التنوير العربي.. غياب الرؤية وانتفاء الرؤيا
تعدّ طروحات المجدِّد الإمام محمد عبده المنطلق الرئيس لكل من سعى إلى تكريس مشروع نهضوي عربي، تحديدا منذ وفاته وحتى وقتنا الراهن، المشهد الذي يدفعنا إلى استدعاء كل مشاعر الحسرة دون اليقظة إلى غياب مشروع ناهض بالوطن العربي الذي لا يزال محفوفا بمخاطر التطرّف والإرهاب والتيارات الراديكاليَّة المتعصِّبة. وهذا الاستدعاء يفرض على الرائي أن يقفز خطوات للوراء لمراجعة مشروع النهضة الحضاريَّة الذي بدأه الخديوي إسماعيل والذي نجح في اجتهاده الثقافي بقدر متزامن ومتوازٍ في إخفاقه الاقتصادي بنفس الدرجة والمساحة بل والمسافة الزمنيَّة أيضا.
وفكرة أن تبدأ مصر عصرها الحديث بالمدرسة السنيَّة لتعليم الفتيات في الوقت الذي نتباكى ونمارس طقوسا جنائزيَّة بشأن تفشِّي الأميَّة الهجائيَّة بين النساء لهي دليل دامغ على الهوَّة والفجوة بين ما هو ثقافي واجتماعي وتنويري وبين ما هو اقتصادي. كذلك كل الإحداثيات الثقافيَّة التي تعلَّقت بمشروع التنوير الإسماعيلي ـ نسبة للخديوي إسماعيل ـ من تشييد الأوبرا وتكوين الفرق المسرحيَّة وظهور الفرق الموسيقيَّة كفيلة برصد بدايات قويَّة للتنوير، وما تخلّله هذا المشروع الثقافي من ظاهرة الصالونات الثقافيَّة وثورة الشيخ سيد درويش الموسيقيَّة ومحاولة التصدِّي المحمود للتوفيق بين التراث الديني والحداثويَّة في وقتها.
لكن هذا المشروع النهضوي ظلَّ معرَّضا للتأرجُّح تارة، وللنقد تارة أخرى لاسيما من أصحاب العقول غير المتفجِّرة بالإبداع أو هذه الأذهان غير المؤهَّلة لمواجهة تحدّيات الحاضر، وربما تقاعس صمود مشروع النهضة الذي يمكن تحديد قوّته ومتانته وجودة مضمونه على يد الشيخ الإمام محمد عبده، يذكِّرنا بالهوس الكلامي والورقي الذي صاحب وزامن أساتذة العلوم الأساسيَّة في الوطن العربي وهذا الافتراء والزيف بل والخداع الذي مارسوه بحقّ مجتمعاتهم وهم يؤكِّدون في كل محفل علمي ساخر أو مؤتمر دولي باهت بأنَّ أبحاثهم كفيلة بالبقاء العربي العلمي لكن الحقيقة لقد سقطوا بامتهار في اختبار جائحة كورونا ومنذ هذا السقوط أعتقد أن لا رجعة لهم في الأوساط العلميَّة الصادقة اللهم من صدق وأخلص منهم للعلم ولأوطانهم.
ومن الصعوبة أن نتلمَّس تجليات التنوير في عصرنا الحاضر لاسيما وأنَّ هناك ثمة أزمة مع التنوير بات يشبه حالة من الصدام حتى وصل الطرح التنويري والاجتهاد الفكري وكافة محاولات التجديد في قبضة التكفير لا التفكير، ومارست السلطة الدينيَّة الشعبويَّة غير الرسميَّة قمع بذور الاجتهاد مستخدمة في ذلك الفتاوى الجاهزة أو بصورة أخرى فلحوا في توظيف الفتوى لوأد أي مشروع تنويري عن طريق تكفير النخبة أو المجدِّدين أنفسهم.
ومن الحسرة بل من خيبة الحاضر أنَّ المرأة التي أنشأ من أجلها الخديوي إسماعيل مدرسة تعليميَّة برسالة تربويَّة رصينة تحوَّلت على أيدي حفنة الراديكاليين إلى وسيلة للترفيه عن ما يعرف عنهم بالمجاهدين تحت مسمَّى نكاح الجهاد، وما أقبح أن نرى المرأة كائنا مساهما في بدايات النهضة العربيَّة الحقيقيَّة ثم تتحوَّل بفعل سياسات دينيَّة مغلوطة إلى قطعة لحم ساكنة من أجل لحى وعمائم وأمراء استهدفوا استغلال الدين ونصوص بعض المتهوكين والمضطربين عقائديا من أجل إشباع غرائز ليست مستدامة.
حتى الصالونات الثقافيَّة التي تفجَّرت بأفكار الإمام محمد عبده وبراعات قاسم أمين تهاوت بفضل غلبة النزعة السياسيَّة الوطنيَّة عليها وتحولها ـ الصالونات ـ إلى ساحة معارك بين الأحزاب والتيارات والفرق السياسيَّة المتناحرة. وتعدَّدت أقنعة التنوير بعد ذلك من محاولات تجديد الخطاب الديني إلى الحراك الحزبي إلى ظاهرة مثقّفي السلطة.
ووصل بنا مشهد تنوير الإمام المجدِّد محمد عبده ومن خلفه من مجدِّدي القرن العشرين حتى صوب نهايته إلى بزوغ حصانة أهل السلف، لا المقصود بهم حماة العقيدة والدين المحفوظ بمقتضى العناية الإلهيَّة أساسا، والجهود الدينيَّة العظيمة والصحيحة للأوائل، لكن المقصود والمعني بهم هنا هم المدعون لامتلاك الحقيقة المطلقة الذين جاهدوا من ظهور تنظيم حسن البنا وصولا إلى تنظيم الدولة الإسلاميَّة في تقليص سلطة الثقافة وشيوع الإحباط ومشاعر اليأس للمواطن وهو يواجه نظامه السياسي.
واليوم ونحن نرصد مسارات التنوير الذي بدأه الإمام محمد عبده مرورا بأسماء كثيرة وقوائم وطوابير طويلة ساهموا في صناعة الرصيد الثقافي العربي مثل طه حسين والأستاذ العقاد والمازني وأحمد شوقي وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ونصر أبو زيد وفرج فودة والشيخ الشعراوي والشيخ محمد الغزالي وفؤاد زكريا وعابد الجابري ومحمد أركون انتهاء بالشاعر والمفكر الشاهق أدونيس، فإن ثمة علامات بارزة تربط بين الخطاب الديني ومشروع التنوير منها صراع تقليد التراث وإعادة إنتاج نصوص السلف في الوقت الذي يتبارى فيه المجدِّدون لبيان اجتهاداتهم الفكريَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة، هذا الصراع انتهى بإنجاب ثقافات ظلاميَّة قوضت المشهد التنويري ذاته.
وبدلا من البحث طويلا عن عوائق استمرار المشروع التنويري للعرب الذي تمَّ تشييده على يد الخديوي إسماعيل في مصر، أصبح السؤال الأكثر دهشة هو : أين المنجز الحضاري لتيارات الإسلام السياسي ذلك الضلع الثاني في صراع التجديد والتقليد؟.
الإجابة تبدو سهلة وبسيطة ولا تحتاج بالفعل إلى إرهاق للعقل أو استدعاء متعب للذاكرة، مجموعة من التسجيلات الصوتيَّة التي تتحدث عن الجنة والنار ومقاومة الحاكم وتكفير المجتمع وتبيين فتنة المرأة وفساد وجودها في مؤسَّسات الدولة، ومئات الكتب التي تتناول الجهاد والحاكميَّة وتكفير كل مخالف لفكر المؤلف الراديكالي ضيِّق الأفق، وأخيرا عشرات القنوات الفضائيَّة الموتورة التي لم تنجح من الفكاك من أسر نكاح الجهاد وإرضاع الكبير والزواج من الفتيات الصغيرات.
ولاشك أننا لاحظنا بغير غيبة أو غفلة مدى الانتشار الاستثنائي لأسماء ورموز مثل محمد حسان وأبو إسحاق الحويني ومحمد حسين يعقوب ووجدي غنيم وكذلك كثير من الوجوه المرتدية للجلابيب البيضاء على ساحات الفضائيات الذين وصلوا بنا في يوم ما تحديدا في استفتاء التاسع عشر من مارس لإعلان أن من يقول نعم سيدخل الجنة وينعم بالحور العين وبالنساء الحسناوات الفاتنات، وفي الوقت نفسه هم أنصار وأصحاب ورفاق عمر أعضاء حزب الحريَّة والعدالة الظهير السياسي لجماعة الإخوان الذين نظموا حفلا موسيقيا راقصا للمطربة والممثلة دوللي شاهين.
وحفنة المقلدين في غفلة وعجل ودون تريث، لم يلتفتوا ولو بقدر قليل من الوعي والإدراك والتعقل إلى أن الإسلام في كنهه مغامرة فكريَّة رائعة التكوين والتطبيق، دين يدعو إلى الاجتهاد والتجديد وإعمال العقل، والقرآن الكريم نفسه كتاب سماوي يواكب لمن أراد الله له أن يفطن مضامينه وألفاظه وصوره البليغة الزمان والمكان ويتزامن بالقطعيَّة والتواصل مع التغير والتقدُّم.
والفارق كبير وجوهري بين القرآن الكريم النصّ السماوي المقدَّس الذي يحرِّض على تفجر العقل وإعماله وإطلاق العنان إلى التجديد في ظل ثوابت وركائز أصيلة تنفع الفرد والمجتمع على السواء، وبين نصوص تراثيَّة جامدة لا تقبل منطق التطوّر ولا منطق الطير أيضا، فإذا كان القرآن الكريم يحرِّر العقل في دعوته ويحرِّر المرء من هيمنة رجل الدين، ويحرِّر المجتمع أيضا من سلطة النصوص الظلاميَّة، فإن أنصار التيارات الراديكاليَّة المتطرفة تمثِّل عدوا للعقل وإعماله.
والمستقرئ لتاريخ العداء الموجَّه من التيارات والفرق والتنظيمات العقائديَّة المتطرفة لكافة مشروعات النهضة الثقافيَّة العربيَّة، يفطن حجم الوصاية على التأويل والتفسي والتحليل التي مارسها أمراء هذه التيارات الظلاميَّة، ويستنتج العلاقة الوثيقة بين شيوع الأميَّة والتنوير.
وربما لأنني وثيق الصلة المهنيَّة بقضيَّة الأميَّة بحكم كوني المنسِّق العام لمحو الأميَّة وتعليم الكبار بجامعة المنيا بمصر، أدركت على مهل ويقين بأنَّ ثمَّة علاقة وطيدة قائمة بين شيوع وتغلغل الأميَّة التي بدأت هجائيَّة وانتهت فكريَّة وبين محاولات القضاء على فعل التنوير من جانب الجماعات الدينيَّة الجهاديَّة وتيارات الإسلام السياسي التي بدلا من توجيه دعمها المادي والبشري لمواجهة أعداء الدول الإسلاميَّة أو مناصرة الأنظمة السياسيَّة القائمة سعت إلى تقويض كل أنظمة الحكم بأسلحة شتى منها التكفير والتحريض على الفوضى انتهاء بأعمال القتل الوحشيَّة ضدّ المدنيين والعسكريين على السواء.
وجدير بالذكر أن أشير إلى مشروع جماعة حسن البنا المعروفة بتنظيم الإخوان، من كونه استهدف محاربة أئمة ورموز التنوير والإصلاح منذ بداية التكوين السري للجماعة المحظورة والمعزولة شعبيا وتاريخيا أيضا، وتخريب مشروع التنوير الوطني. وبالمناسبة لا يمكن التغافل عن مشهد بدا متلازما مع حركة التنوير العربيَّة في النصف الأول من القرن العشرين وهو خلق دولة صهيونيَّة بقلب الشرق الأوسط الذي أدى بعد ذلك إلى تفعيل سياسات التهميش والتسطيح لكل ما هو تنويري يستهدف طاقات العقل العربي المعاصر. ممّا أدَّى بعد ذلك إلى توغّل الثقافة الصهيونيَّة، بل أكاد أجزم بالقول بإن إسرائيل لعبت دورا مهمّا في تعقيد المسألة الثقافيَّة العربيَّة وإفشال مشروع التنوير.
وممَّا عمَّق كارثة العرب الثقافيَّة هو غياب الفقيه المجدّد، فضلا عن نمطيَّة الدعاة لاسيما الجدد الذين تاهوا طواعيَّة بين الشكل الظاهري والتزام خطوط الموضة المعاصرة وبين مضمون الطرح الديني.
ولعل ما طرحه المفكر المغربي المتميِّز رشيد جرموني في مقالته المعنونة بـ ” أي نموذج تنموي لما بعد جائحة كورونا ؟ ” يونيو 2020، لهو منطق المشهد الراهن من حيث إن جائحة كورونا لم تلق بظلالها فقط على الأبعاد الاقتصاديَّة والصحيَّة والسياسيَّة فحسب، بل إنها كشفت عن حقيقة المشهد التنموي بالوطن العربي وفضحت الأبعاد الحقوقيَّة والفكريَّة والوضع التعليمي بمؤسساتنا التعليميَّة، وأن المشكلة ليست فقط في نقص الإمكانات الطبيَّة والصحيَّة والكوادر العلميَّة ـ رغم أنني في الأصل لا أعترف بوجود كوادر علميَّة أكاديميَّة عربيَّة في مجالات شتى ـ بل إن الجائحة أبرزت النقص في مشروعات التنميَّة الثقافيَّة التي ظننا أنها قائمة بالفعل وأن تلك الجائحة فرصة طيبة وعظيمة أيضا لإعادة التأمل في مشهدنا الثقافي والتنويري.
________
ـ أستاذ المناهج وطرائق التدريس (م).
ـ كليَّة التربية ـ جمهوريَّة مصر العربيَّة.
*المصدر: التنويري.