أُغرم أحمد بن مسكويه بدراسة الإنثروبولوجيا ودراسة عادات الشعوب وحضاراتهم وأمثالهم وحكمهم. وكان طبيباً فاضلاً خبيراً بالطبّ جيد الإحاطة بأصوله وفروعه، وعرف كمؤرّخ قدير وعالم أخلاقي بارع، وكانت له مشاركة حسنة بالعلوم اللغويَّة والأدبيَّة والعلوم القديمة. وانشغل بالكيمياء مع “أبي الطيَّب الكيميائي محمد بن زكريا الرازي” إذ كان مسكويه مفتوناً بكتبه.
لمع نجمه في الفلسفة حتى لقّبه البعض بـ”المعلّم الثالث” ويعتبر مسكويه أوّل عالم مسلم بارز درس “الأخلاق الفلسفيَّة” من وجهة نظر علميَّة في كتابه (تهذيب الأخلاق) الذي ركَّز فيه على الأخلاق والمعاملات وتنقية شخصيَّة الإنسان.
درس علوم الأوائل على يد ابن الخمار الذي كان واسع الاطّلاع وبرع في الطبّ حتى لقِّب بلقب بقراط الثاني ويظهر من كلام الفيلسوف الإسلامي أبي حيان التوحيدي أنّ ابن مسكويه لم يكن ذا عقليَّة فلسفيَّة بارعة وأنّه شغل بعلم الكيمياء عن الفلسفة فقرأ كتب الكيمياء لكل من أبي الطيّب الكيميائي الرازي وجابر بن حيّان وأبي بكر محمد بن زكريّا الرازي الذي عاصرهم، كما عاصر الخوارزمي.
كان مسكويه غزير الإنتاج ومن مؤلّفاته: تجارب الأمم، تهذيب الأخلاق وطهارة الأعراق (الفوز الأكبر)، والفوز الأصغر، وقد خصَّص جانباً مهمّاً من كتابه الأخير لبحث مسألة النبوَّة، التي قسّمها إلى عشرة فصول تناول فيها مراتب الموجودات والاتّصال فيما بينها، وتناظر الإنسان مع العالم من حيث المكوّنات، والارتباط الوثيق بين قواه، وكيفيَّة ارتقاء حواسّه الخمس في سلّم الإدراك، وماهيّة الوحي وكيفيَّة حصوله، وطبيعة العقل والمنام والفرق بين النبيّ والكاهن، والاختلاف بين النبيّ المرسل والنبيّ غير المرسل، وأصناف الوحي والفرق بين النبيّ والمتنبيّ. كما رتَّب في كتابه أنس الفريد العادات (في السياسة والأخلاق).
بحث مسكويه ثلاث مسائل فيما بعد الطبيعة وهي: “الله والنفس والنبوّة” واقتبس الكثير من فلاسفة اليونان، ورأيه في الله هو رأي المعتزلة والفلاسفة والإلهيّين، فالله واحد، وصانع العالم، وموجود بذاته، ويعرف بطريق السلب لا بطريق الإيجاب. والعالم موجود بالعَرّض خلقه الله من العدم. والنفس جوهر بسيط غير محسوس بشيء من الحواسّ، وتدرك وجود ذاتها وتعلم أنها تعلم وتعمل، وتمتاز نفس الإنسان من نفس الحيوان بالنطق أي بالرويّة العقليَّة.
أمّا رأيه في النبوَّة فهو قريب من رأي الفارابي، فيفسِّر النبوّة الدينيَّة تفسيراً طبيعيّاً تارة، أي بالتدرّج في مراتب العقل، من العقل بالقوَّة إلى العقل بالفعل، إلى الاتّصال بالعقل الفعّال، وتارة أخرى يفسّرها تفسيراً ما ورائيّاً يقوم على الإلهام والوحي، فهناك “العقل بالمملكة” وهو منحة إلهيَّة وهبها الله لبعض البشر (الأنبياء) فيتمّ بواسطتها الاتّصال مباشرة بالعقل الفعّال من دون التدرّج في مراتب العقل.
لكن الجزء المهمّ في فلسفته هو الجانب الأخلاقي، فغاية الأخلاق كما يرى أن تصدر عنا الأفعال جميلة من غير تكلّف. والأخلاق تابعة للنفس لا للجسد. والأخلاق قابلة للتغيّر بحسب الزمان والمكان. والفضائل أربع وهي: العفّة والشجاعة والسخاء والعدالة. والإنسان يتعلَّم الفضائل إمّا من الطبيعة وإمّا من الشريعة. والفضيلة على العموم هي سموّ الإنسان بنفسه. والخير هو كمال الوجود الذي يتوخّاه الإنسان. والبشر ثلاث فئات: أخيار بالطبع، وأشرار بالطبع. والفئة الثالثة لا أخيار ولا أشرار بطبعهم، بل ينتقلون إلى الخير أو الشرّ بالتأديب والتعليم، بمصاحبة الأخيار أو أهل الغواية والفساد.
بطاقة:
ولد أحمد بن محمد بن يعقوب الملقّب بـ” مسكويه” في مدينة الري (إيران) عام 932، ولقّب أيضاً بأبي علي الخازن، نسبة إلى عمله عند أمراء بني بويه بوصفه خازناً لمكتباتهم. كتب باللغتين العربيَّة والفارسيَّة واشتغل بالفلسفة والطبّ والكيمياء والتاريخ وعرف بطروحاته الأخلاقيّة. تقلّد الوزارة كما عمل مشرفاً على خزانة الكتب لدى أحد أبرز وزراء عصره وهو ابن العميد. تأثَّر بأفلاطون وأرسطو والرازي والفارابي، ونهل من منابع معرفيَّة مختلفة؛ عربيّة وفارسيَّة ويونانيَّة ورومانيَّة. توفي في أصفهان عام 1030.
*المصدر: التنويري.