المقالاتفكر وفلسفة

إيديولوجية الترجمة: استكشاف تقاطع اللغة والترجمة والأيديولوجيا والاستشراق

اللغة

د. محمد الزكري القضاعي

(أهدي المقالة الى د. علي الصديقي[1])

(عند الغسق، عندما يتلاشى الضوء الأخير، تتجلى الحقيقة. في هذه اللحظة بين اليوم المنصرم والليل القادم، نشعر بثقل الزمان. إنها ليست مجرد ساعة من اليوم، بل رمز للانتظار، للتحول، ولحالة من الاستعداد غير المكتمل. ليست الصلاة في الغروب إلا تلك اللحظة المعلقة، لحظة مواجهة مع عالم ينهار، ومع كيان لا يزال يتشبث بالمعاني في عالم متهالك. مثلما تتبدد أشعة الشمس الأخيرة، نتساءل: كيف يمكن للإنسان أن يعيش في زمن فقد معناه؟ هل يمكننا، في وجه الانهيار الغربي، أن نصلي في هذا الغروب، ليس بالأمل الواهم، بل بوعي كامل للنهاية التي نعيشها؟ إنها صلاة لا ترجو الخلاص، بل تدرك أن المخلص قد فات الأوان، وأننا، في الغسق، في حالة انتظار أبدية.” )/ Vespers “صلاة الغروب” لجورجيو أغامبين

المدخل الصعب

في نظر مجموعة من المفكرين والكتاب، يقف العالم اليوم في حالة قلق إزاء ما يصفونه بـ” مشكالة ” تهدد أسس الحضارة الغربية، متمثلة في تنامي ظاهرة “الانهيار” (Collapse) الغربي وفقاً لجاريد دايموند (Jared Diamond)، والتراجع الحضاري الغربي (Western Democratic Backsliding) كما تناقشه بيبا نوريس (Pippa Norris). سنركز في هذه الدراسة على مسألة الانهيار الغربي من خلال أفكار المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben)، أفكاره ليست فقط مهمة لفهم أبعاد الأزمة الحضارية الغربية، بل أهميتها تكمن في تناوله معالم هوية الانهيارات المجتمعية وهي تتجسد في قسمات الوجود الأمريكي الأوروبي. سنسعى إلى استكشاف تعمّق ظاهرة “الانهيار” عبر الرموز السياسية الغربية، وبدعم بعض المثقفين، من ترسيخ “قيم” الانهيار (الفاقدة للمشروعية القانونية) بالسكوت السلبي اتجاه ممارسات من مثل استهداف الأطفال والمدنيين وتدمير المستشفيات، وجعلها جزءاً من معايير المسلمات الثقافية العالمية. برزت هذه المعايير في المجتمع الغربي في سياقات تبرير العنف تحت شعار: “استثنائيات حق الدفاع عن النفس غير المتزن”. كما تتميز ظاهرة “الانهيار” باختلال وتراجع “خطاب الصواب” القائم على قيم وثوابت توافقية كونية، التي وازنت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، كما تتميز ظاهرة الانهيار بزهو “خطاب” يفتقر الى القيم العدالية الكونية. أهم ما يميز ظاهرة “الانهيار” هو خطاب النخبة الغربية الحاكمة كما ينعته Mikhail Bakhtin ميخائيل بختين على أنه خطاب منولوجي “soliloquy- monologist “. العالم يشهد حالة انهيار راهنة منتجة لذوات منولجية أحادية المرجعيات، عالقة في نقاشاتها في دائرة منغلقة على ذواتها وهي في حالة غير خطية، مانعة للغير من انتقادها تحت شعارات أن من يعارضنا متعاطف مع الإرهاب أو أنه فعلا مع خندق “المعادات” الأعراقية، رموز في السلطة غير قادرة على ممارسة نقدا لذواتها (تخوفا من الحاق ضررا بمصالحها)، مما يؤدي إلى فقدان الناظور الذاتي (stuck in non-linear status with self-perspective loss).

ظاهرة “الانهيار” قسمت الكرة الأرضية الى مناطق ذات اغترابات جهوية.  هذه المقالة تبحث في الغُرَبَات البشرية التي آثرت الاغتراب من أن تكون جزء من الانهيار. كل غربة تناقش قضايا اغترابها وقليلا ما تكترث عن تجسير ممرات لكي تفهم دوافع اغترابات الآخرين.

أطروحة جورجيو أغامبين ([2]) تعمل عبر مزاوجة مصطلحات معقدة مستخرجة من أعماق التاريخ الغربي  ([3]) للحديث عن هذا التراجع الانهياري. مصطلحات جوهرية مثل السلطة الحيوية (Bio-Power)، السياسة الحيوية (Bio-Politics)، Homo Sacer، وحالة الاستثناء (State of Exception). ومع أن هذه المفاهيم تشترك مع أعمال أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) وميشيل فوكو (Michel Foucault)، سنتناول كيفية تجسد أفكارهم، قبل أن ننعطف إلى أغامبين ونستمتع معه في رحلة فكرية مليئة بالكشوفات العميقة.

مناطق فكرية متقاطعة

قدّم المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي مفهوم “الحس العام” (Common Sense) بوصفه نتاجًا لمؤسسات انضباطية مثل الكنائس والمدارس. يرى غرامشي أن هذا “الحس العام” يُشكل نوعًا من الانضباط البشري غير القسري (Non-Coercive Discipline)، حيث يتيح للدولة الحديثة إدارة مواطنيها عبر قبولهم الطوعي للقوانين، بدلًا من الاعتماد على الإكراه المباشر.

لاحقًا، طور الفرنسي ميشيل فوكو هذه الأفكار، مشيرًا إلى أن الأجساد البشرية تُضبط ذاتيًا عبر مفاهيم مثل Panopticon، حيث يُراقب الفرد نفسه نتيجة شعوره الدائم بالمراقبة. هذا الأسلوب يشكل أساسًا لانضباط الأفراد في المجتمعات الحديثة.

يمكن قراءة مشروع جورجيو أغامبين للدولة الحديثة في أوروبا على أنها تلك الدولة التي وهي في حالة “الحداثة المتأخرة” Late Modernity)  كما وصفها أنتوني غيدنز (. استغلت بشكل مبالغ فيه آليات اضباط والسيطرة على مواطنيها.

ففي هذه المرحلة تصاعدت الفردانية حيث أصبح لكل فرد رؤيته خالقة عدد هائل من الرؤى وانهيار المراجع المحدودة الصلبة الثابتة. مجتمع أوروبا يقبع في ثقافة مجتمع  مخاطر سيّال (Risk Society)، حيث أصبح من الصعب إدارة مجتمع غير متجانس مع تزايد وجهات النظر غير المؤكدة.

استطاع أغامبين أن يرصد أن الدولة الحديثة الأوروبية تخطت مفهوم الدولة لدى أنطونيو غرامشي  ومفهوم الدولة لدى ميشيل فوكو فمهوم الدولة جورجيو أغامبين هي تلك الدولة التي وجدت أن الطريقة الوحيدة لجمع هذه الفئات المتباينة من المواطنين ضمن نطاق دولة منضبطة هي خلق حالة دائمة من الخوف، مما يسمح بفرض “حالة الاستثناء” (State of Exception).

لكن أيضا عند استجلاء أفكار المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين نجد أن مفهوم الدولة لديه أنها الدولة المنهارة. فنجده يتحدث عن الدول الغربية في لحظة Vespers “صلاة الغروب” الحضارية الراهنة. كتاباته تبدي لنا إصرار الدول الغربية على الانهيار بممارستها شروط الانهيار عبر استمرارية إطالة أمد حالات الطوارئ States of Emergency) ) واحدة تلو الأخرى، والتي يتم توظيفها لتكريس حالة يعرّفها جورجيو أغامبين بـ “حالة الاستثناء” (State of Exception). .

وفقًا لأغامبين تجعل الدولة الأوروبية الراهنة مفهوم سيادتها (Sovereign) لضبط مواطنيها بين ثنائية تميز الأجساد الى تلك البيوس bios  وأجساد أخرى باسم الزويه zoe  . 

فثقافة الدولة كأنما تُحدد ما يُدرج جسديا (من أجساد البشرية) في ما يعرف ب الأجساد البيوس bios  والتي تستخدم لترمز الى حياة الأجساد السياسية المقبولة داخل القانون وما يُستبعد من تلك الأجساد البشرية تحت طائلة الاستثنائيات وتنعت بالأجساد الزويه zoe  والتي تستخدم لترمز الى تلك الأجساد التي تكون حياتها قابعة في خانات الاستثناءات من القانون أو بباسطة خارجه.

مفهوم Biopolitics وعلاقته بالسيادة

يرى أغامبين أن الممارسات المرتبطة بـالسياسة الحيوية (Biopolitics)، وهي سياسات التحكم في الأجساد البشرية لضبط السلوكيات الاجتماعية، أصبحت أدوات مركزية في إدارة الدول. مثال على ذلك يمكن أن يُرى في تغيير التصورات الاجتماعية حول التدخين أو السمنة في الولايات المتحدة. ففي حين أن التدخين كان شائعًا بنسبة 41.9% عام 1965، انخفضت النسبة إلى 19% فقط بحلول 2011 نتيجة المعرفة العلمية التي أصبحت تعرّف التدخين كنمط حياة غير صحي.

هذه المعرفة، التي تبدو موضوعية وعلمية، تُسهم في ترسيخ التمييز الاجتماعي ضد المدخنين أو الأفراد الذين يعانون من السمنة، حيث يتم استبعادهم من المجتمع وتصويرهم كتهديد لصحة المجتمع ككل. وبهذا تتحول المعرفة العلمية إلى أداة قهرية تمارس السلطة بطرق غير مرئية، مما يجعل الأفراد يراقبون أنفسهم ويضبطون سلوكهم طوعًا.

 Homo Sacer  حالة الاستثناء

قام جورجيو أغامبين بالبحث في التقليد الروماني، ووجد أنهم كانوا يُشيرون إلى الشخص الذي يقع خارج النظام الاجتماعي والقانوني بمصطلح Homo Sacer. هذا الشخص مقدّس بمعنى أنه خارج النظام القانوني، فلا يمكن التضحية به طقوسيًا، لكنه في الوقت نفسه يمكن قتله دون أن يُعتبر ذلك جريمة.


وفق أغامبين، Homo Sacer يمثل الشخص الذي يعيش داخل القانون فقط ليتم استبعاده منه، ويُعتبر جزءًا من النظام القانوني لكنه يُستخدم كأداة للتأكيد على حدود هذا النظام.

السيادة تعمل وفق هذا المنطق؛ فالسيادة لدى الدولة الأوروبية المنهارة، كما يوضح أغامبين، هي تلك الدولة التي تمكنت من فن القدرة على تعليق القانون وتطبيقه في الوقت ذاته. في حالة الطوارئ، تُبرز السيادة قوتها الكاملة بتعليق الحقوق والحريات تحت ذريعة حماية المجتمع.

العلاقة بين Bios وZoe

يرى أغامبين أن السيادة الحديثة تُعيد تشكيل الحدود بين bios، الذي يمثل الحياة السياسية والاجتماعية، وzoe، الذي يمثل الوجود البيولوجي فقط. الدولة تعتمد على وجود من يتم استبعادهم من أجل تعريف ذاتها، حيث يتطلب النظام دائمًا وجود “الآخر” أو “الخارج” لتبرير وجوده.

الديمقراطية وحالة الاستثناء

يُجادل أغامبين بأن الديمقراطيات الحديثة أصبحت دولًا شمولية بطريقة غير مباشرة عبر تكريس حالة الاستثناء كحالة طبيعية. في الأزمات مثل الهجمات الإرهابية (مثل قانون الوطنية الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر) أو الأوبئة (مثل بروتوكولات كوفيد-19)، يتم تعليق القوانين والحقوق لصالح سياسات يُبرر وجودها بحماية الصحة العامة أو الأمن القومي.

هذا التعليق المستمر للقوانين يحول المواطنين إلى مجرد أجساد حيوية (zoe) تحت سيطرة الدولة، بينما تُقدَّم هذه السيطرة على أنها ضمانة لحمايتهم كأفراد يتمتعون بالحياة السياسية والاجتماعية (bios).

الانعكاسات على مستقبل الدولة

يؤكد أغامبين أن استمرار حالة الاستثناء يهدد وجود الدولة ذاتها، حيث يتم تطبيع تجاهل التنوع البشري واحتاجات الانسان وفشل الدولة في حل المشاكل  بحالة مستمرة من الطوارئ. هذه السياسات تُحوّل مفهوم الدولة الحديثة المنهارة إلى كيانات شمولية، حيث تُستخدم المعرفة العلمية والتقنية كأدوات للسيطرة الاجتماعية وتبرير تعليق القوانين.

الخلاصة

يرى أغامبين أن سياسات Biopolitics وحالة State of Exception قد تكون العامل المحوري في تفسير “الانهيار” الغربي. الدول الغربية تدمن استخدام السلطة الاستثنائية كوسيلة للحفاظ على وجودها، لكنها في الوقت نفسه تُسرّع انهيار قيمها الديمقراطية والإنسانية.

المفاهيم الرئيسية:

  • Homo Sacer: الشخص المستبعد داخل النظام القانوني.
  • Bios: الحياة السياسية والاجتماعية المعترف بها.
  • Zoe: الحياة البيولوجية المجردة.
  • Biopolitics: سياسات التحكم في الأجساد البشرية لضبط المجتمع.
  • State of Exception: حالة الطوارئ التي يتم فيها تعليق القوانين.

المصادر

القضاعي، م. الزكري. (2024، 11 نوفمبر). تغريبة زيجمونت باومان ونظرية أهل الفترة: مراحل الفراغ في مجتمع المخاطر. التنويري. https://altanweeri.net/14903/

– Agamben, G. (1998). Homo Sacer: Sovereign power and bare life (D. Heller-Roazen, Trans.). Stanford University Press. (Original work published 1995).

– Agamben, G. (2005). State of exception. University of Chicago Press.

– Bauman, Z. (2000). Modernity and the Holocaust. Cornell University Press.

– Beck, U. (1992). Risk Society: Towards a New Modernity (M. Ritter, Trans.). Sage Publications. ISBN 978-0-8039-8346-5.

– Beck, U. (2000). What Is Globalization? (P. Camiller, Trans.). Polity Press. ISBN 978-0-7456-9250-0.

– Beck, U., Giddens, A., & Lash, S. (1994). Reflexive Modernization: Politics, Tradition, and Aesthetics in the Modern Social Order. Stanford University Press. ISBN 978-0-8047-2472-2.

Foucault, M. (2008). The birth of biopolitics: Lectures at the Collège de France, 1978-1979 (G. Burchell, Trans.). Palgrave Macmillan. (Original work published 2004).

– Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks (Q. Hoare & G. Nowell Smith, Eds. & Trans.). International Publishers. (Original work published 1929-1935).

Top of Form

Patnaik, A. K. (1988). Gramsci’s concept of common sense: Towards a theory of subaltern consciousness in hegemony processes. Economic and Political Weekly, 23(5), PE2-PE5+PE7-PE10. Economic and Political Weekly.

Bottom of Form


[1] دكتور عربي بحريني، مهتم بالنظريات النقدية في القانون، رئيس لجنة الخبراء القانونيين بمنظمة العمل العربية، محكم معتمد في فصل المنازعات، رئيس تحرير مجلة “الحقوقية” البحرينية.

[2]  جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben، و فيلسوف إيطالي، وُلد في 22 أبريل 1942، ويُعرف بشكل خاص بأعماله التي تناولت مفاهيم مثل حالة الاستثناء (State of Exception)، وشكل الحياة (Form-of-Life)، وهو مفهوم استلهمه من الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein)، وHomo Sacer، وهو مصطلح يعبر عن الفرد المستبعد قانونياً من الحماية، ولكنه مستهدف ككيان يمكن التضحية به. تشكل فكرة السياسة الحيوية (Biopolitics)، التي طوّرها ميشيل فوكو (Michel Foucault)، جزءاً جوهرياً من كتابات أغامبين، حيث يسعى لاستكشاف كيفية تأثير السلطات على حياة الأفراد والتحكم بها من خلال إجراءات استثنائية تُستخدم لتبرير تعليق القوانين. قدم أغامبين رؤية فلسفية عميقة لتحليل كيفية تعامل المجتمعات الحديثة مع الأزمات، مثل استخدام السلطات للظروف الطارئة كأداة لتبرير تجاوز القانون، ما يعكس سياسات معقدة تحاول السيطرة على الحياة الإنسانية. لقد أثرت أفكاره في مجالات مختلفة، بما في ذلك الفلسفة السياسية، وعلم الاجتماع، والدراسات القانونية، حيث يعتبر أغامبين من أبرز المفكرين الذين كشفوا عن طبيعة السلطة المعاصرة وكيفية توظيفها لتشكيل الواقع السياسي والاجتماعي.

[3]  (عملا بمقولة المؤرخ  جيمس هارفي رونسون  – James Harvey Robinson “إن العقل الحديث، حديث جزئيّا، لأنّ جوانب كثيرة منه ساكنة فينا منذ أيام ماضينا السحيق”)

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات