اجتماعالمقالات

الذات الفلسطينيَّة بين رغبة الاحتواء وغربة الاكتواء

طوفان الأقصى

من المخزي اليوم أن نهلِّل ونصدح باسم الذات الإنسانية، لأن اللحمة التي كانت دالة عليها قد تمزقت بفعل الفتن والحروب التي عاثت على الأرض وأفسدت ما أفسدت، حتى أصبح من الصعب علينا أن نفكر في العالم بطريقة أنطولوجية وجودية دون أن تتعكر صفوة تفكيرنا بالصراعات السياسية والنزاعات القومية والنعرات الطائفية، فما عاد لنا من خيار إلا أن نتوحد وننزوي على أنفسنا ونرفع رؤوسنا إلى السماء ابتهالا وتأملا، وهكذا تحدث ابن باجة ، وما إن نفعل ذلك إلا ونصبح أقرب إلى المجازفة والمخاطرة بالوقوع في حفرة الواقع البئيس أو الانزلاق في مهاوي الوطن التعيس، لكن أخطر ما يمكن أن يباغتنا هو فقدان ذواتنا وضمور أحاسيسنا وتشتت مواقفنا، وهذا الخطر هو الذي يداهمنا في كل مرة يلتقط فيها بصرنا خبرا حصريا عن زيادة حصيلة ضحايا فلسطين، فنكون مخيرين بين أمرين أحدهما عن رغبة والآخر عن غربة .

 فالأمر الأول الذي ينطوي على رغبة فهو حينما نقوم بقراءة الخبر والتمعن فيه والتفكير في غوائله وسبر أغواره والاستزادة في البحث عنه، لتتوقد في نفسنا رغبة في الكتابة، في المساهمة، في الدفاع، في المشاركة، في إعلاء صوت الحق، دون أن ندخر جهدا في سبيل دعم القضية الإنسانية التي خيمت طويلا على المشهد الدولي وعمرت لمدة ليست بالقصيرة في الضمائر الإنسانية الحية .

أما الأمر الثاني الذي ينطوي على غربة فهو حينما نصادف خبرا كهذا ونغض الطرف عنه، لا يستثير مشاعرنا ولا يضرم في نفوسنا شرارة التضامن والتفاعل، ولا يحضنا على التشمير في سبيل البحث والاستقصاء، فغياب الشعور تجاه قضية إنسانية هو عينه غربة عن الانسانية، والمغترب هو الذي يسمى بالمحايد، على أساس أن هذه القضايا الإنسانية لا تعنيه طالما أنها لا تنفعه ولا تضره، والحق أن الحيادية زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر، لأن صاحبها قد حكم على نفسه بالموت، فالضمير روح، ومن مات ضميره ماتت روحه، والمغترب قد وضع نفسه في النعش هروبا من الواقع، نفورا من حياة المشاعر .

1 . الذات الفلسطينيَّة … رغبة الاحتواء :

يجب أن نعترف بأن الإنسان الداعم للذات الفلسطينية هو إنسان فاضل، لأن دعمه يثوي نزوعا إنسانيا دفينا يحييه الضمير كلما غفا واحتضر، لذلك فهو إنسان حي، وحياته مشروطة برغبه، إذن فهو إنسان راغب، ولكن رغبته ليست رغبة مبتذلة، أو رغبة حيوانية تنغرز في جوانية الإنسان دافعة إياه للحياة، وإنما هي رغبة في الاحتواء، وإنني أقصد هنا رغبة الاحتواء ما مفاده أن الإنسان الذي يتضامن مع الذات الفلسطينية إنما في الحقيقة يتضامن مع نفسه، فهي رغبة انعكاسية، تحمل في ثناياها اندفاعا نحو الإبقاء عن هذا الجوهر الذي لا يذبل، جوهر الإنسانية، وما كان له أن يدب الحياة في هذا الجوهر الذي ما انفك أعداء السلام عن إلحاق الخدوش والجروح به، لولا أن الذات الفلسطينية صمدت وتحملت وقاومت منافحة عن القبس الإنساني الآيل للخفوت، فلو أن الذات الفلسطينية أنهكتها الهجومات المتواصلة للكيان الصهيوني، ولو أن هذه الذات انهزمت وانكسرت واستسلمت، لما قدر للإنسان الراغب أن يحيى واقع إنسانيته، ولما كتب له أن يتجرع ألم الشعور بانسحاق ذاته الإنسانية في واقع لا إنساني، في اصطدامها المتواصل برفات الذين انهزموا في معركة الصمود ضد اللاإنسانية، في صدمتها الغائرة بما آلت إليه الضمائر والقلوب من تحجر وتحنط، وما صارت إليه العقول من توهم وضلال.

إن الإنسان الراغب فضلا على أنه يرغب في احتواء الذات الفلسطينية من أجل إرواء الظمأ الذي يبقيه حيا كإنسان، فإنه يرغب كذلك بغية التفوق على ذاته وتجاوز حدوده، لأن التفوق على الذات ينم على أنه لا يرضى لنفسه أن يبقى متسمرا في ذلك الركن الذي يمنحه السكينة والراحة، ولا يقتنع بنظريات الحياد والانزواء والتقوقع مع كل ما تنضح به هذه النظريات من استراتيجيات الإغراء والجذب، الشيء الذي ينعش كيانه بالمعنى، ذلك أن حياته مليئة به لا وجود فيها للفراغ أو الخواء سواء الزمني أو العقلي، وكيف لا ينتشي الإنسان الراغب بالمعنى في الحياة وهو حامل للقيم الإنسانية تجاه فلسطين من تضامن وتعاون وتآزر وحب ومحبة ومودة، الأمر الذي يجعله في وفاق مستمر مع ذاته ومواقفه، ما يشعل فتيل مشاعره الإنسانية ويقوده إلى الإبداع عن طريق الانتفاض، إذ ليست الرغبة كما نفهما على أنها تعطش وحرمان، بل هي إنتاج وإبداع، إنها قوة حيوية في الإنسان، ومن تلهبت في نفسه نار الرغبة الإيجابية في الاحتواء فإنه يتصفى ويتنقى، فالصفاء والنقاء والطهارة لا تتحقق أنثروبولوجيا إلا بالنار، فالإنسان الراغب إنسان ملتهب ومشتعل، بينما الإنسان المغترب هو إنسان متجمد بارد .

فما يمنح للإنسان الراغب قدرة على الإبداع هو تواشج وجدانيته الجوانية مع الموضوع، ومن ارتبط وجدانه بفلسطين فالأكيد أنه سيتفانى في المقاومة إن بالكتابة وإن بالصوت وإن بالتبرع والمساهمة، ولن يتوانى أبدا عن الدفاع عنها والإدلاء بمواقفه الصريحة المفعمة بالمشاعر الإنسانية تجاسرا منه وبسالة منه لا تضاهيها بسالة الإنسان المغترب المحايد الذي لا يملك موقفا يقف فيه، فيرفع إلى السماء.

2 . الذات الفلسطينية … غربة الاكتواء

إذا كانت الرغبة تمنحنا الحياة، فإن الغربة تمنعنا من الحياة، وقد أن أحشد من الحجج ما يدعم فكرتي هذه، سأطرح سؤال بسيطا : تصور أن حربا نشبت بين جماعتين، وأنت تنتمي لإحدى الجماعات، لكنك مانعت وتعنت عن المشاركة في الحرب بداعي أنك خائف أو أنك لن تستفيد شيئا منها إن لم تكن غالب نتائجها أضرار، فانسحبت، وحدث أن الحرب قد انتهت، لكن الجماعة التي تنتمي إليها قد اخترمتها المنية، ولم منهم ولا شخص واحد، كيف ستشعر؟

فقدان الانتماء يعني شيئا واحدا هو الاغتراب، والأخير يشي بأن الإنسان الذي يفضل الحياد ويستطيبه ويستحسنه هو إنسان فاقد للمعنى في الحياة، لذلك فهو مغترب عن قضايا وطنه، منسحب من هموم قومه، منصرف عن مشاكل جنسه .

وما معنى الحياد ؟ معناه عدم امتلاك موقف، وما معنى الموقف ؟ معناه عدم توفر موطأ قدم نستكين عليه، أي أن المحايد لا يتأرض، بل يتسامى، والتسامي يمكن أن نفهم منه أمران، الأول أن المحايد المتسامي يتحلى برذيلة التعالي والتكبر والتعجرف ويتخلى عن فضيلة التواضع والبساطة، لذلك تجده يتفاخر بحياديته، ويتعالى على الواقع، مسوغا تعاليه بجملة ساذجة هي ” لا يهمني “، ومن لا يهمه شيء لا يتفاعل معه .

الثاني هو أن المحايد هو شخص معلق في السماء حيث الفراغ واللامعنى، لأن يقف موقفا تجاه الواقع الأرضي، لذلك فهو مرفوع وغافل ومستهتر فاقد للاتصال، وقد كان ماركس يربط الاغتراب بفقدان الاتصال بالإنتاج وبالآخر، وسنحسم بأن المحايد لا إنتاج له، ولا مشاحة بأن علاقته مع الآخرين علاقة مضطربة ومهترئة .

إن الذات الفلسطينية لا تعترف بوجود هؤلاء، لأن غربة الاكتواء التي يحملونها في دواخلهم تبقى في جوفهم، إنها بحاجة إلى الاحتواء .

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات