لا يمكن أن نتجوّل بين صفحات كتب المتنورين والحداثيين ومقالاتهم دون الانتباه إلى تمجيدهم ومدحهم للمعتزلة، إمَّا بشكل مباشر وصريح، أو ضمنياً وبين الأسطر، فها هو مثلاً نصر حامد أبو زيد يقول في تقديم كتابه “الاتجاه العقلي في التفسير”: “إذا كان المعتزلة قد مَثّلوا الفكر التنويري في الإسلام، فذلك لأنّهم حاولوا تلبية الحاجات الجديدة التي نشأت عن الابتعاد زمنياً عن لحظة صدور الوحي، والإجابة عن التساؤلات الناجمة عن علاقة الوحي بالواقع المستجد، وبالتالي أسّسوا لدراسة العلاقة بين الخطاب الإلهي والخطاب الإنساني من خلال الفكر الإسلامي في ظروف تاريخية تتغيّر، فأقاموا النقل على أساس العقل وأنجزوا بذلك عقلنة الوحي، تلك المهمة التي كان على أوروبا أن تنتظر حتى القرن الثامن عشر لتحقيقها”[1]، وما يقصده أبو زيد بعقلنة الوحي هو قراءة النصوص الدينية وفق آليات العقل الإنساني وليس العقل الغيبي الغارق في الخرافة والأسطورة، بل ويرى أن المعركة التي خاضها قديماً المعتزلة تتكرر حديثاً وهي شاملة تدور على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث طرفها مدرسة التمسّك بالمعاني الحرفية للنصوص الدينية، وطرفها الآخر قوى التقدم العقلانية التي تُنازل الأسطورة على أرضها رغم الغلبة للخطاب الديني على حساب الخطاب العقلاني نظراً لقيام النزال على آليات سجال إيديولوجي من دون تحقيق وعي علمي بطبيعة النصوص الدينية.[2]
أما محمد أركون فيرى أنّ للمعتزلة الفضل في اقتحام ما يسميه “اللامفكر فيه” انطلاقاً من عقيدتهم في القرآن الكريم التي تجعل ذلك التفاعل بين اللغة والفكر مستمراً ما يؤدي إلى ولادة وتجديد للأفكار باستمرار، يقول: “كان المذهب الحنبلي قد فرض في الإسلام الرفض القاطع لكل تفسير مجازي لكلام الله، غير عابئ بانعكاسات مثل هذا الموقف على قضية أخرى أكثر كونية وعمومية، وأقصد بها مسألة التداخل بين اللغة والفكر، إن الموقف الأصولي المتشدد في الأديان يحيلنا إلى ذلك الخيار الفلسفي المتعلق بمنشأ المعنى من خلال التفاعل بين اللغة والفكر، فالفضاء الواسع والغني الذي فُتِح من قِبَلِ كلام الله الموحى من أجل “مفكّر فيه” متجدّد باستمرار، كان قد أُغلق واُختزِل إلى ما ندعوه ب “المستحيل التفكير فيه”، وهذا ما حصل بالضبط مع المناقشة التي فتحها مفكرو المعتزلة”[3].
بل ويذهب أكثر إلى أنّه لا سبيل للأمة الإسلامية للخروج من أزمة التخلف الفكرية سوى بالعودة إلى اعتناق عقائد المعتزلة، يقول:”عندما دافع مفكرو المعتزلة عن مفهوم خلق القرآن كانوا قد أحسوا بالحاجة إلى دمج كلام الله في نسيج التاريخ، إذا ما استعاد الفكر الإسلامي اليوم هذه الفكرة فإنه عندئذٍ سوف يمتلك الوسائل الكفيلة بمواجهة المشاكل التي تنثال على الفكر المعاصر من كل حدب وصوب بمصداقية اكبر وابتكارية أقوى وأعظم”[4]، وأنّ العقل الإسلامي سبق العقل الأوروبي وعصر النهضة بعدة قرون في إنتاج المعرفة والأنسنة والعلم عن طريق تيار المعتزلة الذي للأسف تعرّض للمنع والتكفير والاضطهاد منذ إصدار الوثيقة القادرية، ومع هذا الإصدار توقف العقل المسلم عن الحركة الإبداعية في مسيرته عبر التاريخ ودخل عالم التخلف والانحطاط.[5]
في حين، لا نجد في كتب حسن حنفي ومحاضراته مدحاً صريحاً للمعتزلة لأنه استخدم مصطلحات معاصرة ما هي في حقيقتها سوى تعبير عن هذه الفرقة الإسلامية وعقائدها، فنجده مثلا في حصة تلفزيونية[6] يرفض وصفه بالشيوعي من طرف جماعة الإخوان المسلمين، كما يرفض وصفه بالإخواني من طرف الشيوعيين، وفضّل وصف انتمائه العقائدي باليسار الإسلامي، وهو ما تناوله في كتابه “اليمين واليسار في الفكر الديني”، ورأى في اليسار تحقيقاً للقيّم الإسلامية وخاصة الحرية والعدل، أي أهّم أصول المعتزلة، وهي طبعاً قيّم لا يمكن تجسيدها بالاكتفاء بالنص بل لا بد للعقل، وهنا لا يخفي حسن حنفي تبنيه لرؤية المعتزلة للعقل باعتباره أساس الإيمان وهو المقدّم على النقل، وهذا ما جعله يعيد فتح أبحاث كلامية لطالما كانت خطيرة بين الفرق الإسلامية إلى التكفير كمسألة أسماء الله تعالى والإنسان يخلق أفعاله والعقل قبل النقل … الخ.
يقول حسن حنفي مدعماً العقائد الاعتزالية وكيف أنّها عنوان للتقدّم الحضاري: “والموقف الآخر هو الذي يثبت حرية الإنسان، واستقلال إرادته، وإنّ الإنسان خلاق أفعاله، وصاحب قراراته، وأنّ فعله أوّليٌّ غير مشروط، وأنّ فعله أساس وليس تابعاً، وهو موقف اليسار. فالنظم السياسية التقدمية تثبت حرية الإنسان وقدرته، وخلقه لأفعاله، وأنّ للإنسان قدرة واستطاعة فعلية سابقة على الفعل في صورة روية وتدبر، وانتظار وتخطيط، ومع الفعل قي صورة باعث ونشاط، وحركة وتحقيق … كما تؤكد أن الجماهير هي صاحبة القرار، وتصّر على حقّ تقرير المصير، وحقّ التعبير، وحرية القول والعمل كتطبيقات لحرية الإنسان وممارسته لها”[7].
ويقول أيضاّ: ” ولما كان كل دين يقوم على وحي شفوي ثم يتّم تدوينه إما مباشرة أو بعد عدة أجيال تقل أو تكثر نشأت مسألة سلطة الكتاب وصلته بسلطة الوحي، وهي مسألة العقل والسلطة، وباصطلاحاتنا القديمة مسألة العقل والنقل. ونجد هنا أيضاً موقفين: الأول يجعل السلطة سابقة على العقل، والعقل تابعاً للسلطة. والثاني يجعل النقل أساساً للعقل، والعقل تابعاً للنقل، ويترتب على ذلك إهدار للعقل وهو القاسم المشترك بين الناس وإنكار بداهته وحدسه وأولياته وهي أساس العلم وبداية المعرفة، والارتكان إلى بداية أخرى أقّل يقيناً وذلك لأنّها نصوص مكتوبة، قد تكون صحيحة تاريخياً وقد تكون محرّفة لأنّها نصوص مكتوبة باللغة وخاضعة في فهمها لقواعد اللغة ومناهج التفسير”[8].
قد نكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة وإلاّ فإن قائمة المادحين للمعتزلة طويلة من أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام، وإشادة طه حسين بالجاحظ وهو من رؤوس الفكر الاعتزالي، إلى مشايخ الأزهر الشريف كالشيخ محمد عبده الذي كانت جلّ مؤلفاته وتفسيراته للقرآن متأثرة بمناهج المعتزلة ومبادئهم رغم محاولاته إخفاء هذا نظراً للهيمنة الأشعرية على الأزهر في زمانه، والشيخ محمد شلتوت في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة.
فهل هؤلاء (الحداثيون والتنويريون) يسعون إلى إحياء معارك الماضي الكلامية من وراء دعوتهم لإحياء فكر المعتزلة ؟ أم أنّهم يبحثون عن نسبٍ لهم في التراث الإسلامي يبررون به اجتهاداتهم ومقولاتهم ؟ أم أنّ إعادة بعث الأفكار الاعتزالية ضرورة فكريّة ومنهجيّة في عصرنا الحديث لتحقيق إصلاح حقيقي في الخطاب الديني ؟
الاهتمام البالغ للفكر الحداثي بالمعتزلة ليس بحث عن نسبٍ ضائع كما يزعم البعض ولا من الترف الفكري بإعادة الجدل الكلامي اللاهوتي القديم كما يزعم البعض الآخر، بل بسبب التأثير الملموس للعقل الاعتزالي في المجال الفقهي ومنتجاته.
صحيح أنّ لعقائد المعتزلة أثراً على الجانب الاجتماعي مثل عقيدة خلق الأفعال وما يترتّب عنها من الإقرار بالمسؤولية الإنسانية وحريته، إلاّ أنّ المعتزلة ناقشوا هذه المسائل الكلامية في مجالها الميتافيزيقي دون الأنطولوجي، أي من باب دراسة صفات الله تعالى وعلاقته بالوجود وليس على محور إنساني محض، ولهذا لا نجد عند المعتزلة على أساس نفس المثال السابق أي تنظير حول حقوق الإنسان (حرية الاعتقاد، التعبير …) إذ تقريباً لا خلاف بينهم حول وجوب قتل المرتد ومعاقبة المخالف لهم (التداخل بين الإلهي والإنساني منعهم من تطوير فكرهم نحو الإنساني رغم أن حتى تصّورهم لهذا التداخل يعتبر تقدماً معرفياً في زمانهم حيث الحق الإلهي وحده هو الفكر السائد).
أما في الجانب الفقهي، فبلا شك لهم اليد العليا في إمكانية الإصلاح لاعتمادهم على مبدأ التحسين والتقبيح العقليين، أي أنّ الإنسان بالبداهة له القدرة على تمييز الخير من الشّر، وهذا حتى من دون شرع ونص إلهي، لأنّ الأشياء إما حسنة لذاتها أو قبيحة لذاتها وبالتالي لها أحكام مستمدة من العقل، وما الشرع (الوحي) في حالة وجوده إلا لطفاً من الله بالبشر غير مخالف لما أقرّه العقل، وهذه مسألة مهمة جداً لمعالجة أزمتنا الفكرية، لأنّ المسلم إن سألته عن موضوع ما وإنّ كان بسيطاً فلن يعرف إن كان خيراً أو شراً وسيبحث عن رجال الدين للاستفهام (ما يعني المزيد من سلطة رجال الدين)، عكس المعتزلة حيث الإدراك الأخلاقي، والإنسان بعقله يحدد فعله إن حسناً أم قبيحاً.
إنّ الفقه السائد حالياً وهو نتاج المدرسة النقلية حيث الحسن والقبيح أمران اعتباريان، أي أنّ الأفعال لا توصف لذاتها بالحسنة أو القبيحة، بل الشرع (النص الديني) هو من يحدد ذلك، وهكذا صار العقل وفق هذا النسق الفقهي مجرد آلة بيولوجية قابلة للاستجابة عند التنبيه، بتعبير آخر، الإنسان ما هو سوى حيوان ناطق لا فهم ولا قوة إدراكية لديه في التمييز بين أفعاله خيرها وشرّها إلاّ بنزول الشريعة (الإسلام حصراً)، وهو ما يفسّر اعتقاد المسلم أن غير المسلمين لا أخلاق لهم ويعيشون في الفساد، وهذا تفكير متطّرف وخطير خلق التصادم وحالة من العداء المجاني مع الآخر المختلف وعدم قبوله، ولهذا ينتصر الحداثي للمعتزلة لحلّ هذه الأزمة المعرفية انطلاقاً من مبدأ العقل قبل النقل، إضافة إلى نقطة ايجابية أخرى لدى المعتزلة وهي مبدأ الإباحة الأصلية، أي أنّ الأشياء في أصلها الإباحة ولا تحريم إلا بنص جليّ الوضوح، أي وبما أن قيود الشرع محدودة، فإنّ الإنسان حرّ على العموم.
في الأخير، يمكننا القول إنّ سعي أهل التنوير والحداثة في إحياء أفكار المعتزلة ليس الهدف من ورائه بعث ذلك الجدل العقائدي القديم بين الفرق الإسلامية، وإنّما لإحياء مبادئ فكرية هامة ستساهم في تهذيب أعمال الأصوليين التي تكشف عن مدى غياب فلسفة العقل عندهم.
_____
*العفيفي فيصل، أستاذ اللغة الفرنسية وباحث دكتوراه في علم العقيدة، جامعة تلمسان – الجزائر.
[1] الاتجاه العقلي في التفسير، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة، سنة 1996.
[2] نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، سينا للنشر، القاهرة – مصر، الطبعة الثانية، سنة 1994. ص 62 – 63
[3] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، سنة 2001 م. ص 24
[4] الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية، سنة 1996. ص 82
[5] انظر: محاضرة “محمد أركون والمعتزلة” https://www.youtube.com/watch?v=n5T7Xz48ezI
[6] http://markazthakafisaida.org
[7] اليمين واليسار في الفكر الديني، حسن حنفي، دار علاء الدين للنشر، دمشق – سوريا، سنة 1996. ص 16
[8] المرجع السابق. ص 17.
*المصدر: التنويري.