الإسلام التنويري بين الأحاديَّة والتعدّديَّة
تتَّسع الدراسات الإسلاميَّة راهنا وتكتسب أبعادا وأمداء متعدِّدة في سياق تعاظم الهجوم ضدّ الإسلام والسجال بينه وبين أطراف معظمها يتحدَّر من الغرب. وفي هذا وذاك تفصح عن نفسها مشكلات ومعضلات نظريَّة جديدة، إضافة إلى أخرى قديمة؟ وهذا من طبائع الأمور. فالواقع بمثابة حالة مفتوحة، يضع أمام البشر من المهمَّات والأسئلة والتساؤلات ما يجب الإجابة عنه. وفي حال عدم الاستجابة لذلك، يحدث خلل واضطراب يتحوّلان إلى أزمة في ظروف معيَّنة قد تطرح أسئلة خطيرة، بالاعتبار التاريخي والمعرفي التأسيسي أو (الابيستيمولوجي). ولعلَّ أخطر هذه الأسئلة يتحدَّد في مثل الصيغة التالية: من أين نبدأ في تصويب الموقف، من الواقع أم من النص؟ ويمكن النظر إلى المرحلة ا لمعاصرة على انها أكثر المراحل قلقا وإثارة وإشكاليَّة في التاريخ الإسلامي عموما، والإسلامي العربي على وجه الخصوص.
فلقد رفعت العولمة معركتها مع الإسلام إلى سقفها، وذلك في سياق المهمَّة الكبرى التي وضعتها على عاتقها: تفكيك الهويَّات التي دلَّلت على أنها مثمرة تاريخيا وبنَّاءة ( مثل العقلانيَّة والتاريخيَّة والقيم الدينيَّة المستنيرة والمحفِّزة على التقدُّم البشري ) من طرف، وإحياء الهويَّات التي دَّللت على أنها معيقة للتقدُّم البشري (مثل الطائفيَّة والمذهبيَّة الدينيَّة الضيقة والاثنيَّة والعشائريَّة وغيرها) من طرفٍ آخر. وثمَّة ملاحظتان اثنتان تعمِّقان النظر إلى مانحن الآن بصدده. تقوم الملاحظة الأولى على أن العداء العولمي ( الأميريكي خصوصا ) من الإسلام هو – في أساسه – موقف عداء من الإسلام الثريّ النفطي، اي الإسلام المصالحي. وهذا بدوره يضع يدنا على قاعدة منهجيَّة مهمَّة تظهر في الشريعة كما في القانون الوضعي وهي: العقائد تتأسَّس على المصالح. وفي هذا السياق، يبرز اسم العزّبن عبدالسلام كواحد من أبرز من أسس لهذه القاعدة ونظَّر لها.
أمَّا الملاحظة الثانيَّة فتتحدَّد في أن العولمة، بلسان بعض ممثِّليها من أمثال هنتنغتون وكلاوس، إذ تضع الإسلام أمامها كهدف استراتيجي ينبغي ترويضه، فإنها تنتقي منه مايستجيب لمصالحها وظيفيا. وفي هذه الحال، تقوم بعمليَّة تلفيقيَّة وانتقائيَّة تنتج بمقتضاها مايروق لها تحت اسم “الإسلام “. فهي تبحث هنا وهناك وهنالك عن شذرات “إسلاميَّة” يطلقها بعض الإسلاميين في كتاباتهم، لتعلن أنها وضعت يدها أخيرا على ما يسوغ مقولتها الشاملة الجامعة والتي جرى تسويقها في معظم بقاع العالم، وهي مقولة”الإرهاب”. فبمقتضى هذا الأخير، يجري تقسيم البلاد والعباد إلى فريق يمارسه ( أي الإرهاب) بعد أن ينتجه، معرضا بذلك العالم إلى الاضطراب والفوضى والتحارب من طرف، وفريق آخر يدفع ضريبته في أمنه وثروته ومستقبله من طرف ثان.
والطريف الواقعي في ذلك أن تلك الشذرات “المختارة” قد تقدِّم مايرغب فيه المنافحون عن العولمة ومقولتها في الإرهاب من رؤيَّة متخلِّفة رجعيَّة عن العصر بقضاياه المختلفة من الاقتصاد إلى السياسة فالثقافة فالمرأة الخ.. وحينذاك يجري تقديم تلك الشذرات بوصفها “الإسلام” من حيث هو وفي جوهره.
إن تلك الرؤية الانتقائيَّة والملفقة للإسلام، التي تقدِّمها الايديولوجيَّة العولميَّة المؤمركة والتي تجد بعض أسسها الكبرى لدى مجموعات من المستشرقين في الغرب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تفصح عن نفسها عبر عمليتين اثنتين كلتاهما تقود إلى الأخرى. أما العمليَّة الأولى فتقوم على انتزاع الفكر الإسلامي المتكوِّن في أعقاب “فترة النزول”وفي التجادل و التثاقف معها، من سياقه التاريخي، ولصالح الرؤية الانتقائيَّة والملفَّقة المذكورة والمناهضة للفحص التاريخي، بحيث يبدو هذا الفكر وكأنه لقيط، يتحرَّك دون ضوابط ونواظم تتعلَّق بحقِّه التاريخي ومرجعيّته الفكريَّة. لكن العمليَّة الثانية تسير باتِّجاه آخر، وإن ظلَّت ذات علاقة بمسار العمليَّة الأولى. أما هذا الاتجاه فهو ذو نسيج قيَمي أي يتمثَّل بكونه حكْم قيمة. هاهنا سيقال ماقاله مستشرقون أمثال ارنست رينان ودي بور وما صاغه الشاعر كيبلينغ في المقولة التالية: الشرق شرق والغرب غرب، ولا يلتقيان. أمّا ألاّيلتقيا، فلأن كلا منهما يمثِّل “بنية”بذاتها: “البنية الغربيَّة “بعقلانيتها وات!ِساقها وانصياعها للقانون والقيم المجتمعيَّة المثمرة للتقدُّم، و”البنية الشرقيَّة” بعاطفيتها وانفلاشها وخروجها على مثل تلك الضوابط.
والمهم في ذلك أن يقال كذلك، أن البنيّة الغربيَّة تتأسَّس على الديمقراطيَّة واحترام حقوق الإنسان والإقرار بالتعدّديَّة وبالحريَّة، أي بما لا تقر به البنية الشرقيَّة، بما فيها الإسلام، وليد الشرق وصانعه، بمعنى ما في هذا المَعْقِد من المسألة نكون وجها لوجه أمام واحدة من أكبر الموضوعات، التي تحوَّلت إلى نقطة سجال بين المفكِّرين الإسلاميِّين، وبين كثير من المستشرقين والمفكِّرين والمثقَّفين العرب.
أما الموضوعة المعنيَّة فتتمثَّل في “التعدّديَّة”وفي موقف الإسلام منها ( والمقصود بالإسلام هنا النص الأصلي المعبّر عنه بالقرآن والسنة النبويَّة ). وقد جنح فريق من أولئك إلى القول بأن الإسلام “دين التوحيد”وهذا أقصى مايعرف به أو يُعرّف، مما يفضي إلى القول بأنَّ مفهوم “الحقيقة”عنده ماهو إلا تجسيد لـ “توحيديته”وعلى هذا، يصبح محالا أن ينظر إلى تلك الحقيقة مشخّصة وفق التاريخ الإنساني وشروطه ومقتضياته، لتظل متأبّيَّة على هذا التاريخ، ومن ثم ليظهر ما يبدو حقيقيا واقعيا من حيث هو وهم زائف.
في ضوء ذلك الموقف الإطلاقي والتجريدي واللاتاريخي، يكتب فهمي جدعان معلنا مايلي: تنتمي “الحقيقة” أصلا إلى عالم الأزل والأبديَّة الذي يفارق تماما وقائع التاريخ ويعلو عليه، ولا يخضع لقانون الصيرورة الصارم. وهي حين تتجسَّد في الإنسان فإنما تعانق الزمان وتحلّ فيه…والذي يقع ضحيَّة هذا التجسُّد هو الحقيقة نفسها لأنها ستفقد براءتها الأولى التي جاءتها من أفق المطلق.. إن ما حدث في تاريخ الإسلام لايشذّ عن هذه القاعدة. وإلا فكيف..نفسِّر تلك الانحرافات المتفاوتة في الخطورة والعمق التي تمَّت في عهوده وأزمنته المتباعدة فضلا عن المتقاربة؟ ويتابع الكاتب مقرّرا: “لقد قال معظم مفكِّري الإسلام المحدثين إنَّ (المسلمين ليسوا مسلمين). والكلمة صائبة تماما ولكن الأصوب أن يقال إنهم لم يكونوا ولن يكونوا مسلمين أبدا، بمعنى أنهم سيظلون دوما بعيدين عن تجسيد الإسلام – الحقيقة، أو الإسلام الوحي في التاريخ – الزمان، لأنَّ ما يدخل في الزمان لا يلبث أن تعتريه صروفه واقداره ولأن الحقيقة – الوحي تفارق عالم الإنسان وتعلو عليه” (1).
إنَّ ذلك النصّ الذي ينطلق صاحبه من موقع افلاطوني وآخر كانطي (نسبة إلى الفيلسوف الالماني كانط)، يطيح بـ”الحقيقة “وبـ “الإسلام” كليهمافي آن معا. وفي أحسن الأحوال، يرى الباحث فهمي جدعان أن الحقيقة الإسلاميَّة موجودة، ولكنها غير قابلة للتجلي والتمظهر في المستوى الإنساني، ومن ثم يغدو “التوحيد”في الإسلام توحيدا “في ذاته”، أي غير قابل لأن يكون توحيدا “لنا”نحن البشر. وحديث على “التعدّديَّة” والحال كذلك يصبح مستحيلا. ومن ضروري القول إنَّ الانطلاق من مثل ذلك “التوحيد”يفضي إلى مفهوم “العدم”، بالاعتبار الفلسفي. ذلك أن الوجود إن نُظِرَ إليه مطلقا، فهو مغلق؛ والمطلق المغلق هو بمثابة عدم لا يمكن تحديده وضبطه إلا بمعنى السلب.
واذا كان هنالك من يختزل الإسلام إلى حقيقة مطلقة بذاتها ولذاتها ومن يرى أنها تفقد “براءتها الأولى “حين تتجسَّد في الإنسان، محوّلا الإسلام على هذا الطريق إلى حالة متعالية على الوجود والإنسان، فإن اتجاها آخر انطلق من القرآن والسنَّة ليؤكِّد على أن “التوحيد”والإقرار بهما وحدهما يؤسِّسان للخلاص في حياة المسلم. فقد جاء في الآية الكريمة (رقم 48 من سورة النساء):” إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ “في هذا المستوى من المسألة يمكن التحدّث عن “توحيد”إسلامي يجمع تحت رايته كل من يعلن انتماءه للإسلام، بغض النظر عما قد يكون من اختلافات في الرأي حول نقطة أو أخرى. فهو مستوى قابل للتحقُّق في حياة البشر (المسلمين)، نظرا إلى أن حقيقة هذا التوحيد هي في متناول هؤلاء، بعكس “الحقيقة” السابقة، المطلقة التي لا مجال فيها للتشخيص والتخصيص، ومن ثم للأنسنة في حقلها. وإذا بلغنا هذه الحلقة المركزيَّة في التأسيس للتوحيد الإسلامي الذي يطال الحقلين اللاهوتي والإنساني، فإننا في الوقت ذاته – نكون قد ولجنا مستوى التعدّديَّة في “النصّ المقدَّس”. ولعلنا نرى أن هذا النص إن استنكف عن الولوغ في حياة البشر، فقد تحوَّل إلى نصّ لاهوتي تقوم العلاقة بينه وبين أولئك على سبيل السّلب. وهذا ما لا نواجهه في النصِّ القرآني الكريم عموما وخصوصا: فلقد أتى “هدى للناس”،و”دعوة للحقّ”و”إلى الصراط المستقيم”. ولما كان البشر مختلفي المصالح والأفهام، ويعيشون في مجتمعات مختلفة في التكوين الاقتصادي والسياسي والتعليمي وكذلك – بقدر أو آخر- في الأهداف القريبة والبعيدة (الاستراتيجيَّة) إلخ…، فقد غدا من الضرورة بمكان أن يأتي ذلك النصّ -الكتاب- مقرّا بتلك التعدّديَّة في الأنساق المذكورة وغيرها، كي يحافظ على مصداقيَّة كونه “أتى رحمة للناس”.
على ذلك، يستطيع الباحث التأكيد على أن الكتاب – القرآن الكريم- قدَّم نفسه عبر عمليَّة تجادل بين المطلق والزمني، والغيبي والإنساني،ومن ثم بين الوحي والتاريخ، مؤكِّدا- في هذا- على كونه “منتميا إلى السماء “، بقدر ما هو ملتصق بالأرض التصاقا كثيفا ومشخّصا. وهذا ما اقترب من ملاحظته بعض الباحثين ـ‘ ربما كان جاك بيرك من ضمنهم(2).ويظهر ذلك جليا في الآية القرآنيَّة الحصيفة التالية: ولوشاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ! وبالتوافق الوظيفي الدلالي، فقد أدرك بعض الصحابة أهميَّة ذلك النظريَّة والعمليَّة، فنبّهوا إلى أخذه بعين ا لاعتبار ضمن مفهوم “التعدديَّة”. فالخليفة الرابع يشير إلى ذلك ضمنا حين يقول: القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لاينطق، إنما يتكلم به الرجال، ومن ثم فهو”حمّال أوجه”(3). وكان الرسول الكريم قد وضع يده على فكرة التعدّديَّة، منطلقا في ذلك من فكرة”الاختلاف “ودورها في التأسيس لمفهوم “الأحاديَّة” على ضوء معمّق. فالفكرتان كلتاهما “التعدّديَّة” و”الأحاديَّة” تمثلان حالتين ضروريتين لتأسيس نسق فكري أو آخر يراد له أن يكون منفتحا غير مغلق، ومرنا غير متشدِّد. وهما – إلى ذلك تقومان على علاقة جدليَّة متضايقة تشترط الواحدة منها الثانية، بمقتضاها وفي ضوئها. ومهمّ أن يقال في – هذا السياق- إنَّ هذه الخصوصيَّة للعلاقة المذكورة تستمد مسوغها من “الحكمة الالهيَّة”، التي تقصد أن تكون التعدّديَّة تشخيصا للأحاديَّة، وأن تكون هذه الأخيرة ناظما لتلك. في هذه الحال يصح القول إنَّ مرجعيَّة “الأحاديَّة” تكمن في مبدأ التوحيد الإسلامي (وهو المبدأ الأقصى والكوجيتو المنهجي والنظري)، في حين تكمن مرجعيَّة “التعدديَّة”في المجتمع الإنساني، في الجماعة الإسلاميَّة، بما ينشأ فيها وعنها من مشكلات اقتصاديَّة وسياسيَّة وثقافيَّة وتعليميَّة وغيرها، مع الاشارة إلى وجود حالة نسبيَّة من انغماس المقدَّس في البشري العادي وبشخص النبوَّة. وهاهنا يظهر المأثور النبوي في صيغة مكثَّفة لافتة، حين يؤكِّد النبي الكريم على ضرورة معرفة واقع الحال المحدد والمفصّل، الذي يعيشه أعضاء الجماعة المذكورة، كي لا يبقى المرء في حالة عامَّة من النصوص العموميَّة والإجماليَّة. وهذا يقود إلى الآليَّات التي بواسطتها يمكن بلوغ ذلك “المحدَّد والمفصَّل”، ونعني بذلك”الاجتهاد” و”التأويل”وربما كذلك “التفسير”. فالحديث النبوي الشهير بـ “حديث الرُويْبضة”يوضح من هو ذلك المسلم، الذي يكتفي بالمبادئ والجمل والشعارات العامَّة، مهملا ما يمسّ الخصوصيات التي تهمّ الناس، وتصنع جانبا هاما من تاريخهم (4).
* * *
نصل الآن إلى نقطة دقيقة من مسألة “التعدّديَّة “في الأصل الإسلامي (القرآن والسنة)، وتظهر في مستويين اثنين. أما المستوى الأول فيفصح عن نفسه بصيغة العلاقة بين المذاهب المختلفة في الإسلام نفسه كمنظومة من المبادئ والاعتقادات وسواه من المنظومات الدينيَّة وغير الدينيَّة. ها هنا نواجه وضوحا مقطوعا به حين يعلن القرآن أن الله ذاته لم يشأ أن يجعل ” الناس أمة واحدة” بمبادئ عامَّة واحدة وبأفهام متماثلة وبمصالح متطابقة. ويقدِّم فخر الدين الرازي تعليلا دقيقا وطريفا لهذه “المشيئة الربانيَّة”،فيقول:”لو كان القرآن محكما بالكليَّة، لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلا لكل ماسوى هذا المذهب. وذلك ماينفر أرباب المذاهب عن قبوله والنظر فيه “(6).. ونحن نرى تلك الاختلافات ضمن الإسلام ذاته ماثلة في مصدرين اثنين، واحد معرفي يتجسَّد في درجة التقدُّم المعرفي العلمي لدى الشخص المسلم صاحب العلاقة ؛ وآخر يتجلَّى في المصالح الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة وغيرها في حياة هذا الأخير.
أما المستوى الثاني فيعلن عن نفسه في العلاقة بين الإسلام وغيره من الأديان والمذاهب. فاذا كان المستوى الأول يتعلَّق بالنسق الواحد ذاته بحيث يظهر حوارا مع الذات، فإن المستوى الثاني هو بمثابة حوار بين الذات والآخر. وهنا يلح القرآن على أن ما يحتكم الناس إليه وهو العقل، هو نفسه المعيار المنهجي لمصداقيَّة “الآخر”. وبذلك تبرز الدعوة لحوار عقلي مع الجميع للوصول إلى “كلمة سواء”تلتقي عليها الأطراف المتقاطبة. فمعرفة الاختلاف والإقرار به يمثلان مدخلا إلى الحوار،على أساس من النديَّة والاحترام. وحين يظهر “الرشد من الغيّ”، يغدو لزاما على الجميع أن يقرّوا بالنتائج الصائبة ويدفعوا بها إلى الأمام في سبيل تقدُّم البشريَّة ونمائها. ولما كان التقدُّم في العلم والمعرفة مفتوحا، فقد تعيّن على من قارب الصواب والحقيقة في مرحلة أو لحظة ما من التاريخ أن يدقِّق ثانية في مواقعه عمقا وسطحا؛ إذ لعلها أو لعل بعضها قد جرى تجاوزه وغدا غير قادر على الاستجابة لمقتضيات ذلك التقدُّم دونما عنت أو تشدُّد أو ممانعة؛ ذلك لأن “الحكمة ضالة المؤمن”في ضوء مبدأ تغيّر الأحكام بتغيُّر الأزمان.
وإذا ميّزنا بين “الإسلام”و”الفكر الإسلامي” فقد تعيّن على منتجي هذا الأخير من مفِّكرين وفقهاء ومجتهدين أن يكونوا أكثر تواضعا في إنتاجهم الفكري. إذ كما كان أسلافهم رجالا، فهم كذلك رجال لا يصح وضعهم فوق الشكّ المعرفي والنقد والمراجعة. بل هنالك من يرى ضرورة النظر العقلي النقدي لكل ما يصدر عن “الدين”و”الفكر الديني”بهدف التعميق أولا، وتقريبه من الآخر بكيفيَّة عقليَّة مرنة ثانيا. لكن واقع الحال التاريخي يقدِّم صورة تختلف، بقدر أو بآخر،عن ذلك المطلب التاريخي النقدي. فلقد نشأت أوضاع اجتماعيَّة وسوسيوثقافيَّة وأخلاقيَّة ومعرفيَّة أسهمت في تراجع الإبداع العقلي في النظر إلى العلاقة بين الأحاديَّة والتعدّديَّة. وكان ذلك بمثابة التأكيد المضخّم على الأحاديَّة على حساب التعدّديَّة؛ مما أوقف عمليَّة ضخ الدماء النقيَّة والاستفزازات المحفزة على التجدد واعادة النظر والبناء:لقد رفض الاختلاف في الرأي ضمن الإسلام ذاته، وترهل الحوار بين الإسلام والآخرين من دعاة التيارات السوسيولوجيَّة والفلسفيَّة والأخلاقيَّة؛ بل لعله تحوَّل أحيانا إلى صراع مفتوح قطفت ثماره العجفاء نخب فقهيَّة دينيَّة وأخرى علمانيَّة، حيث حوَّلته إلى فزّاعة في وجه القوى المستنيرة الحيَّة في الوطن.
وكذلك ثمَّة مسألة ذات مساس مباشر وعميق بمحور العلاقة بين الأحاديَّة والتعدُّديَّة في الإسلام، وهي مسألة القراءات المتعدِّدة أو التعدّديَّة القرائيَّة فمن موقع كون النصّ القرآني قائما في بنية تستدعي التأويل في أحوال غير ضئيلة بل نطالب كذلك بالتوجّه إليها تأويليا كي تُفهم مقاصدها الدقيقة (6)‘ فإن احتمال وجود عدة قراءات لمسألة واحدة أصبح واردا. وقد أشرنا فيما سبق إلى أن تلقف النص القرآني لدى قارئه يتمّ عادة عبر قناتين اثنتين ‘ على الأقل، هما قناة المستوى الفهمي المعرفي. وقناة المصالح التي تسوّغها الايديولوجيا، إضافة إلى القناة التي يظهر فيها المستوى النفسي والأخلاقي والاثني. في هذه الحال يصح القول إنَّ كل القراءات، التي تنطلق من الإسلام ويعلن أصحابها انتماءهم له، تمتلك حدّا معينا من الشرعيَّة النصيَّة؛ بمعنى أنها تجد في الإسلام عموما وفي النص القرآني بنحو خاص مرجعيتها. وهنا لا تصحّ المفاضلة بينها.
لكن تلك القراءات اذا ما وضعت في مستوى النظر الابيستيمولوجي (المعرفي التأسيسي)، فإنها تجد نفسها أما السؤال التالي: أي منها لديه القدرة على تحقيق الاستجابة لشرائط التقدُّم العلمي والمعرفي، وكذلك على صعيد الاستجابة لحياة الناس الماديَّة الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة وغيرها ؟ها هنا نجد أنفسنا أمام سؤال المصداقيَّة المعرفيَّة والاجتماعيَّة التاريخيَّة. وهنا تبرز الأفضليَّة بين تلك القراءات، وإذا قلنا إن أقل هذه الأخيرة استجابة لتلك المصداقيَّة هي التي ترفض التعدّديَّة لصالح أحاديَّة قطْعيَّة وحيدة الجانب ومفعمة بالتكفير والتشدُّد ورفض التسامح، في حين إن أكثرها استجابة للمصداقيَّة المذكورة هي التي تنظر للأحاديَّة والتعدُّديَّة من حيث هما وجهان اثنان لموقف واحد مؤسّس على العقل واحترام الآخر من كل الأطراف، وعلى التسامح والدعوة المفتوحة لحوار عقلاني ديمقراطي مستنير (7) وجها لوجه أمام السؤال المحوري التالي: إذا كان الإسلام على ذلك النحو، أي يتضمَّن إمكانيَّة أن يُقرأ بمقتضى مبدأ التعدُّديَّة القرائيَّة أولا، وبإقرار بوجود “قراءة تؤسّس على شرائط الدعوة للاعتراف بالآخر ثانيا بكل ما يستدعيه هذه الاعتراف من المساواة، وبتأكيد على أولويَّة القراءة العقليَّة المنغمسة في مصالح البشر المتغيِّرة ثالثا،ويفتح باب المشاركة في انتاج هذه القراءة من قبل اللاحقين كما هو الحال بالنسبة إلى السابقين رابعا، وباحترام الخلاف والاختلاف مع ذوي العقائد الدينيَّة والوضعيَّة الأخرى خامسا؛ نقول: إذا كان الأمر كذلك، فإن المجازفة بالقول بأن هذا الإسلام، على الأقل، لا يقف عثرة في وجه اثنين من استحقاقات المرحلة العربيَّة والإسلاميَّة الراهنة وربما كذلك ما يأتي بعدها من مراحل. أما الاستحقاق الأول فيتمثَّل في الدعوة إلى الديمقراطيَّة، بما تنطوي عليه من مبادئ الحريَّة والتداول السلمي للسلطة وتكوين مجتمع سياسي ومدني متَّسم بحراك سياسي وثقافي مفتوح. ويأتي الاستحقاق الثاني ليفصح عن نفسه بصيغة الدعوة إلى العقلانيَّة والحداثة والمشاركة العالميَّة في صوغ عالم إنساني جديد.
ان ذلك مجتمِعا يدعو إلى القول بان هاجس التنوير والاستنارة كامن في نسيج الإسلام المذكور.ففي أخْذه بالتعدديَّة والحريَّة المفتوحة المضبوطة، اضافة إلى تأكيده على انسانيَّة الإنسانيَّة واحترامها والدفاع عنها ضمن رؤيَّة منغمسة في الأرض كما في السماء. في ذلك كله مايدعونا إلى الخلوص لاستنباط أولي حاسم، هو أن الإسلام المقروء على هذا النحو المتقدّم إنما هو ايديولوجيا تنويريَّة لا تجد غضاضة في التشارك مع الآخرين ممَّن يحملون هذا الموقف ويدافعون عنه (8).
هوامش وإحالات:
1- فهمي جدعان – أسس التقدّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، بيروت 1979، ص 46-50.
2- انظر جاك بيرك – حينما كنت أعيد قراءة القرآن، ترجمة وائل غالي، ضمن مجلة (القاهرة، سبتمبر/ايلول 1995، ص34).
3- تاريخ الطبري- جزء 5، دار المعارف بمصر 1963 ص 66.
4- جاء في الاعتصام للشاطبي (تعريف محمد رشيد رضابجزئين،الجزء الثاني،مصر، ص (173-174) أن النبي (ص) قال:”قبل الساعة سنون خداعا، يصدق فيهن الكاذب ويكذب فيهن الصادق، ويخون فيهن ا لأمين، ويؤتمن الخائن وينطق فيها الرويضبة – قالوا هو الرجل التافه الحقير في امور العامة “.
5- فخر الدين الرازي – تفسير، الجزء الثاني، ص 107.وفي هذا السياق، يرى طه حسين أنه “لا غرابة في أن تختلف مذاهب القوم في القرآن باختلاف الموضوعات وباختلاف المقامات ايضا، إنما الغرابة في مذهب واحد”.(طه حسين: مرآة الإسلام،ط4، القاهرة،ص105). ولعلنا نورد في هذا الحقل،أن عليا بن ابي طالب كان يأخذ على الصحابي ابن عباس أنه يحاجج خصومه (أي خصوم علي من الخوارج) بالقرآن،ويدعوه إلى غير ذلك:”فخاصمهم ولا تحاججهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسنة “.(ضمن السيوطي – الاتقان في علوم القرآن، بيروت1979،ج1، ص 51).
6- يتَّضح ذلك خصوصا من “آية التأويل”التي يبرز التأويل فيها ذا طابع إشكالي بسبب الاختلاف في إعراب حرف “الواو” فيها: لايعلم تأويله إلا الله، و الراسخون في العلم يقولون آمنا! انظر حول ذلك: طيب تيزيني: النص القرآني أمام إشكاليَّة البنيَّة والقراءة – دمشق، دار الينابيع 1997، ص235- 261.
7- انظر كيفيَّة تصيّر الشريعة معرفة مؤرقة حافزة على التقدُّم عموما:
8- De Boer –Geschichte der Philosophie im Islam, Stuttgart 1901, s.40.
9- انظر في ذلك: طيب تيزيني – بيان في النهضة والتنوير- دار الفارابي، عام 2005،وكذلك مقالة Kant الشهيرة بعنوان:Was ist Aufkl?rung.
____________
* نشرة مركز ابن رشد/ الراصد التنويري (العدد 2) أيلول/ سبتمبر 2008.
*المصدر: التنويري.