الحوار بين الإنسان وأخيه ضرورة قرآنيَّة
العنف هو الوجه المغاير للحوار، وقدرته على تطوير قدرات المسلمين في اتّجاهات شتّى. وغالباً ما يتفاقم العنف في غياب الديمقراطيَّة ولجوء بعض فرق المسلمين إلى “السيف” بفعل قراءة قروسطيَّة لأحكام الدين، تحدّ من تبلور مناخ حوار حقيقي؛ على أساس أنَّ الحوار الجاد الفاعل سمة القرن الحادي والعشرين.
لا يتبلور الحوار إلا من النضج الاجتماعي، وتوافر عوامل موضوعيَّة متعاضدة معه. ولعلّ التجربة الأوروبيّة، فضلا عن اليابانيَّة، بعد كارثة الحرب الكونيَّة الثانية ومقتل أكثر من 60 مليونا من البشر، الدليل الأكثر سطوعاً على أهمّيَّة الحوار وما ينتج عنه لصالح حياة إنسانيَّة كريمة.
عانى المسلمون طويلاً من سلسلة حروب وقتل، لكنّهم- على ما يظهر- لم يدركوا بعد فهم كيف أنّ الحوار الراسخ الرصين أداة فاعلة لتأكيد التسامح وقبول الرأي الآخر، وتعزيز دوره في بناء المعرفة وتنميتها وتطوّرها باتّجاهات عدَّة.
غياب الحوار مع المختلف (ليس ثمَّة حوار مع المتّفق) سيؤدّي حتماً إلى قطع سبل الانفتاح ورصد أبواب المراجعة الفكريَّة وتشخيص الأخلال والعيوب. من هنا يتبدّى الحوار مع الآخر من ضرورات تطوّر الحياة ضمن مسار صحّي وصحيح.
بغياب الحوار يبرز العنف جليّاً بوصفه الردّ الأكثر فاعليَّة على تغطية سمة ضعف مسلمين ووهنهم، من دون التفكّر بمدى الدمار والخراب والخسارات والتناقضات الناجمة عنه، التي تنعكس سلبا على المسلمين كلهم حيثما كانوا.
تحوّل القتل في الأعوام القليلة الماضية في العالمين العربي والإسلامي، إلى ظاهرة اجتماعيَّة، بعدما كان نهجاً سياسيّاً مقتصرا على أنظمة سياسيَّة وتنظيمات متّصلة بها بطريقة أو بأخرى، ومع استمرار أفعال القتل واتّساع دائرتها لتطال الكثير من المدنيّين الأبرياء من نساء وأطفال- من دون أن ينجو منها مسلم أو غير مسلم كما هي الحال في العراق والسعوديَّة ومصر وأفغانستان وتركيا وباكستان والجزائر وبريطانيا وفرنسا وأميركا- تزداد الصورة قتامة وظلاماً حين تعلن جماعات مسلّحة أنّها تمارس كل هذا القتل تحت ذريعة الدفاع عن الإسلام .. أو الجهاد ضدّ المحتل.
هذا الحال يتطلَّب إيجاد آليَّة أو طريقة تساعد على قبول تعدّد الأديان والطوائف، فضلاً عن غير المؤمنين بأية ديانة، كخطوة مسؤولة تحمل همّ تأسيس مبدأ الإقرار بالحوار وحقّ الاختلاف، كما يأمرنا القرآن الكريم، من خلال التي هي أحسن.
يكمن جوهر تلك الآليَّة بتواصل الإنسان مع الآخر بدلاً عن نفيه أو قتله، وإحلال السلم محلّ الحرب، والمحبذة والتسامح إزاء الحقد والكراهية.
الآليَّة التي نقصدها نرى ثقلها وفاعليتها في رحم المجتمع عندما تتراكم عوامل التثقيف والنضج برعاية الدولة، التي تضع على رأس واجباتها تنفيذها وتفعيلها في وجوه الحياة اليوميَّة.
لا يختلف اثنان على أنّ الحوار سمة القوّة والحكمة والثقة بالنفس، هذا من جانب، ودليل ساطع لا يقبل التأويل على أمّة الإنسان التي دعا إليها القرآن ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ). لذا صرنا شعوباً وقبائل لنتعارف، أي لنتحاور، ولنتبادل معارفنا وخبراتنا، ونتعاون على الخير من أجل الجميع. وهذه هي إنسانيَّة الإسلام الجليلة. لهذا فوحدة الإنسان من وحدة الله، ووحدة الله هي مركز الكون والوجود، كما يعتقد المسلمون.
ثمّ أنّ ما من شكّ في أنّ الحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان يمثّل أساس التفاعل الحياتي مع أهل الكتاب وغيرهم، كما دعا إليها القرآن. ومن هذا المنطلق استطاع فلاسفة مسلمون أوائل إيجاد تناغم بين فلسفة أرسطو القديمة والعقائد الإسلاميَّة.
بيد أنَّ الحال اختلف اليوم كليّا، إذ يتبلور الفكر السائد حاضراً ليوجد عالم أحادي متكامل بذاته، حيث على المسلمين مواجهة تحدٍّ كبير متمثِّل بالتعايش السلمي المشترك مع غير أهل الكتاب، بدلاً عن الاقتصار على القبول بأهل الكتاب وحسب. بمعنى آخر أنّ بوسع الإيمان ومنطق الحاضر أن يلتقيا في نقاط وأن يتباعدا في أخرى، بدلاً عن السعي إلى إلغاء الآخر وطمس هويّته.
قراءة متأنيَّة في آي القرآن العظيم ستبيّن لنا أنّ ثمّة مساحة متاحة لغير أهل الكتاب. يقول تعالى في محكم كتابه، وهي نر قليل من وفر كبير، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ *لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسيْطِرٍ)، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا)، (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).
______
*الراصد التنويري/ العدد 2/ أيلول 2008.
*المصدر: التنويري.