اجتماعالمقالات

استلاب واغتراب العامل عند كارل ماركس

العمَّال

فيما يتمثل استلاب العامل بالنسبة لكارل ماركس؟ هذا السؤال هو منطلق مقالنا المقتضب، وللإجابة عنه، عُدْتُ إلى المخطوط الأول من “مخطوطات 1844 Manuscrits de 1844” لكارل ماركس، هذه المخطوطات تعبِّر عن تصور هذا الفيلسوف المستقبلي وهو في قمَّة شبابه، كتبها حينما كان مقيماً بشكل مؤقَّت في “باريس”، وتشكِّل عصارة موقفه من “العمل بوصفه اِسْتِلاَبٌ وَاِغْتِرَابٌ”، كما تعرض موقفه النقدي للنظام الرأسمالي المتوحِّش الذي لم يكن يهمه آنذاك سوى الربح، ولا ينظر البتة  للطبقة البروليتارية، ولهذا جاء هذا المقال الموجز لعرض أسهم النقد الماركسي الشاب للعمل واستلابه للعامل.

من هو كارل ماركس؟

كارل ماركس Karl Marx  (1883-1818) : فيلسوف ألماني، وعالم اقتصاد، أو منظِّر اقتصادي ألماني، بدأ مشواره الفلسفي أو كارل ماركس الشاب بانتقاد وقلب تصور هيجل المثالي، ويعد عمله: “المخطوطات 1844” بمثابة دليل على انتمائه إلى “اليسار الهيجلي”، خاصَّة أنَّه كان متأثِّراً ووفياً لأفكار وتصورات فويرباخ والذي يعد أحد أبرز رواد “الشباب اليساريين الهيجليين”، لكن كارل ماركس سرعان ما سينقلب ويقطع بالمرة مع “اليساريين الهيجليين الشباب”، بل وسيتخلى أو يقطع مع معظم أفكار فويرباخ، خاصة بعد لقائه مع صديقه الذي تحول إلى توأمه الروحي، فريدريك إنجلز، والذي يحتاج بدوره إلى تعريف خاص به، ووقفة عند مجمل أفكاره، لأنه لا يمكن فهم ماركس بدون إنجلز، كما لا يمكن فهم هذا الأخير، بدون أفكار كارل ماركس، إنهما توأمان فلسفيان وفكريان، أي أنّهما فكَّرا معا، بنفس الكيفية، ووفق نفس المنهج والغاية، ولهذا سيؤلف معه عملاً أو أعمالاً مشتركة، لعل أبرزها: “الأيديولوجية الألمانية” 1846، تمحورت فلسفة كارل ماركس في الحقيقة، حول الديالكتيك (الجدل) والذي استعاره من الفيلسوف الألماني “هيجل”، لكن “كارل ماركس” استعمله كمنهج أو كطريقة عمل من أجل فهم الواقع الحقيقي للأفراد داخل المجتمع، والوعي، والمعرفة، والتاريخ، والاقتصاد، والدين، … إلى آخره، لكن حدث ذلك بعدما قام بتأسيسه وتأصيله على تصور مادي-جدلي، وذلك من أجل اسقاطه على جميع الميادين، ذلك أن التاريخ البشري تَشْرِطُهُ عوامل مادية صِرفَةٌ ذي طابع إنتاجي، أي اقتصادي-مالي-سياسي-اجتماعي، فالإنسان في حقيقته الثابتة، بغض النظر عن كونه كائنا عاقلا، إلا أنه كائن منتج، أي ينتج عملاً-شغلاً، هذا العمل-الشغل هو الذي ينتج شروطه المادية لواقعه وحياته المعيشة، لكن يعيش هذا الإنسان في كومة من التناقضات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والدينية والتاريخية، …إلى آخره، تجعل هذا الإنسان-العامل-المنتج يعيش حالة “استيلاب” و “اغتراب” في ما ينتجه ويعمله من عمل، كل هذه الأفكار الماركسية وأخرى، جعلت من ماركس أفيون المفكرين، وألهمت أفكاره الحركة الشيوعية والثورة الروسية الأولى سنة 1905م، بل حتى الثورة البلشفية لسنة 1917م، ونقول مع كثير من التحوط والتأفف، أن كارل ماركس أصبح ملهم الثورات وأبوها الروحي، فلا نجد ثورة إلا وتحمل في طياتها أبرز أفكاره، لن نطيل الكلام عن حياته، لأننا قد نكتب كتابا دون أن ننتهي من سيرته الذاتية البتة، أما عن أبرز مؤلفاته نجد: “مساهمة في نقد فلسفة القانون عند هيجل” (1844)، “الأيديولوجية الألمانية” (عمل مشترك مع فريدريك إنجلز 1846)، “رأس المال بجميع أجزائه” (1867-1894 الأجزاء الأخيرة كتبها وعدلها ونقحها ونشرها فريدريك إنجلز)، “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”.

تصور كارل ماركس للعمل:

بادئ ذي بدء، يمكن تحديد العمل من الناحية الفلسفية بكونه: “سيرورة أو عملية علائقية بينذاتية بين الإنسان والطبيعة” من أجل إنتاج أثر نفعي، ويعتبر الانسان الكائن الوحيد الذي يعمل حسب كانط، عكس الكائنات الأخرى التي لا تعمل، لكن لماركس تعريف خاص به للعمل، يقول فيه: “إن العمل كما يقول علماء الاقتصاد السياسي هو مصدر كل ثروة. (…)، إنه الشرط الأساسي الأول لكل حياة إنسانية، وهو كذلك إلى درجة أنه يتعين علينا أن نقول بمعنى ما: إن العمل قد خلق الإنسان بالذات.”، ولاحظوا معي التحول المفهومي والدلالي للشغل بين كل من كانط وكارل ماركس، إن كان كانط قد اعتبر أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعمل، فإن ماركس اعتبر أن العمل شرط ضروري للحياة الواقعية للأفراد داخل المجتمع، والعمل سيرورة متفاعلة دائمة مع الطبيعة، وذلك من خلال المسار التطوري للتاريخ الإنساني، لهذا عبر ماركس قائلاً: “إن تاريخ المجتمعات ليس هو تاريخ ما تُنْتِجُهُ، وإنما هو تاريخ كيفية إنتاجها له.”، لكن لا ننكر أن كارل ماركس من داخل متنه الفلسفي، يعترف بالأطروحة الديكارتية الشهيرة، تلك المتعلقة بترويض الطبيعة، وحملها على خدمة أغراض الإنسان، وتغيير الطبيعة من أجل السيطرة عليها، وإخضاعها لقضاء أغراضه الشخصية، لكن لا غرابة في أن نجد هذا التصور لدى ماركس الشاب في مسوداته لسنة 1844م، لأن تطويع الطبيعة عن طريق العمل، لأن هذا الأخير هو جهد جهيدٌ منظم يمارسه الإنسان بكل عقلانية. كما أن أعمال صديقه فريدريك إنجلز، نجده يدافع عن نفس الفكرة الديكارتية-الماركسية، الداعية إلى علاقة الإنسان بالطبيعة بكونها علاقة سيادة. وهذه حقيقة تاريخية محضة لا غبار عليها، ويعترف ماركس بالعمل المنتج من قبل الإنسان كحقيقة تاريخية للعالم أيضاً. لكن ما ينتقده أو ما يعيبه عليه، هو بيع العامل لقوة عمله للغير مقابل أجر زهيد، إنه بمثابة بيع لفاعلية الإنسان ونشاطه الحيوي الرغيد.

“إن نقطة انطلاقنا هي العمل في صورة خاصة بالإنسان لا غير.”

“فالنتيجة التي ينتهي إليها العمل توجد، من قبل بصيغة نظرية، في مخيلة العامل.”

“إن [العامل] يحقق بذلك، في نفس الوقت، هدفه الذي يعيه، والذي يُحَدَّدُ -كما لو كان قانوناً- طريقة تأثيره على العامل؛ والذي يجب أن يُخْضِعَ له إرادته. (…)، لأن العمل يقتضي طيلة المدة التي يستغرقها (…) انتباها متواصلا لا يمكن أن ينتج إلا عن توتر مستمر للإرادة.” [1]

هذا التوتر المتصل للإرادة هو ما يفقد العامل فعاليته الخلاقة ونشاطه الحيوي.

“إن مملكة الحرية لا تبدأ في الواقع إلا حيثما ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية.”

“توجد [مملكة الحرية] خارج دائرة الإنتاج المادي ذاته.”

العامل يستسلم للعمل الذي ينتجه، بشكل أعمى، يجعله هذا الاستسلام خاضعا للعمل، ويفقده حريته، ويوسع من استيلابه وبالتالي اغترابه.

هناك علاقة جدلية في المتن الماركسي بين العمل أو العامل ومملكة الحرية الحقيقية التي لا تنفصل البتة عن مملكة الضرورة.

فالحرية بالنسبة لكارل ماركس تبتدأ خارج سيرورة “دائرة الإنتاج”.

لهذا اعتبر صديق ماركس فريدريك إنجلز، العمل بجميع أنواعه، شكلاً أو مظهراً من مظاهر الاستيلاب والتعذيب والاغتراب، إن العمل بالنسبة للعامل عذاب شديد أليم، أشد هولاً، وأكثر إذلالاً لكرامة العامل الإنسانية، لهذا كان متأكداً، أقصد فريدريك إنجلز، من الكراهية والحقد الدفين الذي يتشكل لدى العامل، أثناء سيرورة العمل، لأنه وبكل بساطة يشعر بالحقد والكراهية المتأصلة فيه، والتي سببها الشعور بالقهر، العامل مقهور، متهتك، ميؤوس منه، يشعر دائما بالفقر والكدح، لهذا يشتغل العامل من أجل المال وفقط، إنه يعمل لأنه مكره لا مخير، مجبر على ذلك، كما أن العمل طويل الأمد، قد يعمل المرء نصف حياته أو أكثر، ومن مميزات العمل الأخرى الرتابة والتكرار والنمطية، والنسقية، إن العمل عذاب حقيقي للعامل، يفقده أهم شيء هي كرامته الإنسانية.

لا حياة توجد في العمل، فهو ليس بحيوي البتة، إنه ثابت لا يتحرك، ساكن، سيرورة ميكانيكية آلية مملة، ويبقى العمل كما هو بالنسبة للعامل، إنه ثابت وساكن ومتمركز حول ذاته، يبقى كما هو طيلة سنوات العمل العجاف.

ينتقد ماركس وإنجلز العمل مدة اثني أو إحدى أو عشرة ساعات في اليوم، حتى ثمان سعات في اليوم المعمول بها حالياً يرفضونها، لأنها وبكل بساطة غاية في الرتابة والملل، وتقتل روح الحياة في العامل. الذي يموت يوما بعد يوم، ذلك أن العمل شيء تافه، وأخطر من ذلك، أنه يبعدنا عن حالة التفكير والتأمل العقلي، فالعامل لا يفكر، إنه يقتل نشاطه الفكري، يوما بعض يوم، ويفقد قدرته على الإنتباه والتيقظ والتساؤل والنقد، فيظل العامل أسير وسجين البورجوازي، يعمل ويأكل وينام، هكذا هي حياة العامل مستلبة ومغتربة، فيتحول حينها إلى حيوان!!

“ليس للعامل غير هذين الأمرين، يختار أحدهما: إما أن يخضع لمصيره، ويصبح، عاملا طَيِّعاً، ويخدم مصالح البورجوازية “بأمانة” (…) وإما أن يقاوم ويناضل ما استطاع من النضال في سبيل كرامته الإنسانية.” [2].

“إن الاستيلاب لا يظهر في نتيجة العمل فقط بل كذلك في سيرورة الإنتاج نفسه وضمن الممارسة الإنتاجية نفسها.” [3].

وبهذا فالعامل بالنسبة لماركس دائماً ما يكون غريبا أو يعيش حالة اغتراب عن ما ينتجه من عمل، إن العامل ليس فاعلاً بل منفعل سلبي في عمله، فيفقد معها العامل وجوده وكينونته الحقيقة، ويظل بالضرورة خارج العمل المنتج لا داخله، كما أن العمل لا يشكل حقيقة وماهية العامل، أي هويته الأساسية والجوهرية، بل العمل يصبح بمثابة نفي وفناء وموت للعامل، فلا يشعر البتة بالراحة والسعادة والاطمئنان بل العكس الظمأ والتعاسة والشقاء، ويفقد معها العامل نشاطه الحر والخلاق، ويسجن ذاتيا وجسديا وفكريا داخل العمل، فيشعر بالقهر والكدح والفقر، ويقضي على ملكاته الفكرية والذهنية، إن العامل بالنسبة إلى ماركس يعيش حالة “اغتراب ذاتي دائم” في العمل.

تموت إرادة العامل شيئاً فشيئاً، يفرض عليه العمل، يشقى حتى الموت داخله، العمل ضد كل رغبة وإرادة وعزيمة، إنه مجرد إشباع لرغبة مثقوبة، أو لرغبة داخل برميل مثقوب، إن العمل نقص دائم، يوجد خارج ذات العامل، كما أن العمل متعلق بالرغبة والحاجة والضرورات والنزوات والشهوات والنزعات المادية، والعمل سرطان خبيث يصيب ذات العامل، إنه مرض عُصَابِيٌّ بلغة فرويد يصيب وعي الأفراد ويتأصل في لا وعيهم ويقهر ذاتهم قهرا.

الإنسان العامل مقيد لا فرق بينه وبين الحيوانات، يأكل ويشرب وينام، ويوهم نفسه أن له غايات يعمل على تحقيقها.

يقول ماركس: “في العمل الذي يبدو فيه الإنسان غريبا عن ذاته يضحي بذاته ويقهرها في نفس الآن.”

تشكل “مخطوطات” ماركس مخطوطات فلسفية بامتياز خلفها إلينا أثناء مرحلة شبابه، من خلالها يتعرف المختصون في ماركس، أطروحات ماركس الشاب، رغم كونها لم ترى النور حتى سنة 1832م، ومن خلال هذه المخطوطات، نستشف طروحة ماركس حول طبيعة العمل كنشاط إنتاجي، هناك سجال حول كونه إبداعي أم لا، لكنه مقصور على الإنسان، بالضرورة، ونحسم كونه ليس إبداعيا، ولنا تَدِلَّةٌ في ذلك، فيما يأتي، لكن هذا العمل يتحول بطبيعته بين الذاتية والخارجية، لكن ماركس يعتبر العمل خارجي على العامل.

“إن موضوع العمل هو إذن تحقيق حياة الإنسان النوعية؛ فالإنسان لا يعيد فحسب إنشاء ذاته إنشاءً ذهنيا داخل وعيه، بل كذلك عمليا وفي الواقع، يتأمل ذاته في عالم هو من إنشائه.”[4].

هكذا يصبح العمل نشاطا إنسانياً محضاً، فلا يستقيم الحديث عن حيوانات عاملة، ولا يشترك العمل بين الإنسان والحيوان، لأن الحيوانات لا تشتغل لأنها وبكل بساطة لا تفكر ولا تتخيل عملها أو تخطط له، فهي تعمل وفقا للغريزة، لهذا نقول أن العمل خاصية ماهوية مرتبطة بالإنسان، يمكننا القول أن عمل الحيوانات مجرد نشاط عضوي غريزي، عكس عمل الإنسان لأنه فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ومبدعة، وكي لا ننسى مسألة في غاية الأهمية، هي أن ماركس فيلسوف واقعي بالدرجة الأولى فهو ضد مثالية هيجل وأفلاطون، ومعنى واقعي أنه ينطلق من الواقع الحقيقي الفعلي الملموس، إنه ينطلق من واقع حياة تطبيقية وعملية، إنه واقع ممارسات، عكس كل مجرد عقلي ومثالي وممكن أو وهمي، لهذا انتقد بشدة كل من أفلاطون وكانط وهيجل الغارقان في المثالية الترنسندنتالية.

أما فيما يتعلق بطروحة ماركس في “التقسيم الاجتماعي للعمل” فلا ننسى أنه ناقش آدم سميث الذي ناقشه كل من دوركهايم وتايلور، لكن كارل ماركس ينطلق من قوى الإنتاج المادية: ويقصد بها الآلات والمعدات الميكانيكية الصرفة، ثم قوى الإنتاج البشري التي يقصد بها العمل بوصفه نشاط إنتاجي، لكن التقسيم الآلي للعمل بالنسبة لماركس مرتبط بالضرورة بالتقسيم الاجتماعي للعمل بين البورجوازي المالك لوسائل الإنتاج والبروليتاري المالك لقوى العمل، لكن الأهداف والغايات دائماً هي استخلاص أو ربح أكبر قدر من فائض القيمة من عرق العمال وقوى عملهم، هذا ما يؤدي بالضرورة إلى إعادة إنتاج النظام الرأسمالي القائم، الذي يؤدي إلى تطور النمو الاقتصادي من خلال استخلاص أكبر قدر من فائض القيمة.

عودة أبدية إلى المخطوط الأول من “مخطوطات 1844″، مخطوطات كارل ماركس الشاب، ينصح بالعودة إليها، وقراءتها قراءة فاحصة تمحيصية، من أجل التعرف أكثر على فكر كارل ماركس الشاب، والتي حررها في سياق إقامته ب “باريس” التي كانت عاصمة للأنوار آنذاك، لكن ماركس لم تغره جمالية وسحر باريس، وحاول تكوين موقف نقدي عميق جداً في هذه المرحلة، التي اعتبرها الباحثون في فكر ماركس، لحظة الفيلسوف الناقد والهادم والكاشف لقناع النظام الرأسمالي التنكري، لأن انصراف ماركس إلى الاقتصاد سيأتي لاحقا، أما في هذه المرحلة، أرخى سهام نقده اللادغ على النظام الرأسمالي المتوحش والكشف عن عيوبه، عيبه يكمن في تفكيره في الربح والثراء وحصد الأموال، ولا يهتم هذا النظام المتوحش بالطبقة العمالية البتة.

لهذا يشكل العمل قطيعة تامة ومطلقة عن العامل لكونه خارجياً غريباً عنه لا داخلياً ذاتياً.

يحول العمل الإنسان من إنسان ذي كرامة إنسانية مطلقة إلى إنسان ذي قيمة دنيئة منحطة، فيصبح بعدها حيوان يعيش من أجل تلبية وإشباع غرائزه التي لا تشبع.

ووجب الاحتراس والتأفف والتحوط من مفهوم “الاستلاب” لدى ماركس الذي يشير إلى “اغتراب المرء عن ذاته الحقيقية والفعلية، إنه ترك مسافة فارغة بين الذات والعمل، فيضيع المرء في واقع معزول عنه، وغريب عنه، وكأنك في عالم مجهول، إن غربة العامل أثناء العمل غربة وجودية، إنه حالة شعور بالقطيعة الذاتية والانفصال عن فاعلية العامل الخلاقة ونشاطه الحيوي، إنه سلب للعمل من بين يدي العامل”، ولهذا هناك فرق دلالي بين استلاب واغتراب ماركس وبين استلاب واغتراب فويرباخ كي لا يخلط القارئ بينها، لأن استلاب فويرباخ ديني، بينما استلاب ماركس اقتصادي-ذاتي وفي مجال العمل.

لهذا وجب التنويه والتنبيه على سياق ودلالة استعمال مفهومي “الاستلاب” و “الاغتراب” لدى كل من فويرباخ وماركس، كما أن استلاب العمل الذي يقصده ماركس هو ضد “العمل الاختياري” الذي هو عمل طوعي بالدرجة الأولى بمعنى يحققه العامل باختياره وإرادته، وهو العمل الذي نعتقد أن كارل ماركس يدافع عنه، وينبذ العمل الإجباري والقسري الاكراهي والالزامي الذي يؤديه العامل رغما عن أنفه، لكونه عمل مضغوط ومكروه، وتتحكم فيه قوى خارجية عن ذات العامل.

نقصد بالقوى الخارجية هنا، رب العمل المالك لوسائل الإنتاج، ضروريات الإنتاج، الرغبات والنزوات الخارجية.

وتجدر الإشارة هنا أن رب العمل الحر المالك لوسائل الإنتاج دائما ما يكون متمركزا أو هو مركز سيرورة الإنتاج، يملك رأس مالاً معين، يعمل على تكديس رأس المال، من خلال استخلاص القيمة المضافة من قوة العامل، كما أنه يمتلك ذلك المصنع الذي يعمل فيه العامل، إن رب العمل تكمن قوته في ما يملك لديه، عكس العامل الذي يزداد فقرا وكدحا وقهرا، يشكل العمل بالنسبة إليه “حالة استلاب واغتراب”، يعيش ويعمل من أجل قوام أو مقومات الحياة وضمان العيش الكريم، عبر بيع قوى عمله، التي يستغلها رب العمل، ويشتريها من عنده، في مقابل مبلغ زهيد، كما أن رب العمل له حرية اختيار العمل بشكل إرادي عكس العامل الذي يعمل بشكل إجباري إلزامي قهري قسري.

والأطروحة المركزية التي يرافع عنها ماركس بخصوص العمل، أن هذا الأخير، سيرورة تحويلية للطبيعة، كما أنه سيرورة تعمل على تحويل طبيعة الإنسان، هذا التحويل قد يكون نحو الأفضل ويكون لصالح رب العمل، ونحو الأسوء بالنسبة للعامل.

ورغم كون العمل يمنح الوجود البشري معنًى وفائدةً، إلا أن تغيير الانسان وتدخله في الطبيعة بواسطة العمل، قد يغير من خلال كل ذلك، ذاته كما هو الشأن لرب العمل، أو يعيش حالة “استيلاب واغتراب” عن العمل، كما الأمر عند العامل.

لهذا يشكل استيلاب العامل في عمله، تحطيم في نفس الوقت لفاعليته وطبيعته الخلاقة، وتقويض طاقته العقلية الحرة.

إن العمل وككل شغل خارجي عن ذات العامل، يشكل هالة من الغربة والعزلة والاستلاب لذات العامل، لأنه وبكل بساطة، يفقده أهم سمات الإنسانية، أقصد كلاً من الكرامة والإرادة الإنسانيتين.

إن العمل الخارجي عن ذات العامل كبح للرغبات وفقدان الاستقلالية، لهذا بالنسبة لكل من ماركس وإنجلز يجب نقد كل الخطابات التي تمجده وتقدسه، إنها خطابات تبيع الأوهام للعمال.

“إذا كان المال هو الرابطة التي تربطني بالحياة الإنسانية؛ وتربطني بالمجتمع، بل أيضاً تربطني بالطبيعة وبالإنسان، (…)، ألا يمكن القول: إن المال هو القوة الكيميائية للمجتمع؟”[5].

يشكل المال، بالنسبة لماركس، رابطة من روابط المجتمع القوية، بل “هو القوة الكيميائية” التي تخترق جسد المجتمع في كليته.

يعتمد كارل ماركس تحليلا اقتصاديا واجتماعيا خطيراً جداً لكيمياء المجتمع، أقصد المال.

“جميع الحيوانات لا تعمل” هذه هي المسلمة التي ينطلق منها كارل ماركس، حتى النمل أثناء تشييد بيته لا يعمل، والنحل أثناء بنائه لخليته لا يعمل، … إلى آخره. والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعمل لأن عمله ناتج عن سيرورة تفكير معقدة، وتخطيط أولي يسبق الإنجاز الفعلي للعمل، أما عن العمليات التي يقوم بها الحيوانات رغم براعتها ودقتها وجودتها، ليست سوى عمليات غريزية طبيعية جبلت فيه بالفطرة، أي بالغريزة، لكن هذا العمل قد يتحول إلى عذاب حقيقي عند الإفراط فيه، وبفضل العمل المفرط يتحول العامل إلى كائن جامد قامِتٍ جاثم في مكانه، وإلى مجرد حيوان يقتات ليرضي رغباته، خارج أوقات العمل، وأثناء هذه السيرورة يتشيؤ الإنسان – العامل، ويفقد شيئا فشيئاً كرامته الإنسانية، هذا التشيؤ ناتج عن حالة “الاستلاب والاغتراب” الذي يشعر به العامل أثناء عمله دائماً، كل هذا في إطار كانت علاقته بالعمل علاقة مصلحة، أي علاقة مال، أو علاقة أجر يناله بعدما يتمم عمله على أتم وأكمل وجهه، ومن هذه النقطة انطلق كل من ماركس وإنجلز واعتبرا العمل مجرد عذاب وهول حقيقي يعيشه العامل. ويكون العامل مستلبا عندما تكون غاياته وأهدافه ومبادئه ومصالحه مخالفة البتة مع العمل الذي ينتجه.

وفي الختام، نقول إن الإنسان يعمل، لأن العمل مسألة ضرورية جداً لسد حاجياته الأساسية، بل والقيام بالدور الإجتماعي المناط له على أحسن وجه، وقد لاحظنا كل من ماركس وإنجلز ينتقدان العمل الغريب عن ذات العامل، أي العمل القسري – الإلزامي، عكس العمل الحر المختار الذي هو عمل إرادي مقبول، ومن خلاله يثبت الإنسان وجوده، ويمنحه معنى وفائدة، ويعود بالنفع على المجتمع والدولة، ويساهم في ضمان اللُّحْمَةِ الاجتماعية والأساس الأخلاقي، كما يمكن القول، بغض النظر عن أن العمل استعباد للعامل وقهره، أنه أي العمل تحرير وتحقيق للذات، وتلبية للرغبات وطموح إلى دائم إلى الاستقلال.

_____

المراجع والمصادر المعتمدة:[1] – Voir : Karl Marx, « Capital », Book One, Part One, Social Publications 1950, pp. 180 et suiv.  (Adapté).[2]- أنظر: فريدريك إنجلز، “نصوص مختارة”، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1972، ص-ص: 258-259.[3] – Karl Marx, « Manuscrits » 1848, pp. 514-515, adapté de Kostas Papaioannou, « Marx et les marxistes », Flammarion 1972, p. 40[4] – Karl Marx, Manuscrit de 1844, la pleiad, tom. 2, Gallimard 1968, pp. 64.[5] Voir : Karl Marx, Manuscrits 1844, Presses universitaires françaises 1972, p. 100. 
______
* محمد فرَّاح، حاصل على شهادة الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي-الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات