يمكن توصيف حالة التعليم الديني في المنطقة العربيّة بأنّها كارثيّة، إذ باتت منذ النصف الثاني من القرن الماضي من قبيل اللامفكَّر فيه، ويكفي دليلا على ذلك تضخّم معدّلات الإدمان والجريمة من جهة، وإقبال مئات الآلاف من الشباب المسلم على الجماعات المتطرّفة والعنيفة من جهةٍ أخرى، هذا بالإضافة إلى ضياع البوصلة والتخلّف العلميّ الواضح، وغيرها من النتائج السلبيّة التي تنبئ بفشل مناهج وأساليب التعليم الديني في صياغة الشخصيّة الإسلاميّة المتوازنة.
بسبب أهمّيّة هذا الموضوع المتشعِّب، أفردت الرابطة العربيّة للتربويّين التنويريّين، خلال أعمال اجتماعها السنوي الثاني الذي أقيم في العاصمة التونسيّة، في الفترة من 30 سبتمبر إلى 2 أكتوبر من العام 2017، ندوة خاصّة حملت عنوان “التعليم الديني.. آفاق التطوير والنهوض”، تحدّث فيها كل من الدكتور سمير بودينار (المغرب)، والدكتور نبيل السعدون (الأردن)، والدكتور ليث كبة (العراق)، والدكتور المحبوب عبد السلام (السودان)، فيما ترأس الندوة الدكتور عدنان المقراني (تونس). ننقل لكم أهم ما جاء فيها:
الانتقال من التدريس عن الدين إلى التربية عليه
دعا الدكتور نبيل السعدون، علماء وحكماء وقيادات الأمّة الإسلاميّة، إلى ضرورة العمل الجاد على إصلاح وتطوير التعليم الإسلامي المدرسي والأهلي الذي وصف حالته بأنَّها كارثيَّة. لافتًا أنَّ عمليّة الإصلاح والتطوير المطلوبة ليست جزئيّة ولكنها شاملة، وليست وقتيّة لكنّها مستمرّة، وليست ظرفيَّة ولكنّها عامّة، وليست نظريّة فحسب؛ بل تطبيقيَّة وميدانيّة، وليست محدودة في منطقةٍ ما ولكنّها مطلوبة حيثما وجد المسلمون. ويشمل نطاق الإصلاح والتطوير المطلوب؛ وفقًا للدكتور السعدون، جوانب عدّة تشمل أهداف التعليم الإسلامي، وتوجّهاته، وأساليب تدريسه، وتأهيل مدرِّسيه، ووسائل تقويمه نظريًّا وعمليًّا.
وحدّد الخبير التربوي ومؤلّف مناهج التربيّة الإسلاميّة، بعض النقلات التي يجب على المطّلعين بالتعليم الديني القيام بها لتطويره وإصلاحه، وهي:
أولا: تحقيق الهدف من تدريس الدين، لافتًا إلى وجود فوضى في البلاد الإسلاميّة حول الهدف من تدريس الدين؛ والحقيقة أنّ هذا الاختلاف في تحديد الهدف من تدريس الدين الإسلامي أدّى إلى عزوف الطلبة وأولياء أمورهم عن المناهج المدرسيّة التي تضعها وزارات التربية والتعليم والاكتفاء بالتربية المنزليّة أو التربية المسجديّة، أو لا تربية دينيّة على الإطلاق، وبالتالي النقلة المطلوبة هي أن ننتقل من التدريس عن الدين إلى التربية عليه.
ثانيًا: الانتقال من التلقين النظري العقيم إلى التعليم المؤثِّر النشط الذي يفضي إلى حبّ مادّة التربية الإسلاميّة،وحبّ تطبيقها؛ فواقع الحال في مدارسنا أنَّ أسلوب الحقن والتحفيظ هو السائد، بينما أسلوب الحوار والإقناع والجذب هو الغائب. ومن هنا نجد أنَّ أساليب الأمر والنهي المباشر هي التي تسود غرف التدريس. بينما الإغراق في العرض النظري، والبعد عن الأنشطة الإبداعيّة هي التي يضيق الوقت عليها.
ثالثًا: الانتقال من الأحكام إلى الحِكَم، والانتقال من تلغيز الغيبيّات وحتى الأحكام الشرعيّة إلى توضيح البراهين المنطقيّة والعلميّة منها؛ فالعقول الفتيّة في مدارسنا تعاني من عدم القدرة على الاقتناع بهذه الأمور، وعند مواجهة التيارات المختلفة في الجامعات يتعرضون إلى حالة من الفوضى الفكريّة والصدمات التي تؤدي بهم إلى الإنحراف.
التفكير في التعليم الديني بين التحدِّيات الراهنة والأسئلة المستقبليَّة
أكَّد الدكتور سمير بودينار، أنَّ التعليم الديني ظلَّ منذ النصف الثاني من القرن الماضي من قبيل اللامفكَّر فيه، ليس باعتبار هذا التعليم من المسلَّمات التي تحتمل النقاش كما وصف محمد أركون موضوعاته في كتابه الذي حمل نفس الاسم، بل لأنَّ الفكر العربي المعاصر تجاهل التفكير فيه؛ إمَّا بسبب يأسه من إمكانيّة الرهان على التعليم الديني، وعدم اقتناعه بوظيفته في راهن المجتمعات العربيَّة، ولا في دوره المتوقّع في ظلّ النماذج المجتمعيَّة السائدة، أو لأنَّ هذا الفكر العربي المعاصر ظلَّ عالة على المحاولات الفكريّة التي أنتجها التراث الإصلاحيّ خلال القرن التاسع عشر إلى النصف الأوّل من القرن العشرين الماضي.
وأشار بودينار إلى أنَّ تجاهل نخب الدول الحديثة التفكير في الموضوع، أدَّى إلى تعطّل آليَّة التراكم التي يمكنها أن تحدث تطوّرًا نوعيًّا في التفكير في التعليم الديني وممارسته لصالح الأجيال المتعلّمة، لكن هناك أهمّيّة للإشارة إلى ضرورة التفكير في التعليم الديني من خارج العلبة؛ أي التفكير من خارج المنظومة التعليميّة الراهنة لأنّها لم تعد قادرة وحدها على اجتراح رؤى يمكنها أن ترتقي إلى ما نأمله من التعليم الديني ليكون فاعلًا ويجيب عن أسئلة شائكة حارقة معقّدة تعيشها مجتمعاتنا اليوم.
قضيّة أخرى أشار إليها الأكاديمي المغربي، تتعلّق بضرورة الاستبقاء على فكرة مؤسّسة التعليم الديني، لافتًا أنّهاَ على علّاتها تمثّل مساحة مستنقذة من فكر العنف، لكنها بحاجة إلى الارتقاء إلى مستوى تنويري فاعل ومؤثِّر. موضحًا أنَّ نخب التعليم الدينيّ أصبحت متجاوزة معرفيًّا، بالإضافة إلى خوفها من الحديث عن أي إصلاح أو تطوير لمناهج التعليم الدينيّ يأتي من خارج هذه المنظومة.
إعداد الفرد للمستقبل هو الموضوع الرئيس للتعليم الديني
قال الدكتور ليث كبَّة، إنَّ إصلاح التعليم الديني يجب أن يبدأ من المنطقة العربيّة، ليس فقط لأنّ القرآن النصّ المؤسِّس هو باللغة العربيَّة، بل لأنَّ نشأة هذا الدين وانتشاره وكل مصادره وتاريخه باللغة العربيَّة، لافتًا إلى أنَّ الدولة قد تكون جزءًا من المشكلة لا الحل عند الحديث عن إصلاح التعليم الديني، أمّا مؤسّسات التعليم الديني فهي عاجزة عن إيجاد الحلول بشهادة كثيرين، الأمر الذي يترك هذه المهمّة على عاتق مؤسّسات المجتمع المدنيّ.
ولفت الدكتور كبّة إلى أنّنا نتحدّث، حتى الآن، عن التعليم الديني بمعنى حفظ التراث؛ الدين زخم الماضي وتراكمه من النشأة إلى وقتنا الحالي، نلخّصه ونعلّمه ونحافظ عليه ثمّ نريد تحديثه وتعديله ونقده..الخ، وهذا هو المنهج التقليدي للتعليم الديني،لكن علينا أن نفكّر وفي ظلّ محدوديّة الموارد ليس بحفظ الماضي فقط، بل في صناعة المستقبل؛ لأنَّ الموضوع الرئيس في التعليم هو إعداد الفرد للمستقبل حتى يكون جزءًا من هذا العالم.
وأضاف أنّ القفزة التي حدثت في العالم الرقميّ تضعنا أمام تحدّي وضع إنتاجنا التعليمي ورسائلنا المعرفيّة في تصرّف التعليم الرقمي، لأنّ الطالب سيخرج في غضون العقد القادم من التعليم التقليدي الصفي، وسيتعامل مع الآلة كمصدر للتعلّم، وإذا لم نعبّئ هذه الآلة بمنتوجات مدروسة من منظورنا، وتحمل رسائلنا القادرة على تطبيع الذهن قيميًّا وتقنيًّا ومعرفيًّا، ما لم يحصل هذا بأدواتنا التعليميّة، لن نستطيع أن نواكب التطوّر الذي حصل في العالم.
إعادة النظر في مناهج التعليم الديني من مدخلٍ موضوعي
أشار الدكتور المحبوب عبد السلام، أنَّ هذا الموضوع يأتي في صلب الموضوعات المعنيَّة بتجاوز حالة عزلة النخبة وتنظيرها على المجتمع، لافتًا إلى مدى أهمّيته بدليل أنّ التنوير بدأ في المثال الأوروبي بالإصلاح الديني، كما أنّ مشروع محمد البنا التنويري بدأ بإصلاح المناهج والجامعات.
ودعا عبد السلام إلى ضرورة إعداد دراسة شاملة للتعليم الديني في المنطقة العربيّة على غرار دراسة قديمة لم تحظّ بالاهتمام حتى الآن، أجراها المفكر الباكستاني فضل الرحمن درس فيها حالة التعليم الديني في المحيط الآسيوي، وركّز فيها ليس على الجامعات والمعاهد التي قامت أصلا لتخرّج الطلاب فحسب، بل درس أنماط التعليم الديني غير الرسمي في تلك المنطقة.
واتّفق المفكّر السوداني مع الرأي الذي يقول إنَّ واقع التعليم الديني مؤسف جدًا وفي غاية التخلّف والانحطاط، وهي النتيجة التي تنافي ما بشّر به فضل الرحمن في دراسته حول أنَّ التعليم الديني سيرتاد آفاقًا جديدة، بدليل أنّ عدد الذين يسجّلون دراسات في التوراة أو الإنجيل في الجامعات الأوروبيّة يتجاوز العشرات سنويًّا، فيما لا يتجاوز عدد الذين يسجّلون دراسات حول القرآن الواحد أو الاثنين على أبعد تقدير، كما أنّ الفقه كذلك بالغ التخلّف وهذا أمر يدعو للتأمّل في ظلّ السمعة القديمة للتعليم الديني الإسلامي وإنجازاته التاريخيّة بالغة الأهمّيّة.
*المصدر: التنويري.