الأب قارئا.. “ما معنى أن تمتلك أبا قارئا؟”
“كنت أقضي وقتي كله حبيسا في البيت مع الكتاب”، عبارة للويس خورخي بورخيس، نقتبسها لنقارب بها العلاقة الوشيجة التي تجمعنا مع الكتاب، ونقول: إنَّها تولَّدت فينا حينما كنا صغارا، وأتذكّرها أساسا في قصة لي مع أبي حينما كان ينظف كتبه، وأنا في سن الثامنة، خبّرته طلبا أن يقدِّم لي كتابا لألعب فيه لا لأقرأه، فردّ بنبرة يشملها التفاؤل، ستكبر وستكون لك كلها، لم أكن على وعي ودراية بهذا الكلام، ولما فيه من مباهج مستقبليَّة، تحمل البشارة بأنني سأكون يوما قارئا، وأتمنى يوما من الأيام أن أكون قارئا، هو التمنِّي الذي يرافقني دائما ويلازمني حينما سمعته من أستاذي خالد بلقاسم، ضحكت وفرحت كثيرا، وشدَّتني بعض حبال الحلم كأنهَّا ربَّتت على كتفي بأنني مُوكلُ لمعانقةِ مطمحٍ قد أكون فيه قارئا عميقا، أتحاور مع الكتب سامعا نقيرها، ومعتكفا على الكتابة سامعا صرير أقلامي، وهأنذا أُقَدِّرُ القراءة وأحترمها وأُعَظِّمُها تعظيما، أمست البلاء الذي لا أستطيع مفارقته، أشتهي المكتبات بكتبها، وإن كنت لا أحبّ الذهاب إليها، أُلح دائما على البقاء وحيدا أثناء القراءة، لقد علَّمني أبي أن القراءة وطلب العلم من الضروريَّات في الحياة، ووَصْلُ هذا بنفسي، وأعوذ بالله من نفسي، أنني وجدت في عوالم الحرف ما لم أجده في شخص معين، والذي أعانني بعد الله على هذا التشابك والتبحُّر في نهر القراءة الكبير هو أبٌ قارئ عاشق للكتب.
ما زال أبي حتى الآن يسألني عن جديد مقالاتي وكتاباتي، ويتَّصل بي كم مقالا نشرت؟ وما موضوعه؟ يرشدني وينصحني على التعريف ببعض الأعلام بالكتابة عنهم، والذين لا تعرفهم عامَّة الناس، وجَعْلِ الناس تقترب منهم ليتعرَّفوا على منجزاتهم الفكريَّة أو الأدبيَّة أو الفقهيَّة، كان أبي نِعمَ المرافق الدائم للمنجزات البحثيَّة التي أنجزها، ورغم إعالته لأسرتي، فإنه يصرّ على الاهتمام بدراستنا، يردِّد دائما اقرأ واهتمّ بدراستك واترك هَمَّ الحياة ومشاغلها وشواغلها، ولا تُشغِل بالك كثيرا، فأنا قادر على تلبية مطالبك وحاجاتك، ما دمت على قيد الحياة، وكان الأَمرُ نفسه يصلني من أمي، بأن أباك يوصيك بعدم حَملِ ثقلنا والتفكير فينا، دعك ممَّا يشوِّش عليك وعلى دراستك. كلها دوافعٌ حملتني على المواصلة والسهر للاقتراب من مساعي المشروعة، إنَّ أبي إذا ما وجد شيئا قد ينفعني في بحثي يخبرني به، لا يَكَلُّ ولا يمَلُّ أبدًا من القراءة، أتذكَّر أنني كنت أشاهده في أحايين كثيرة أوان عودته من العمل، فبعد استراحته قليلا وتناوله لبلغة تسدّ جوعه، يأخذ كتابا يلامسه ويقرأ فيه ويطالع بعض صفحاته، رغم شدة عيائه وتعبه، يظلّ مع الكتاب إلى أن يداعبه النعاس. يفرح بكل ما أكتب ويشجّعني، ولا يقيّدني على اتباع تخصُّص معيّن أقرأ فيه، يؤمن بأنّ العلم لعب حُرٌ، لا تحكمه سلفيَّة ولا مذهبيَّة، يقول اقرأ في كل شيء، وانتفع مما تقرأ، وهي عبارة للعقاد تعجبه كثيرا، فيردّدها لي في أحاديثنا، يؤمن بأن العلم مشترك إنساني، غير خاصٍ بوجهة معينة. الجاهلون هم من يتعصَّبون لفئة دون أخرى، ويقرأون لهؤلاء وينفرون من هؤلاء، لا تفاضلات بين الأمم في نشر المعرفة، فالتعصُّب عنده في العلم مصيبة إنسانيَّة. كنت أخوض معه في نقاشات جدّيَّة ومُسليَّة عن الفرق الكلاميَّة، والمذاهب الفلسفيَّة، وعن الكُتَّاب الذين منعت كُتبهم وأُحرقت، وتمّ اغتيالهم، ومعارف أخرى، أجده أبا متمكّنا وعارفا أكثر مني، وطبعا أبي ليس بأستاذ، حتى لا يظن القارئ أن الأمر يسيرٌ أن يحدث، يشدّني كلامه إلى المزيد من القراءة والبحث والاستقصاء، في مجالات الدراية والرواية، حتى في سنوات الإجازة، كان يتَّصل بي ليخبرني بمستجدٍّ معرفي، أو ليستفسر عن مسألة معينة، كان الأب والمعلِّم في آن.
التواشج مع الكتاب ومصاحبته، أمرٌ عاينته من أب قارئ، يعيش بالقراءة، ويردِّد في كلامه دائما اقرأ وستصل، لا تفارقه القراءة أبدا، يقول: اقرأ ولو صفحة في اليوم، ورغم ظروف عمله ورعايته للأسرة فإنّه شديد التعالق مع الكتاب، فهو جزء رئيس من أساسيات يومه، إذا خرج إلى العمل يحمل معه كتبه، حتى في الراحة يرتاح مع الكتاب، لدرجة أنَّه لقب بدارجة المغربيَّة، “بمول لكتوبا”، من قبل زملائه في العمل، ومعناها رفيق الكتب، أو متأبِّط الكتب، صَادَفَتهُ مواقفَ مع أشخاص، أساتذة ودكاترة ومثقفين، تعجَّبوا من موسوعيته، ومن تمكّنه في اللغتين العربيَّة والفرنسيَّة رغم خروجه من المدرسة وعدم إكمال دراسته، حتى سنة 2015م التي اجتاز فيها باكالوريا حرَّة، فنجح في الحصول عليها، وإذا ما سألته عن سر ِّكفاحه في طلب العلم، وتقديم يد العون لمن يسعون في طلبه، يجيب قائلا: إنه يريد أن يكون عبرة للذين يسأمون من الدراسة، ويحتقرونها، ولا يستطيعون مواجهة صعابها.
يتجاذب مع من يصادفهم أطراف الحديث، ويتناقش معهم في مجالات متعدِّدة ومتباينة، كان دائما ما يقول لنا: لا عطلة ولا راحة في أمرين، القراءة والعبادة، نتلمس من عبارته أنَّ القراءة بمثابة العبادة، هما أمران متشاكلان متشابكان ومترابطان متناسبان، يتشابهان في منزلتهما وحظوتهما الربانيَّة، لأنهَّ لا يصحّ أساسا أن تعبد الله عن جهل، ولا تصحّ معرفةٌ وقراءةٌ لا تقودك ولا توصلك إلى اكتشاف الله تعالى، فقد خُصّصت جميع أحاسيس الإنسان لغاية واحدة، وهي إدراك حقيقة الله تعالى، وفي صيغتها التركيبيَّة تتعدَّى إلى مفعول واحد، ويتناسب هذا مع تخصيص الإدراكات لإدراك حقيقة واحدة، هي حقيقة عظمة الله تعالى، إنَّ حواس الإنسان وكل ما يتعلَّق بذاته يرتبط بعلَّة غائيَّة، هي التطلُّع إلى حقائق وبدائع الباري تعالى. فالقراءة والعبادة وفق هذا، أمران لا يفترقان، يقودان الإنسان إلى التجوّل في عوالم الكون، عالم اللاهوت (الله)، والناسوت (الإنسان)، والملكوت (الملائكة، والجن)، وهذا ما تعلّمته من أبي، الذي لا يسأم من المعرفة والقراءة والعبادة، وأَنعِم بها من حياة أن تتعلَّق بالعبادة والقراءة، والخوض في غمار مطالبة العلم بشتى مناحيه.
عدم السأم من القراءة، لامسته من أب قارئ محبّ للقراءة، ولا أقصد بالقراءة القراءة الملازمة للتمنِّي، بعبارة أتمنَّى أن أكون قارئا، التي حدَّدناها في مقالة: “القراءة لَعِبٌ قرائي خلاق”، أن تكون قارئا، فإنك تحتاج إلى خلفيَّة معرفيَّة لتمتاز بتلك الصفة، أو ينبغي تجد فيك القراءة بعض أسرارها المنتمية إلى نهرها الفيَّاض والكبير.
أظلّ الآن في بيتي حبيسا مع الكتاب، وعبارة بورخيس هاته، متناسبة مع ما أعيشه وأسايره يوميا، أطالع الكتاب كل مرَّة، وأنا جالس أفتِّش فيه، وأنا ذاهب لقضاء حاجة، أحمل هاتفي وأقرأ صفحات من كتاب رقمي، عندي يقين تام أنه لن يستطيع أحد أن يعوِّض مكان الكتاب والقراءة في حياتي، لا أَكَلُّ ولا أَمَلُّ منهما، فأن تقرأ معناه أن تحيا، ومعناه أن تواجه كآبة العالم وجهله، حرف واحد تصفع به وجوها عديدة من الخبث والرداءة، إنَّنا نطهِّر قلوبنا بالعبادة، ونظهر عقولنا بمجاورة الأوراق والالتصاق بها، كنت أحتمي بأمِّي أيام الأحضان والحنان، أما الآن فأحمي نفسي من الجهل بمصافحة الكتب وملامستها، لا أتحقَّق من وجودي وذاتي إلا حينما أكون بينها، تحيط بي لتحمني من عالم مليء باليأس، تقيني من مساءة ودناءة الحياة الروتينيَّة، تجعلني أنسى ما أعيشه من القذارة كل يوم.
القراءة ورطة أسعفني وساعدني على معرفتها والتأقلم معها أبي أطال الله في عمره، وهذا هو سرّ عنونة الورقة بـ”بالأب قارئا”، لأنه أسهم بشكل كبير في تقريبي من عوالم الحرف لا متناهية. ورطة القراءة أصعب شيء يمكنك تجاوزه والتآلف معه، وردت في مرايا القراءة لخالد بلقاسم، عبارة على النحو التالي: “القراءة ورطة غريبة لا خارج لها”. بالإنصات للعبارة، نسمع صدى يمتدُّ ويتوارد ولا ينتهي، صدى تظهر أهمّيته في أنّه يعسر على القرّاء الذين عثرَت فيهم القراءةُ على بعض أسرارها، الخروج من عوالمهما اللامتناهيَّة وامتداداتها المتجدّدة، لأنهم وهُم يقرأون ويكتبون ينتسبون إلى العُمق، ويستأنسون بالمرح، وباللعب القرائيّ الخلاق. أنْ يكون المرءُ قارئًا معناه أن يكون حيًّا. وأن يمتلك المرء أبا قارئا ومحبّا للقراءة معناه أن يكون محظوظا وسعيدا وبهيجا، فالقراءة مُضيئةٌ لأسرار الحياة وتجلياتها وتشابكاتها ومساراتها وعوالمها، القراءة وَفق ما تردّد على لسان أبي عَلامَةٌ تضيء طريقك المعتم أينما حللت وارتحلت.
وفي الختام نعيدُ ما قاله بلقاسم في مراياه، في وصْلِه للقراءة بالحياة ذاتها: “القراءة تشفي وتُعلّ، تُبهجُ وتُصيب بالاكتئاب، تُضْحِكُ وتُبكي، تُعطي وتمنع، تَفتح وتُغلق، تُوسِّعُ وتُضيّق، تُحيي وتميت”ص247، فكل ما في الحياة من مسائل وقضايا يوجد في القراءة، تشفينا من أمراض الرداءة، وتُعلّنا من القلق المعرفي الذي نشعر به، وتبهجنا حينما تسعفنا على الكتابة، وتصيبنا بالاكتئاب حينما نولد في مكان لا صلة له بالقراءة، وتضحكنا في التفاعل معها، وتبكينا إذا ما بلغنا من الكبر عتيا ولن نستطيع الاقتراب منها، وتعطينا مباهج الحياة، وتمنعنا من السقوط في الضلالة، وتُوسِّعُ مداركنا وتصوراتنا، وتُضيّق مساحة اليأس والسأم، وتحيينا بما فيها من أسرار الحياة وتعايشاتها، وتميتنا إذا لم نستطع النجاة من ورطتها التي لا خارج منها، إنني وجدت الأب متعلّقا بالكتب، فسرَّني ذلك كثيرا، وأن تمتلك أبا قارئا معناه أن تتَّضح أمامك مرايا المستقبل، وأفضل مكان يمكن أن ترى فيه نفسك، وأن تكتشف فيه سنن الوجود هو تعلّقك بالكتاب، لا نملك شيئا نغامر من أجل تحقيقه إلا الجهاد في سبيل المعرفة، والتعلّق بالكتب تعلّقا شديدا، فلي معها وشاجة معقّدة يصعب فكّها، وأذكر دون تعليق قول لويس خورخي بورخيس: “فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أما أنا فأفخر بتلك التي قرأت”.