تقديم
يعد مشكل تفسير النص الشرعي وبيان دلالته اللغوية، ومعانيه الشرعية، وتمثل القصد منه، من أبرز القضايا المعرفية، والإشكالات المنهجية التي أثارها علماء الإسلام عامة، وعلماء التفسير، والأصول والبيان بصفة خاصة، فعلوم الفهم والبيان والتفسير والاستمداد، كانت من أبرز العلوم حضورا في التراث العربي الإسلامي، فعلوم البيان والفهم والتفسير والاستمداد، كانت من أهم العلوم الإسلامية اشتغالًا على الفهم، واستحضارًا لقضايا البيان في التراث العربي الإسلامي، إلى درجة أن هناك من سمى ونعت علم أصول الفقه، وهو من علوم الفهم، بعلم نقد النص، أو علم النص، أو علم بيان النص.
وهذا الحضور لعلوم الفهم والتفسير والبيان، والاستمداد في بنية هذه العلوم، يعني بأن هناك خلفية دينية، تحكمت ووجهت العلوم الإسلامية على اختلاف أشكالها،نحو العناية بالفهم والتفسير، والاشتغال بالتلقي، والتأويل أكثر من عنايتها، واهتمامها بالجوانب الأخرى من المعارف الإنسانية الأخرى.
فما يجمع العلوم في التراث العربي الإسلامي، هو تغليبها المنزع اللغوي و البياني في هذا الاشتغال.
تتأكد هذه الوجهة للناظر والمتابع لبنية العلوم الإسلامية، إذ أنجز علماء الإسلام على امتداد التاريخ أبحاثا علمية كبيرة، قامت وساهمت في ظهور ثروة علمية مباركة، واسعة وشاسعة من المعارف والعلوم، ترجمت في إنتاج جملة من العلوم المتخصصة، في المنهجية الخادمة والمسددة لتفسير النص القرآني ولفهمه وتلقيه بشكل خاص.
هذه العناية بما هو بياني ولغوي، وتغليب الجهة البيانية في العلوم الإسلامية، يدل أن المحور الغالب، والمدار المهيمن في العلوم التراثية، كان للبيان والتفسير والاستمداد، وهو ما يفسر لنا هذا النعت، الذي نعتت به الحضارة الإسلامية بين الدارسين بأنها “حضارة النص” .[1]
وما يؤشر على هذا المضمون الكاشف للوجهة البيانية للعلوم هو هذا التصريح الذي قال في شأنه المفكر محمد عابد الجابري إن” السلطة المرجعية في علم أصول الفقه هي للبحوث اللغوية. والمحور الرئيسي الذي ينتظم هذه البحوث هو علاقة اللفظ والمعنى” ([2]).
الوجهة المنهجية في العلوم الإسلامية
انطلاقا من هذا الاعتبار المحدد في أن مقصد البيان والفهم لكتاب، من أبرز المقاصد التي جاءت بها الشريعة الإسلامية،وعملت على تأصيلها، وعلى إبلاغها، وحملها في نصوصها ونقولها وشواهدها.
فلقد نشأت قناعة راسخة بين علماء الإسلام، أن الحرص والعناية ينبغي أن تتجه إلى المنهج بشكل أساسي، لأن المنهج هو مجموعة من المسالك، والطرق التي عادة ما يتبعها الباحث للبرهنة على الإشكالية التي اعتمدها، وفي المجال البياني يعني التقيد بمجموعة من المسالك قصد الوصول إلى المعنى المراد في كتاب الله.
ما جعل الثقافة العربية الإسلامية في بداية نشأتها ، تدرك أن الحاجة ماسة، وضرورية إلى تأسيس منهج يضبط عملية الفهم، ويسدِّد عمليَّة البيان، ويقوِّم الاستمداد، وينظِّم عمليَّة التأويل حتى تنضبط هذه العملية مع منطق وأصول اللغة العربية في التخاطب ، بتحقيق دلالة الألفاظ ، في تحوّلها وانتقالها من الدلالة الأصلية إلى الدلالة التبعية، تبعا للسياقات والمقتضيات التي ترد فيها.
وبحكم هذه الوجهة التي اختارتها كثير من العلوم في التراث العربي الإسلامي، فإنَّ المتابع والناظر، وهو يتصفَّح نسقيه وبناء العلوم الإسلاميَّة في بنائها وتركيبها ومرجعياتها، وكذا في تصنيف علماء الإسلام لهذه العلوم، يدرك ويلامس أنَّ العادة الراسخة والحاضرة بين المتقدِّمين من علماء الإسلام، أنهم أعطوا الأولوية، ومنحوا الأفضلية، وقدَّموا الصدارة للعلوم المنقولة على حساب العلوم المعقولة، والعلوم الشريفة على حساب العلوم الوضيعة، وعلوم الأديان على حساب علوم الأبدان، والعلوم النقليَّة على حساب العلوم العقليَّة، بل من التصنيفات من رفعت من شأن علوم الآلة، وهي العلوم المنعوتة بعلوم البيان على غيرها من العلوم، وسمَّتها بالعلوم المسدِّدة للفهم والتفسير، كما هو الشأن في تصنيف ابن خلدون للعلوم في كتابه المقدّمة، وتصنيف ابن حزم في كتابه مراتب العلوم، وهو الذي اعتبر قيمة العلم في الإسلام، هو ما أدَّى إلى الخلاص في الدنيا والآخرة.
وبصفةٍ عامَّة، و رغم اختلاف هذه العلوم،في البناء والمرجع،والموضوع والنسق، فإنَّ المشترك بينها هو اشتغالها على استمداد المعنى من النص.
بنية العلوم في التراث الإسلامي
لقد اشرنا أن العلوم التي نشأت في أحضان التراث العربي الإسلامي، ورغم ما تتميَّز به من التعدد،وما تحظى به من التنوُّع والاختلاف، فإنها قد نشأت انطلاقا واعتبارا من التعامل المباشر مع الوحي وهو النص.
بحيث نتج عن هذا التعامل المباشر مع النصّ الشرعي، أن قامت شبكة متكاملة من العلوم، تتداخل فيه العلوم اللغويَّة مع العلوم الشرعية، وتتفاعل فيها العلوم المقصودة لذاتها مع المقصودة لغيرها وعلوم النقل مع علوم العقل، ومن أبرزها علم اللغة والمعجم وعلم الدلالة والتصريف،وعلم أصول الفقه، وعلم أصول التفسير، وعلم القراءات لتشترك جميعا، لتحقيق هدف واحد ومشترك، وهو استمداد وتلقي، واستخلاص المعنى من النص.
المفهوم والمصطلح في العلوم الإسلاميَّة
من الجهات التي اشتغلت عليها العلوم الإسلامية في مسارها التاريخي البعيد: العناية بتحديد المفاهيم، وضبط معانيها،وتحقيق من مصطلحات العلوم، ما أفضى إلى حضور المعاجم القطاعية، فكان لكل علم معجمه الخاص به الذي يميِّزه عن غيره من العلوم، لأنَّ هذا التحقُّق من المفهوم عمل ملزم، ومسلك ملح ، واختيار ضروري، لكلِّ دارسٍ أو باحث يودّ مقاربة أيَّة ظاهرة ثقافية أو دينية أو فكرية أو تربوية أو لغوية أو فلسفية بقسميها النظري والتطبيقي، في أي علم من العلوم، أو أي تخصص من التخصصات المعرفية، باعتبار أن “لكل علم مصطلحاته الخاصَّة به”، ولغته المميزة له “وقديما قال الجاحظ ت 255ه “إنَّ لكل صناعة ألفاظ” [3] .
وممَّا أثر عن ابن حزم الأندلسي ت 456 هـ ، أنَّه اعتبر الضرر، والتراجع، والفساد الذي يلحق العلوم، ويعترض مسيرتها، ويحدُّ من تطورها وآفاقها ، عادة ما يأتي من جهة خلط المفاهيم في هذه العلوم، وتسميتها بغير أسمائها المعهودة، دون الأخذ بالمتَّفق عليها بين المتدخّلين والمشتغلين بذلك العلم، وذلك التخصُّص المعرفي، فهو يقول بصريح العبارة: “فلا شيء أعون على العلم، من تخليط الأسماء الواقعة المعاني .”.[4]
خاتمة وخلاصة
ما نستنتجه من خلال هذا العرض الموجز،أنَّ أغلب العلوم الإسلاميَّة، اختارت وجهة الفهم والبيان، وكانت له مشاركة رائدة، ومساهمة متميِّزة في وضع الأسس الناظمة للفهم،كما احتارت أن تتَّجه إلى ضبط المفاهيم، و تحقيق المصطلحات المتداولة في التخصُّصات .
[1] الفارابي ونسق العلوم في الثقافة الإسلامية للدكتور محمد وقيدي. مجلة دعوة الحق المغربية العدد:364.السنة:2002ص: 36
[2]— بنية العقل العربي للدكتور محمد الجابري:56
[3]-ا الحيوان للجاحظ: ص : 39
[4]-الإحكام في أصول الإحكام لان حزم الأندلسي :8/101.
________
*الدكتور محمد بنعمر.
*المصدر: التنويري.