أثارت مختلف أعمال توماس هوبز [1]Thomas Hobbes جدلا واسعا في الأوساط العلمية والفكرية، بحيث عرفت نظرياته انتشارا واسعا، وهو ما يدل على القيمة الفكرية الكبرى لهذا المنظر المتعدد المشارب. ونلاحظ بأن هوبز قد أولى اهتماما خاصا بالقضايا السياسية والمعرفية والعلمية والتاريخية، والتي كانت محط نقاشات غزيرة، إذ بدأت أولى بوادرها في فترات منفاه الطوعي إلى فرنسا، ولا زالت مستمرة إلى حدود يومنا. سنحاول في هذا الركن المخصص لاستقبال هوبز، الوقوف عند أوجه انتشار تصوراته، من أجل استشراف مكانته النظرية في تاريخ الأفكار، علاوة على تبيان أهمية البحث في تراثه الفكري والوقوف عند حدوده.
نشير بأن تأليف هوبز قد اتخذ مكانة متميزة داخل بريطانيا. وتعتبر دراسة لامبريشت ستيرلينج Sterling Lamprecht، المعنونة بهوبز والهوبزية[2]، من الأبحاث الرصينة مثلما قال جن باركين Jon Parkin في تحليل عمل هوبز، بحيث سمح بالتمييز بين نظرية هوبز الخاصة والهوبزية. ترجع أهمية هذا العمل، في كونه قدم تمييزا أفاد في فهم استقبال هوبز اليوم[3].
من جهة أولى، نشر جن بول Jon Bowle كتابا نقديا حول هوبز، تحت عنوان هوبز ونقوده: دراسة في التوجهات الدستورية خلال القرن السابع عشر[4]. دارت الانتقادات المبثوثة في هذا المصنف، حول النظرية السياسية. وأبرز جن في هذا المستوى رفضه للنظرية الإطلاقية، ودافع في المقابل عن التوجه الدستوري[5].
من جهة ثانية، نلاحظ في عمل صامويل مينتز Samuel Mintz حول استقبال هوبز[6]، أنه قد تطرق إلى العلاقة المعقدة التي تجمع هوبز بقرائه. لاحظ مينتز بأن نقاد هوبز، قد اضطروا التوسل بمنهجه العقلاني في البرهنة على مواقفهم، وكمثال ساطع على ذلك، ردود الأفعال التي أثارتها أفلاطونية كامبريدج. ركزت نقاشات الأفلاطونية حول قضايا وجود الإله والروح، انتهوا منها إلى تبني موقف دنيوي وعقلاني، بحيث اتخذت حججهم صيغة هوبزية، بينما كانت نتائجهم متعارضة بكل ما في الكلمة من معنى مع أفكار هوبز[7].
وفي مقام مغاير، أصدر كوينتن سكينر Quentin Skinner خلال 1960 سلسلة من الدراسات[8]، وأحدث هذا العمل ثورة في الدراسات حول هوبز، وحقن حياة جديدة في قضية استقبال هوبز. ركز بحث سكينر في مقاربته المستحدثة، على العلائق التي تجمع هوبز بمعاصريه، كما فحص السياقات المختلفة ودور السياق الفكري في تشكل نظرية هوبز. توخى أيضا المرافعة على الوشائج القائمة بين أفكار هوبز مع التصورات الرائجة في النقاشات السياسية المعاصرة. وأشار سكينر إلى قراءة بعض المعاصرين لهوبز، ووقف عند مدى تقديرهم للرجل، سواء في انجلترا أو في القارة الأوروبية[9].
وفي مكان مباين، ألف ريشارد توك Richard Tuck دراسات في غاية الأهمية[10]. تقصى ضمن هذه الدراسات، مكانة هوبز في بلورة القانون الطبيعي التقليدي الأوروبي، حيث حاول توضيح أبعاد العلاقات المعقدة في تصور هوبز، والمتعلقة أساسا بطبيعة الروابط التي تجمعه بالمنظرين المعاصرين للحق الطبيعي[11].
وفي مناسبة أخرى، حاول مارك غلودي Mark Glodie في مساهمته[12]، إبراز موقع النظرية السياسية لهوبز. اندرجت نظريته، داخل سياق فلسفي شديد التميز، طبعه صراع بين الاتجاه الإرادي والاتجاه اللا-إرادي، وتحرى في هذا الباب، الصلات بين هوبز والمفكرين الإراديين[13].
يمكن القول، أنه في سنوات 1980، بدأت الدراسات في انجلترا تعنى بصورة كبيرة بمكانة علم السياسة عند هوبز. تفتق هذا العمل على آفاق واعدة، خصوصا النظرية السياسية الهوبزية، بحيث كان الهاجس الذي طغى على هذه الدراسات كامنا في تطبيق الأدوات المعاصرة للتحليل السياسي على عمل هوبز. إذ مكن ذلك، من إتاحة إمكانيات عديدة، وأثرى حقل البحوث السياسية بإنتاجات مهمة.
وفي هذا السياق، باشر زمرة من المتخصصين في الدراسات السياسية، مهام البحث في مثل هذه المشاريع. أتى أغلب الدارسين، من ميادين الفلسفة والنظرية السياسية، وكانوا بذلك، أندادا للمؤرخين السباقين في مباشرة مثل هذه الدراسات.
تجدر الإشارة، إلى أن الدراسات المتمحورة حول هوبز، قد عرفت تطورا ملحوظا، إذ حققت قفزة نوعية في زوايا المقاربة. بدلا من معالجة إشكالات السلم والسلطة، سعت هذه الأبحاث، إلى وضع الكتابات السياسية لهوبز على محك السياق المعاصر ووصلها بالبعد الدولي.
من المؤكد أن ثمار عمل الأكاديميين البريطانيين، كانت ولا تزال أهميتها سارية المفعول، تتمثل في طبعة كلاريندون Clarendon، الخاصة بالأعمال الكاملة لهوبز. ويرجع الفضل في تحقيق هذا المشروع، إلى هوارد وارندر Howard Warrender، فقد فكر في نشر طبعة نقدية جديدة في منشورات أكسفورد الجامعية، منذ سنة 1962 إلى غاية 1983، أي سنة وفاته. ونشر بنفسه الطبعة اللاتينية لكتاب المواطن De Cive وترجمته الإنجليزية[14].
[1] ولد في 1588 وتوفي في 1679.
[2] Lamprecht Sterling, Hobbes and Hobbism, American Political Science Review 34, 1940, p. 31-53.
[3] Parkin Jon, Taming the Leviathan. The Reception of the Political and Religious Idea of Thomas Hobbes in England 1640- 1700, Cambridge University Press, 2007, p. 3.
[4] Bowle John, Hobbes and his Critics: a Study in Seventeenth Century Constitutionalism, Frank Cass and Company Limited, (1951).
[5] Parkin Jon, Taming the Leviathan. The Reception of the Political and Religious Idea of Thomas Hobbes in England 1640- 1700, Op. Cit., p. 4.
[6] Mintz Samuel, The Hunting of Leviathan: Seventeenth Century Reactions to the Materialism and Moral Philosophy of Thomas Hobbes, (Cambridge, 1962).
[7] Parkin Jon, Taming the Leviathan. The Reception of the Political and Religious Idea of Thomas Hobbes in England 1640- 1700, Op. Cit., p. 5.
[8] Skinner Quentin, History and Ideology in the English Revolution, the Historical Journal 8 (1965), p. 151- 78; Hobbes and His Disciples in France and England, Comparative Studies in Society and History 8 (1966), p. 153- 67; The Ideological Context of Hobbes’s Political Thought, the Historical Journal 9 (1966), p. 286- 317; Conquest and Consent: Hobbes and the Engagement Controversy, in G. E. A. Aylmer, ed., The Interregnum: The Quest for Settlement(1972), p. 79-98.
[9] Parkin Jon, Taming the Leviathan. The reception of the political and religious idea of Thomas Hobbes in England 1640- 1700, Op. Cit., p. 6.
[10] Tuck Richard, Natural Rights Theories: their Origin and Development (Cambridge, 1979), see also, Philosophy and Government, 1572- 1651, (Cambridge, 1993).
[11] Parkin Jon, Taming the Leviathan. The Reception of the Political and Religious Idea of Thomas Hobbes in England 1640- 1700, Op. Cit., p. 7.
[12] Glodie M., ‘The Reception of Hobbes’, in J. Burns and M. Goldie, Eds., The Cambridge History of Political Thought 1450- 1700, (Cambridge, 1991), p. 589- 615.
[13] Parkin Jon, Taming the Leviathan. The Reception of the Political and Religious Idea of Thomas Hobbes in England 1640- 1700, Op. Cit., p. 8.
[14] Farsides Calliope, Hobbes en grande Bretagne, archives de philosophie, traduit de l’anglais par Luc Foisneau, Vol. 51, No. 2 (avril- juin 1988), p. 238- 2
*المصدر: التنويري.