إنقاذ النزعة الإنسانيَّة في الدين
ظلّ نصيب التأليف في الأخلاق هو الأقل مقارنة بغيره من المعارف والفنون في تراثنا المدوّن بالعربيَّة، وإن انبثقت مفاهيم كلاميَّة تتّصل بالأخلاق في فضاء التفكير الكلامي، وترتبط بالتأمّل في نصوص الكتاب والسنَّة، وتنامي الجدل بين الفرق والمذاهب المتنوّعة، ثمَّ بدأت تتسرَّب بالتدريج الآراء أخلاقيَّة اليونانيَّة والرواقيَّة والإسكندرانيَّة إلى المسلمين. وأفضت تأثيرات هذه الآراء فيما بعد إلى أن يؤلّف المؤرّخ والفيلسوف المعروف مسكويه في القرن الرابع الهجري كتابه ” تهذيب الأخلاق” الذي دشّن أرضيَّة تأسيس عام جديد بمؤازرة العلوم والمعارف الأخرى في المجال الإسلامي.
أمّا المحاولات الحديثة والمعاصرة في هذا الاتّجاه، فلما تزل محدودة وضئيلة مقارنة بالمتطلّبات الأخلاقيَّة الملحّة لمجتمعاتنا، التي تجتاحها أعاصير وموجات تقوّض بناها التقليديَّة وتسوقها نحو فوضى شاملة ومصائر مجهولة.
الإنسان كائن متديِّن:
الدين ظاهرة واكبت تاريخ البشريَّة منذ وجودها على سطح الأرض، والإنسان كائن متديِّن، وإن تباينت تعبيراته عن تديّنه، واختلفت تجلّيات ومظاهر الدين في حياته. ومع أنّ طائفة من الفلاسفة والمفكّرين تنبّأوا بانحسار تأثير الدين كعامل محرِّك للحياة، وربما زواله نهائيّا بعد دخول الإنسان عصر العلم، واكتشافه للكثير من قوانين الطبيعة، وتفسيره لما كان يحسبه أسرارا وألغازا تستعصي على العقل، إلا أنّنا نشاهد عودة للمقدّس، وانتقاما لله لنفسه، وانبعاثا للعامل الديني في المجتمعات الصناعيَّة التي دخلت عصر العلم منذ فترة طويلة. كذلك لم يتراجع تأثير الدين في مجتمعاتنا، بل انطلق عاصفا ليجتاح كافة مجالات الحياة التي لبث شيء منها مدَّة طويلة بمنأى عنها.
إنّ حياة مفرغة من أية مشاعر دينيَّة، أو مستغنية بشكلٍ تامّ عن المتطلّبات المعنويَّة للإنسان، ولا تصبو للمتعالي، ولا تتوق للامتناهي، ولا تسعى لقول ما لا يمكن قوله، أو التعبير عن ما لا يمكن التعبير عنه، أو تصوّر لا يمكن تصوّره، إنّ مثل هذه الحياة لا تتّسع لها أرضنا.
إنّ حاجة الإنسان إلى الدين تنبثق من أعماقه، وحتى لو اجتاحت بعض المجتمعات جائحة تناهض الدين وما يتّصل به، فإنّها سرعان ما تضمحل وتعاود الظواهر الدينيَّة حضورها الأبدي من جديد، وربما بفاعليَّة وضراوة. ففي القرن التاسع عشر تحدّث فويرباخ، وماركس ونيتشه، … وغيرهم، عن غياب الإله، أو “موت الله” حسب تعبير نيتشه، غير أنّ الله انتقم لنفسه، فعاد الإيمان به يتّسع بمرور الأيّام، وتحقّق ما قاله اندريه مالرو: (إنَّ القرن الحادي والعشرين سوف يكون روحيّا أو دينيّا، أو أنّه لن يكون). صحيح أنه قد مات نمط التصوّر القروسطي للإله، وتشكّلت صورة بديلة عنه. أمّا الله تعالى فإنَّه حي لا يموت. وهو ظاهر ما غاب قط، وإن كانت أنحاء تصوّرات الإنسان عنه تموت وتغيب، لتحلّ بدلا عنها تصوّرات أخرى.
وما دامت حياة الإنسان تفضي إلى الموت، والإنسان كائن يتوق للخلود وينشد الأبديَّة بطبيعته، فلا يمكن أن يصل إلى اليوم الذي يستغني فيه عن الدين.
الدين هو المشروع البشري الذي يخلق كونا مقدّسا، وأن يضع الإنسان نفسه في موضعها الصحيح بالنسبة إلى العالم المقدّس معناه حمايتها من تهديدات الفوضى الكابوسيَّة، وأنَّ الخروج من ذلك الموضع يعني الانزلاق نحو حافَّة الهاوية.
ومعنى أن يعيش الفرد في كنف دين خاصّ هو افتراض أن يعيش في سياق اجتماعي خاصّ، يمكن لهذا العالم الديني داخله أن يضمن مصداقيّته، وحيث يكون ناموس الحياة الفكريَّة متماشيا في كثير أو قليل مع هذا العالم الديني يمثّل الانفصال عن هذا العالم تهديدا باللاناموس.
أنَّ ما يجتاح الحياة البشريَّة من جراحات ورضوض، وما يستبدّ بها من قلق، وكل ما ينتجه هذا القلق من كوابيس وتوتّرات واضطراب، ليس بوسع الإنسان الخلاص منه بالوفرة الماديَّة والرفاه وارتفاع المستوى المعاشي، لأن كل ذلك لا ينتج طمأنينة أنطولوجيَّة، وأملا مفعما بالغبطة، وسكينة، وأحلاما متسامية، وانسجاما مع الكون والعالم الذي يعيش فيه البشر. بيد أن الدين، وبما يخلعه على العالم من نظامٍ رمزي، يصيّره شفّافا جميلا، يتساكن معه الإنسان. إذ أن النظام الرمزي يمنح القيمة لمختلف المعاني التي تنطوي عليها التجليات المقدّسة. وإذا كان (أصل الدين هو الشعور بالتبعيَّة) حسب شلاير ماخر، فإن الدين يحرّرنا من الاغتراب الكوني، باعتباره نافذة نحو المتعالي، ووصال دائم معه، وبالتالي ارتباط بوشيجة عضويَّة أنطولوجيَّة بالعالم.
تديُّن ضدّ الدين:
إنَّ تاريخنا ليس منزّها وبريئا، وإنّما هو، كما يقول الدكتور محمد الطالبي (كالتاريخ الإنساني عموما، مليء بالانزلاقات والخروج عن الروح القرآني، وهو خروج قد يصل أحيانا إلى أبشع ما تكون عليه الانحرافات؛ حروب، وإراقة دماء، وظلم بكل أنواع، وتعذيب، وردّ السيّئة لا بالحسنة بل بأسوأ وأشنع منها.. إن العنف ونتائج العنف كلها غير مفيدة للإنسان، لأنّها مراهنات غير رابحة، ولهذا عادة ما يخرج المؤرّخ من دراساته التاريخيَّة منكرا للعنف، لإنّه إجهاض للحضارة الإنسانيَّة. أن العنف هو الذي قتل الحضارة الإسلاميَّة).
ولا ريب أنَّ التعصَّب والعدوانيَّة والاستغلال ظواهر متفشّية في الاجتماع البشري عبر التاريخ، كما أنَّ عنف الإنسان ضدّ أخيه الإنسان ليس طارئا في الحياة، بل هو سلوك بيولوجي، وسياسي، واجتماعي، وديني، وثقافي مترسّخ في دنيا الإنسان. وأنَّ رسالة الأديان ومقاصدها الكلّيَّة تتلخّص في إشاعة السلم والتراحم والمحبَّة بين الناس، والسعي لتجفيف منابع العنف والعدوانيَّة والتعصّب، ولكن طالما تمّ طمس تلك الرسالة ونقضها، بنشوء جماعات وفرق لا تقتصر على إعلان انتمائها للدين، وإنّما تصرّ على احتكار تمثيله، وتحرص على مخاصمة أيّة جماعة غيرها تقدّم فهما مختلفا للدين. وتهتمّ تلك الجماعات بتطوير أساليبها الدعوية باستمرار، وتسعى للهيمنة على الدين والدنيا، وتكريس الانغلاق على الذات، ومطاردة أية محاولة تهدف إلى نقدها، وإهدار دم الأشخاص الذين يصوّبون مفاهيمها، ويفضحون انتهاكاتها لإنسانيَّة الإنسان، وتزييفها لأهداف الدين، وإهدارها للقيم الروحيَّة.
وعادة ما تصدر هذه الجماعات عن قراءة حرفيَّة مغلقة للنصوص المقدّسة، لا تكاد تتجاوز المدلول اللغوي الساذج، وتشيع تفسيرا قمعيّاً للنصوص، تقبع خلفيّاته وقبليّاته النفسيَّة والثقافيَّة في الصحراء والمحيط البدوي المغلق على العالم، كما وتحارب بلا هوادة كافة القراءات التي تتخطَّى المعنى السطحي، وتغور في الأعماق، مستلهمة المضامين الروحيَّة الغنيَّة في النصّ، ومستوحية رؤيته الرمزيَّة، مثلما فعل المتصوّفة والعرفاء والفلاسفة الإشراقيّون، وغيرهم. مضافا إلى تنكّر هذه الجماعات للإسلام الحضاري، وتعبيراته التمدينيَّة، والثقافيَّة، والروحيَّة، والجماليَّة، واعتبارها هرطقة وبدعة، وزيغ وضلال. أمّا الإسلام المستقيم الصحيح في نظرهم، فيختزل في إسلام العصر التدشيني، أي إسلام جيل الصحابة خاصَّة، بينما تخضع المعطيات المتنوّعة للإسلام في المراحل اللاحقة، لاستراتيجيَّة صناعة النسيان ومحو الذاكرة، وكأنّها لم تعد موجودة.
والعلامة الفارقة لخطابات هذه الجماعات، هو تشديدها على ضرورة تبنّي آراء السلف ومواقفهم بتمامها، وهروبها دائما إلى الماضي، وارتيابها من كل ما من شأنه أن يطل على المستقبل، أو يتعاطى مع الواقع بعقلانيَّة نقديَّة مستنيرة، وسعيها المتواصل لتبجيل الذات. وعدم الكف عن امتداحها، واصطناع صورة رومانسيَّة مثاليَّة لها، تعلي من شأنها، وتدافع عن أخطائها، ونكساتها وتتجاهل ما يحفل به تاريخها من ثغرات، واستبداد، ومظالم، وما يسود حاضرها من تخلّف وجهل وأميَّة وفقر.. فيما تصطنع صورة للآخر ليست بريئة، يصبح فيها كل ما يمت إليه من معارف ورؤى ومفاهيم وقيم… رجسا مدنّسا، تجب مناهضته، وإعداد التدابير الوقائيَّة اللازمة لإغلاق مساربه وقنواته في مجتمعاتنا وتتفنّن هذه الجماعات في تجييش المهمّشين والمحرومين، وتتّخذهم مادة لبناء ثقافة خاصَّة بالانتحار وتمجيد الموت، يكون أحد روافدها صورة الآخر المشوّهة التي تصير منبعاً لكراهيته والغضب المتّقد عليه.
إنَّ تاريخنا ليس منزّها وبريئا، وإنّما هو، كما يقول الدكتور محمد الطالبي: كالتاريخ الإنساني عموما، مليء بالانزلاقات والخروج عن الروح القرآني، وهو خروج قد يصل أحيانا إلى أبشع ما تكون عليه الانحرافات.
إنقاذ النزعة الإنسانيَّة في الدين:
ما السبيل إلى تحرير الدين من الفهم المتوحّش، الذي يمسخه فيحيله إلى منبع للعدوان والتعصّب والكراهية؟
لعل السبيل الأمثل لبيان هشاشة هذا النوع من الفهم يكمن من السعي الحثيث للكشف عن النزعة الإنسانيَّة العميقة في الدين، وإضاءة الحقول المنسيَّة في النصوص المقدّسة، والتنبيه إلى الجهل، او التجاهل، والإصرار على تغييب مساحة واسعة من تلك النصوص، تغتني بالجوانب التنزيهيَّة السامية، التي تصطفي الإنسان، وترفع مكانته، وتعتبره أكرم موجود خلقه الله في العالم، بل خلق كل شيء مسخّراً من أجله، وجعل حياته أغلى رأسمال في الوجود، فهي مناط الخلافة، وموطن المسؤوليَّة والأمانة الإلهيَّة.
وتؤكِّد طائفة من المفكّرين على أنّ النزعة الإنسانيَّة عادة ما تنبثق في سياقات ثقافيَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة محدّدة، تشكّل إطارا اجتماعيّاً معرفيّاً مناسباً لتبلورها، ولم يتشكَّل هذا الإطار إلا في القرن الثامن عشر في أوروبا، بعد القطيعة الكاملة مع لاهوت القرون الوسطى، فهم يعتقدون بعدم إمكانيَّة انبثاق نزعة إنسانيَّة تتمحور حول مركزيَّة إلهيَّة، وإنّما لا تولد هذه النزعة إلا بعد التمحور حول الإنسان، وإحلاله في مركز الإله، وهو ما لم يحدث في الماضي، وإنما حصل في العصر الحديث.
لكن جماعة من المفكّرين، برهنوا على تجذّر النزعة الإنسانيَّة في الدين الإسلامي، أمثال: جورج مقدسي، ومحمد أركون، وجويل كريمر، كما دلَّل جاك ماريتان على أولويَّة العامل الروحي، وشدَّد على رسوخ النزعة الإنسانيَّة في المسحيَّة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ الاجتماع الإنساني طالما تعرّض للانتهاك بذرائع دينيَّة مختلفة، والكثير من الجنايات والمظالم والاغتصابات ارتكبت في التاريخ باسم الذود عن الدين، والدفاع عن ” شعب الله المختار”. وما زالت القراءة الفاشيَّة للنصوص تنتج أعداداً لا حصر لها، من الانتحاريّين، الذين يفجّرون أنفسهم، لقتل المصلّين في المساجد والكنائس وبيوت العبادة، بغية الفوز برضوان الله ودخول الجنَّة.
غير أن مراجعة نقديَّة للتاريخ، وقراءة تحليليَّة للنصوص، وتقويم للموروث من منظور مختلف، يمكن أن تفتح لنا نافذة على البؤر المضيئة والثراء والتنوّع في النصوص، ويمكننا في ضوء هذا النمط من التعاطي مع النصّ والتراث إدراك ما هو تاريخي، يعبِّر عن حالة معيّنة، ولحظة زمانيَّة محدّدة، وواقع مضى، وظرف خاصّ، لا يمكن تعميمه لكافة الوقائع والأحوال والأزمان، والتعرّف على المنطلقات الأساسيَّة، والأهداف العامَّة، والمقاصد الكلّيَّة، وهي ما تفصح عن الروح الإنسانيَّة فيها، وما يشي بالوجه المطموس للدين، الذي غيّبه ركام الموروث، مضافا إلى مادَّة وفيرة من تفسيرات متوحّشة للنصوص، تحكي عن إسقاطات لإيديولوجيا إقصائيَّة ومعتقدات قمعيَّة.
ولا ريب في أنّ اللاهوت التقليدي لا يسمح بانبعاث النزعة الإنسانيَّة في الدين، ذلك أنَّ مثل هذا اللاهوت يصدر عن رؤية أحاديَّة وذهنيَّة مغلقة، لا تسمح باستيعاب القيم الإنسانيَّة المنفتحة.
ومن هنا ينبغي تجاوز اللاهوت الكلاسيكي، وبناء لاهوت عقلاني مستنير، لو أردنا أن نجني ثمرات النزعة الإنسانيَّة في الدين وحاولنا الخلاص من التفسيرات المتعسّفة القمعيَّة للنصوص. وتحديث اللاهوت يتطلّب تساؤلات جديدة، تفضي إلى التحرّر من الصورة النمطيَّة للإله، التي تشكّلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة للإله، تستلهم ما يتحلّى به من صفاته الجماليَّة، وأسمائه الحسنى.
أنّ مراجعة عاجلة لنموذج من الأدبيّات السلفيَّة، سترينا بوضوح كيف أنّ هذه الأدبيّات بقدر ما تتحدَّث عن مناهضة الآخر، وانحصار أسلوب التعاطي معه بالقتل والإبادة، فإنّها تتكتّم على مساحة شاسعة في النصّ، تتحدّث عن الرأفة والرفق والعفو والعدالة والرحمة وغيرها، حتى يخيَّل لمن يستمع إلى منابر هذه الجماعات، أو يقرأ بياناتها، أنّها تتحدَّث عن دين خاصّ تنحته، وتعيد تشكيله في إطار وعيها، وخلفيّاتها ومسبقاتها وقبليّاتها ومفروضاتها الذهنيَّة، ولا علاقة له بالنصّ المؤسّس.
إحياء التجارب الإيمانيَّة الشفّافة:
إنّ البشريَّة اليوم بأمسّ الحاجة إلى تعزيز النزعة الإنسانيَّة، عبر استيعاب الحياة الروحيَّة الخصبة في الدين، وإحياء التجارب الإيمانيَّة المتنوّعة، تلك التجارب التي تمنح أصحابها رؤيا، يصبح فيها العالم ساطعاً شفيفا، ممتلئاً بالمعنى، يتخلَّق فيه الإنسان بأخلاق الله، وتغدو صفات الله مؤشّرات وغايات عظمى لمخلوقاته يجب أن يكدح الجميع للتماهي معها، والانخراط في مدّياتها الروحيَّة، بل يسعى العرفاء والمتصوّفة، الذين تطغى في وجدانهم أشواق الروح، للاتّحاد بها. ويرى تور آندريه، بأنَّ هذا الاتّحاد ليست له علاقة بتحوّل ميتافيزيقي، إنّما بتحوّل ديني أخلاقي، فالاتّحاد بالله يعني أنّ مشيئة الله تصير مشيئة الإنسان، وأنّ الإنسان يحلّ في صورة الله، بالمعنى الأخلاقي، أي أنّه يتقمّص، كما يقال، سجايا الله، فمثلا “المحبَّة” تعني كما يقول الجنيد” (دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحبّ).
ويخبرنا الداراني عن ماهيَّة هذه الصفات التي يمنحها الله إلى أصفيائه ويمن بها عليهم، فيقول: (جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالا باقية: الكرم، والحلم، والعلم، والحكمة، والرحمة، والرأفة، والفصل، والصفح، والإحسان، والعطف، والبرّ، واللطف). ومن هنا فإنّ (معاشرة العارف كمعاشرة الله يحتملك ويحلم عنك تخلّقاً بأخلاق الله الجميلة).
ونجد عدّة نصوص تصرّح، بأنّ الله هو “رب العالمين” ولم يسمح ربنا لأي شخص أو جماعة باحتكاره أو تمثيله دون سواها، وهو ليس إلها خاصّا ببني إسرائيل أو العرب أو العجم، وإنّما هو إله كلّ الناس، رحيم بهم جميعا، و(الناس كلهم عيال الله، وأقربكم إلى الله أنفعكم لعياله)، كما ورد في حديث من أرسله الرحمن “رحمة للعالمين”. وما أرق تعبير النبي الكريم حين يوضح المرامي والأهداف الإنسانيَّة لبعثته، فقد قيل له: (يا رسول الله، ادع الله تعالى على المشركين. فقال إنّما بعثت رحمة، ولم أبعث عذابا). ويحلو للمتألهين أن يرسموا صورة للنبي، يكون فيها (الكيمياء من أجل الإنسان)، فيما يصير الناس كالنحاس الرديء، لكن نوره يحوّلهم إلى ذهب. ومن طريف كتابات جلال الدين الرومي توصيفه للنبي، بأنّه (مطر الرحمة) باعتباره المعشوق الذي يعيد الحياة إلى الأرض العطشى للأرواح بحلوله.
ويبدو التخلّق بأخلاق الرحمن بنحو أجلي لدى ابن عربي، في موضع آخر عندما يذكر سمة مميّزة للربانيّين من أهل الكشف، ممّن ( يسألون رحمة الله أن يقوم بهم حسب تعبيره)، بمعنى أن يتحقّقوا بصفة الرحمة التي هي من صفات الله، فيصبحوا راحمين لا مرحومين أو يندمجان في الشخص ذاته، ولا يكون هناك فرق بين الراحم والمرحوم، فالحقّ سبحانه إذا رحم شخصا، يعني أنّه أوجد فيه الرحمة، أو جعل الرحمة تقوم به، بحيث يصبح قادرا على أن يرحم غيره من المخلوقات، وبذلك يصبح المرحوم راحما، أي أنّ الحقّ لا يوجد الرحمة في المرحوم ليرحمه بها، بل ليكسبه الصفة الإلهيَّة التي بها يرحم غيره. وهو في نظر ابن عربي لا يتحقَّق إلا للكاملين من العارفين.
نجد عدّة نصوص تصرّح، بأنّ الله هو “رب العالمين” ولم يسمح ربنا لأي شخص أو جماعة باحتكاره أو تمثيله دون سواها، وهو ليس إلها خاصّا ببني إسرائيل أو العرب أو العجم، وإنّما هو إله كلّ الناس.
وينفرد القرآن الكريم من بين الكتب المقدّسة في أنّ سوره تبدأ بـ”البسملة”. والتي تحتسب آية من كل سورة، حسبما ذهب جماعة من المفسّرين والفقهاء، وتشتمل البسملة على صياغة بليغة لبيان مفهوم الرحمة، أو هي تكثيف دلالي لمنطق الرحمة الذي يسود الكتاب.
ومن أجلى مصاديق التخلُّق بأخلاق الله هو تدريب النفس على حبّ الآخرين، وتمنّي الخير لهم. ويعتبر الحبّ منبع إلهام الحياة الروحيَّة، ومصدر الانجذاب إلى الحقّ تعالى.
وقد فسَّرت رابعة العدوية عدم كراهيتها لأي شيء باعتبار حبّها لله شغلها وملأ وجدانها، حتى أضحى صبغة لها، فنزّهها من كراهية أحط مخلوق، وهو الشيطان، فقالت: ( إنَّ حبّي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان).
والحبّ كالرحمة عند ابن عربي، فكما يصير المرحوم راحما، كذلك، لا بد أن يتعالى ويتسامى المحبّ إلى محبوبه لا أن يهبط ويتسافل، إذ يقول: (فالمحبّ الصادق من انتقل إلى صفة المحبوب، لا من أنزل المحبوب إلى صفته).
ويتعاظم إحساس جلال الدين الرومي بالحبّ والعشق، فيصبح لديه القوَّة المحرّكة للحياة الروحيَّة، وهو الكيمياء السحريَّة التي تتحوَّل بواسطتها مادة العناصر الخسيسة إلى مادة نفيسة ثمينة.
إنّ السبيل للتخلُّق بأخلاق الرحمن إنّما يتحقَّق عبر إنقاذ النزعة الإنسانيَّة في الدين، وإضاءة أبعاده الأخلاقيَّة والمعنويَّة والرمزيَّة والجماليَّة، وتطهير التديُّن من كافة أشكال الكراهية والإكراهات.
ولا ريب في أن ذلك لا يعني اختزال الإنسان في مجموعة مفاهيم وقيم مثاليَّة، تتعالى على بشريّته، وتصيّره كائنا سماويا مجرّدا، منسلخا عن عالمه الأرضي، مثلما تريد بعض الاتّجاهات الصوفيَّة والدعوات الرهبانيَّة، بل يعني إنقاذ النزعة الإنسانيَّة إيجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلّبات جسده من حيث هو كائن بشري، وإمكانيَّة غرس وتنمية روح التصالح مع العالم، والتناغم مع إيقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع كافة الكائنات الحيَّة والشفقة عليها، وتعزيز أخلاقيَّة المحبَّة، وتدريب المشاعر والأحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع إلهام الطاقة الحيويَّة الإيجابيَّة في هذا العالم، والتواصل العضوي معها. وهذا يعني استيحاء صفات الرحمة والمحبَّة والسلام ونحوها من الرحمن، وليس صفات الموت والانتقام ونحوها من الله تعالى.
_______
*الراصد التنويري- العدد (1) – أيار مايو 2008.
*المصدر: التنويري.