التعدّديَّة طريق إلى حضارة إنسانيَّة
يُعدّ مفهوم التعدّديَّة من المفاهيم التي تشتغل في أكثر من مجال معرفي ونشاط إنساني كعلوم الاجتماع وعدد من حقول الفلسفة، كالفلسفة السياسيَّة والنظريَّة السياسيَّة، والمنهج.
وبداعٍ من هذا الطيف الواسع من المجالات، لا نجد سهلاً إيراد تعريف محدّد قابل للانطباق على آليّات اشتغال مفهوم التعدّديَّة، وراج هذا المفهوم في التداول العام في السنوات الأخيرة لاقترانه بنوع حكم- الديمقراطيَّة- يفرض نسقه وجود التعدّديَّة كعنصرٍ حاسم في اشتغاله.
أمّا إصلاح “التعدّديَّة الدينيَّة” فهو الآخر ينطوي على مفاهيم عدّة، لكن ما يهمّنا هنا هو أنّ هذا الاصطلاح ينطوي على فكرة أنّ الأديان كلّها متساوية ولها الحقّ في الوجود من دون مناقشة نسبة صحّتها التي ستفضي إلى إطلاق حكم ما عليها، وهذا ما تترتّب عليه تبعات اجتماعيَّة وسياسيَّة.
لكن لعل من الممكن ملاحظة فكرة تنبجس حال التفكير بمفهوم التعدّديَّة؛ قبول التنوّع على أساس المساواة في الحقيقة وشرعيَّة الإفصاح عن الذات ومنح هذا الحقّ نفسه للآخر، وهذا كلّه من دون صراع أو إضرار أو ضرار.
من هنا يرى بعض الكتّاب والباحثين في مجال المسيحيَّة تحديداً أنّ مفهوم التعدّديَّة الدينيَّة موازٍ أو مرادف لمفهوم التسامح، بيد أنّ آخرين يجدون أنّ التعدّديَّة الدينيّة تشدّد على أنّ جميع الأديان اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام، وحتى ديانات وضعيَّة كالهندوسيَّة والسيخيَّة “حقيقيَّة” بقدرٍ متساوٍ وكلها صحيحة لأنّها تعبير عن إرث ثقافي ينبغي “القبول” به والإقرار به.
لكن تاريخ الأديان يعج بالرفض المتبادل للشرعيَّة، وشهد عهودا طويلة من التصارع والإلغاء المتبادل منذ عهود سحيقة(وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) البقرة 113.
وتختزل هذه الآيات أيضاً صراع مذاهب في إطار كل دين من الأديان السماويّة الثلاثة، حيث تجد في رفض مذاهب أخرى تشاركها الدين نفسه وتندفع لإلغائها، ففي اليهوديّضة هناك التعارض في كثير من مسائل الشريعة بين السفارديم- اليهود الألمان تحديدا- والإشكناز- الشرقيّون، وفي المسيحيَّة فالتعارض والتنازع بين البروتستانيَّة والكاثولوكيَّة قد خرج من النصوص ليكون مادة تقارير صحفيَّة وتلفزيونيَّة زمناً طويلا خاصّة أثناء النزاع بين إيلندا وبريطانيا، أمّا في الإسلام فنزاع السنّة والشيعة يخبو زمناً ليتجلّى قتلا برصاص وأحزمة ناسفة ومفخّخات.
وفي الإسلام، كما في الأديان الأخرى أيضا، اجتهد بعض الشيوخ في إلغاء حقّ التعدّديَّة ورفض التسامح مع أديان أخرى من خلال تفسيرهم قوله جلّ وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)/ 62 البقرة. و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)/ 69 المائدة. من دون أن يتفكّروا بـ(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9))/ الممتحنة.
هكذا تصير تعاليم الأديان، في أزمنة وحقب معيّنة مادة لأغراض السياسة والحاكم، بمعنى أنّ تفسير النصّ الديني يقع في خدمة أغراض سياسيَّة بدلا عن أن يكون جزءا من منظومة تضبط السلوك الإنساني، وهذا ما عانته أديان كثيرة، لا سيما الإسلام؛ فالإسلام الحيف دين الرحمة والعدل والإنساني. أكّد التسامح نصّا وسنَّة، ودان إلغاء الآخر وإقصاءه وما قصّة أصحاب الأخدود في سورة البروج إلا موقف واضح من إلغاء الآخر وتسقيطه وقتله، كما كان فهم الإسلام للتعدّديَّة راقيا بوصفها مساواة بشريَّة، ألم يعد البشراء نظراء في الخلق؟
______
*الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.
*المصدر: التنويري.