعد ذلك شرطا ضروريا لتواجدها وتمتعها بكافة الصلاحيات. ونظرا لأهمية السلطة المطلقة في رسم تحديد خاص بالسيادة، فقد قال بودان أن «السيادة هي السلطة المطلقة والدائمة للجمهورية».[viii] واعتبر السلطة المطلقة في الفصل المتعلق بالسيادة أنها «ليست شيئا آخر سوى سلطة إبطال القانون العادي».[ix]

غير أن بودان قال في موضع آخر بحجة مغايرة، حيث تجعل السلطة المطلقة تبدو محدودة من ناحية قدرتها، إذ تصير متناهية بصورة شرعية داخل نطاق قابلية ممارستها. واستدل بودان في هذا الصدد على عدم استطاعة السيادة التأثير أو التصرف بصورة مناقضة للمعايير القانونية، من خلال توسل السلطة المطلقة في مخالفة هذه المعايير، والتي تتصف بصفات مقدسة وثابتة؛ ويتعلق الأمر بالقانون الإلهي، والقانون الطبيعي وقانون الشعوب أو القانون الدولي. ويرى بودان بأن أي صاحب سيادة كيفما كان نوعه، لهو محكوم بهذه القوانين المتسمة بالسمو، وبالتالي لا يستطيع إعفاء نفسه من احترام الامتثال لمعاييرها، عبر التماس السلطة المطلقة.

كما حاول بودان إلقاء المزيد من الضوء على السلطة المطلقة للسيادة، وهذه المرة من خلال مناقشة قضية الالتزام داخل ميدان العقود. وأيقن بأن كل واحد من أطراف الالتزام ملزم بتنفيذ واجباته التعاقدية مثلما نصت على ذلك الأنظمة القانونية.[x] ولا يرتبط تنفيذ أفعال الالتزام بإملاء صادر من التشريع الوضعي لصاحب السيادة، مما يجعله واجبا شرعيا يحكم أطراف التعاقد ويتخطى سلطة التشريع؛ وبهذه الكيفية يكون صاحب السيادة «ملزما بالتعاقد بينه وبين رعاياه».[xi]ويعود السبب النهائي في التزام أطراف التعاقد، إلى كون تنفيذ الالتزام يدخل في باب الواجب الشرعي الطبيعي، الذي يحيل على الشريعة الطبيعية، وفي الوقت ذاته إلى قانون الشعوب، بحيث يهم البشرية جمعاء ولا يستثنى من ذلك أصحاب السيادة. كما أنه لا يمكن لأصحاب السيادة، استعمال السلطة المطلقة للتنصل من الالتزامات التعاقدية بصورة شرعية، من دون موافقة الأطراف الأخرى المشكلة للتعاقد.

إن صاحب السيادة لا يستطيع إلزام نفسه بتشريعه الخاص، يعني بالقانون الذي شرعه، وكمثل على ذلك، يستحيل أن يتعهد شخص ما لنفسه أو يكون دائنا بدين اتجاه ذاته. وفي هذه الحالة، «لا يمكن لأي شخص أن يكون ملزما بوعود أقامها إلى نفسه».[xii]

من الجدير التذكير بالهدف الرئيسي الذي ضمنه بودان في مصنف الكتب الست للجمهورية، ويعتبر هذا المصنف بحثا في القانون والسياسة. لم يتوخ بودان النظر فقط في السيادة، بل قصد التفكير في الدولة التي أطلق عليها في مصنفه لفظ الجمهورية. ويمكن التمعن في هذا المصنف والقول بأنه يقدم نظرية شاملة وعامة في الدولة.

وقد كشف بودان في مصنف الجمهورية عن العناصر الأساسية الخاصة بالدولة المستقلة. وأعلن هنا، بكون السيادة لا تشكل سوى عنصر ضمن عناصر أخرى. كما أنه تصور الدولة بكونها اتحادا يضم جماعات متعددة، وترتبط فيما بينها برباط سلطة السيادة، والتي تظهر للملأ تحت سلطة عامة.


[i] Charles de Lavie Jean, Abrégé de la République de Bodin I, London : chez Jean Nourse, 1755, p. préface ii.

[ii] Lee Daniel, The Right of Sovereignty, Jean Bodin on the Sovereign State and the Law of Nations, Oxford University Press, 2021, p. 7. 

[iii] C. E. Merriam, History of The Theory of Sovereignty Since Rousseau, Columbia, 1900, P. 13.

[iv] King Preston, The Ideology of Order, A Comparative Analysis of Jean Bodin and Thomas Hobbes, Allen & Unwin, 1974, p. 129.

[v] Lee Daniel, The Right of Sovereignty, Jean Bodin on the Sovereign State and the Law of NationsOp. Cit., p. 21.

[vi] Bodin Jean, Les Six Livres de la République, De Republica libri sex, Livre premier- Liber 1, Première édition critique bilingue par Mario Turchetti, texte établi par Nicolas de Araujo et préface de Quentin Skinner, Paris, Classiques Garnier, 2013.

[vii] Zygmunt Izdebski, Quelques observations sur les idées politiques de Jean Bodin, Łódź 1965, p. 23.

[viii] Bodin Jean, Les six livres de la républiqueOp. Cit., p. 444.

[ix] RépubliqueOp. Cit., p. 470.

[x] Pennington Kenneth, The Prince and the Law, 1200-1600, Sovereingty and Rights in the Western Legal Tradition, University of California Press, 1993, p. 155.

[xi] King Preston, The Ideology of OrderOp. Cit., p. 133.

[xii] Edelstein Dan, Rousseau, Bodin, and the Medieval Corporatist Origins of Popular Sovereignty, Political Theory, January 2021, p. 5.
________
*الدكتور أحمد الزاهد.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة