أودية الفقد؛ رحلة البحث في طلاسم العدم
لافتة البدء:
حَرِيٌ بِنَا القول؛ وربما الأصَحّ الاعتراف، إننا غادرنا العلاقة مع كتب الأطفال منذ عقود خلت، لكن أخيلتها وسحرها الأخَّاذ ما يزال يُلَوِّن عاطفتنا بصورٍ وادعةٍ حالمة، ويطلق العنان لمدركاتنا لإضفاء بعض نقاء البراءة على تصوراتنا المُسَوَّرَة بعواصم الوجدان. وأعتقد أننا قد نكون محقين، وربما بشكل صحيح، ولدرجة معقولة، وأحسبها عاقلة، إذا نَظَرَت عَيْنُنَا إلى المرآة وتأكدت من أننا سنحصل على نفس الابتسامة، رغم عبء السنين، ومعاناة الذات، وجُرح الوطن الحزين. ففي جميع أنحاء وعينا نشعر بأننا نقف على ناصية الصواب، ومن هذه الناصية نُريد حمل أنفسنا على العودة إلى منزلة التروي قبل إطلاق حُكمٍ يقبله غيرنا؛ بلا تحيزات. فقد كنت أمسك بكتف الحقيقة وأحتضنها بشدة، لدرجة أنني خِلْت أنني سأؤذيها إذا لم أجعلها تتنفس برئة أخرى، وأظل أراقبها فقط حتى تُفضي بمكنون رؤيتها لأسْمَاعٍ صَمَّها رَهَقُ الوشايات الكذوبة. وربما تفاجئها عاطفة التواضع فتقول: إنها قد غيرت رأيها، ويمكنها الآن إفساح المجال لقبول أشراط الحقيقة، أو دفن رفات تعاويذ الموت. ويصير باستطاعتها أن تَتَبَّع الطرق المؤدية إلى “وادي الأسرار المفقودة” حيث كل شيء مختلف، وقد يكون مُزعجًا، خاصة وأنَّ زائريه لا يستطيعون أن يتكيفوا عليه بسرعة؛ لاضطراب مزاجهم ومذاقهم. ولكن بعد ذلك سيجدون شيئًا لم يكونوا يتوقعونه، شيئًا أقرب وأكثر رعبًا من آثار الحرب البعيدة؛ إنه النسيان، لا الغفران. إذ إن “وادي الأسرار المفقودة” هو قصة تدور أحداثها خلال الحرب، ولكنها لا تركز على الحرب، وليست عَرَضًا لهذه الحرب. إنها في الحقيقة مجرد خلفية للأحداث، التي تبدو مناسبة بالنظر إلى مشاعر الزوار المقصودين بما خَفَّ من تفاصيلها، وإعدَادِهم لاحتمالات التعرض لها، في أوقاتٍ يَقِلُّ فيها النصير.
مُقَارَعة النصوص:
لقد تعودت أن أرسل بعض مسودات مقالاتي لِنَفَرٍ من خاصة أصدقائي؛ عَلَّ واحدًا منهم ينبهني لهناتٍ تجاوزت صوابها الغفلة، أو يقارع نصي بحجة نافذة، أو يجود بملاحظة لما ينبغي استدراكه، أو استفسار ما تعثر عليه فهمه، أثناء مطالعته للنص، أو يُحَفِّزُ آخر على إيضاح ما لم تستبين لَدَيَّ فكرته. وأجد في كل الملاحظات عونًا على التجويد، وتأخذني بعضها إلى مداخل تجديدٍ، أو متابعة، لما ظننته قد استوفى شرط تحققه. ونادرًا ما أشغل أهل الهم العام بطلبِ ملاحظات، وإنما أكتفي بعبارة “لاطلاعكم الخاص”، لأني أقدر فيهم الحرص على هذا الاطلاع من دون أن أطمع، أو أطمح لإشغالهم بما لا يتوفر له عندهم من وقت للرد، أو المراجعة. ومن بين من تتباعد بيني وبينه مراسلات من هذا النوع، فضيلة الدكتور أحمد العبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، الذي رغم طول عهد صداقتنا، ما زلت غير مُتَيَقِّنٍ من أي تخصصٍ نَهَلَ معارفه، إذ يدهشني كلما تحدث، فأحسب أن ما يقول فيه هو أصل تخصصه، إلى أن أفاجأ بحديث آخر، في فرعٍ قصيٍ عصيٍ من فروع المعرفة يُجيد فيه بأكثر مما سبق أن سمعت، فأعيد تقديراتي، وأرتفع بتقديري لموسوعية معارفه في كل ما يخوض فيه. فمعرفته الشاملة تأخذك بألق براعته في التعبير الطَلِق عن جوهر مضامينها، ويشدك الإعجاب باستنباطاته واجتهاداته الخاصة حول ما يقرر، أو يُطلب منه الحديث فيه. لذلك، عندما تولى أمر الرابطة توسعت حقولها، وتَحَلَّقَ حولها أهل المعارف الظامئين للحصول على مزيد.
ومناسبة هذا الحديث، أنني أرسلت مقالًا إلى الدكتور العبادي عن “موت الأشياء”، يستجلي من خلال الأدب والفلسفة غوامض الموت، طَوَّفْت فيه شرقًا وغربًا عَلِّي أجدُ تِبيانًا لما يتعور حياتنا قبل أن يأتينا “اليقين”. فعاد إليَّ فضيلته مُهاتِفًا وقد استرعى انتباهه “وادي الأشياء المفقودة”، الذي وردت الإشارة إليه في ثنايا المقال، فسأل سؤال العارف، الذي يشوقه أن يتلقى المزيد على ما تحتضنه ذاكرته الحافظة من معلومات. فأجبته، من دون كَثِيرَ تفكيرٍ، بأنه “وادي الدرادر”، الذي رأيت مِرَارًا الإشارة إليه على جانب الطريق الرابط بين الدار البيضاء ومدينة فاس، في كل زياراتي العديدة لها. وقد استدعى الربط العفوي بين “وداي الدرادر” الحقيقي في المغرب، وبين وادٍ أسطوريٍ أنتجه أدب الخيال الأمريكي، فكرة الفقد في الواديين، التي تُجَسِّد معنى الموت، أو العدم. وإذا كان الثاني قد عُلِّقت عليه كل كمالات “الأسطورة” والرؤيا الساحرة للمثاليات الفاضلة في المخيال الأمريكي، وجُعِلَ له مقابل أرضي افتراضي “رمزي”، هو الوادي السابع في ولاية ميريلاند، الذي أصبح مَكَبًّا للمفقودات من الأشياء الصغيرة، لترمز لخلو الأمثل “وادي الأشياء المفقودة” من مِثْلها، فإن الثاني “وادي الدرادر” قد فُقِدَت فيه أرواحٌ برئية، أسَرَتْهَا مُبَاغَتَات الطبيعية في لحظة قَدَرٍ محتوم. وما عَلقَ بذهني منها هو خبر تلميذة، في ربيعها الرابع عشر، لقيت مصرعها غرقًا، في ظهيرة يوم الجمعة 8 يناير 2021، بعدما جرفتها سيول و”ادي الدرادر” في جماعة المجاعرة بإقليم وزان. وكانت التلميذة المنحدرة من دوار الهواوس في طريق عودتها من مدرسة أبي بكر الرازي الإعدادية. لذلك، عاجلت ذكرى “وادي الدرادر” ذاكرتي، فأجابت الخاطرة عني، من دون أن أفطن أن العبادي يريد أن يُعيدني إلى أرض “أوز” الساحرة، وفقًا للأسطورة الأمريكية.
بين واديين:
بيد أنني، إلى جانب هذه الحادثة المؤلمة في “وادي الدرادر”؛ وكلما هو مؤلم يختزنه الوجدان، ربطت بين العبادي المغربي وما أعرف من تجربته الأمريكية في جامعة شيكاغو العريقة، وما بين الواديين من مماثلة تقديرية، فيما تستحضره الذاكرة، لأنهما يتخفيان بأنساق متباينة في حافظتها الواعية. وقد زاد من رسوخ اسم هذا الوادي المغربي في ذاكرتي حقيقة أن في السودان قرية تُسَمَّى “الدرادر”، نلت شرف زيارتها، وتقع على الضفة الشرقية للنيل الأبيض، وتبعد حوالي 27 كيلومتراً جنوب مدينة القطينة. ودائمًا ما حاولت إيجاد علاقة بين الوادي المغربي والقرية السودانية، آخذًا في الاعتبار الهجرات المغربية الكبيرة، التي أعقبت القضاء على “الفردوس المفقود”، أو غروب شمس دولة الأندلس، واستقر من بعدت بهم النجعة في السودان، وسبقهم ولحق بهم الحجاج المغاربة، الذين احتلوا فضاءات واسعة على ضفاف النيلين الأبيض والأزرق، وإن كان حسانية “الدرادر” السودانية هم بعض من هاجر قديمًا عبر السودان إلى جنوب المغرب وموريتانيا، وعمروا قُرىً وحواضرًا كثيرة هناك، وفيما هو أبعد من فاس و”وادي الدرادر”، الذي ما تزال “لافتة” التأشير عليه تسترعي جُملة انتباهي بمصافحة العين لها، كلما سنحت لي رحلةُ وَصلٍ مع فاس، وبعد أن توطدت في القلب لواعجها كوحدة قياس لأشواق اللحاق بالمكان.
وبهذا المنطق، فإن كلا الواديين؛ “الدرادر” و”وادي الأشياء المفقودة” هما في كل مكان حولنا، ونحن نتجول فيهما بدرجات مختلفة من عدم الفهم لما يخفيان من مفقوداتنا ومكنونات أسرارنا. فنحن فيهما، وقد نكون بعض مفقوداتهما، خاصة لمن سقطت مقاديرنا من مسارب وعيهم، أو هم هناك، ولكنهم سراب لا تجدي سرعات اللحاق بهم فتيلًا. وقد يكون كِلانا في “المنزلة بين المنزلتين”، اللتين لا تربطهما وشائج جيرة، ولا تقربهما آصرة ذِكْرَى، ولكن تغلفهما غلالة من وهم الضياع. وكما يفترض دانيال بون بقوله: “لم أضع أبدًا، لكنني سأعترف بالارتباك لعدة أسابيع” لمجرد التفكير في الضياع، إذ كنت أفكر في فقدان الأشياء واسترجاعها كثيرًا مؤخرًا، في دوري غير المتوقع ككاتب سيرة يُؤرْشِف لـ”موت الأشياء”، ويحاول تخليد “ذاكرة المكان والزمان”، وما اضطرب بينهما من مظان العلاقات المطمورة في جُبّ الغياب. ويجوز القول إنه عندما بدأت بحثي عن أودية الفقد، وجذاذات العدم، كان عَلَيَّ أن أبدأ باستعادة قصاصات لا حصر لها من الأوراق المتناثرة والمعلومات المبعثرة في زوايا الذاكرة المُتْعَبَة، التي يجب أن تبدو واضحة ذات يوم تصفو فيه البصيرة على حقائق غَمَّت عليها سحائب الهطل العَطِنَة، أو حجبتها دواعي الرفق الفَطِنَة. وإن كان عَلَيَّ أن أبدأ فقد يتوجب أن استذكر كل الأشياء، حتى الهامشية منها؛ مثل عددٍ من الصور، وحشدٍ من الأسماء، التي من الصعب التحقق منها؛ في بَلَدٍ تموت ذاكرته، وتنزوي فيه الأحزان على موروثاته. كما أن هناك حقائق هائلة تتضاءل بنفس القدر، مثل كيف يمكن لمن فقد أن يلتقي بمن فارق في رحلة اللاعودة، التي يبدو أنها قد أخفت بالفعل مضمونها في الوادي السابع؛ “وادي الأشياء المفقودة” وضاعت إلى الأبد. فذاكرتنا هي المكان الوحيد، الذي تظهر فيه الأشياء المفقودة، بغض النظر عن مكان فقدها في العالم، ولا يمكن العثور عليها إلا من خلال الاستسلام لحقيقة هذا الفقد بحثًا عنها، والاعتراف بأن جهد هذا البحث مساوٍ في المعنى للقناعة بالعدم تمامًا، إذا ساورت الظَنّ شكوك الغياب.
أرض أوز:
يعلم الأخ العبادي أن الولايات الأمريكية المتحدة قد عَوَّضَت ضعف محصولها التاريخي والحضاري بتوظيف الأسطورة، ومحاولات خلق أرض الخيال الأمريكية، والترويج لأرض الفرص الموعودة، وغيرها من الروائع المنسوجة بين الواقع وافتراضات السمو فوقه، وكأنها تُرِيدُ أن تقول لنا إن “البناء الفوقي” في رأسماليتها هو أعلى بكثير مما جعله كارل ماركس حدًا لبعديه “التحتي” والفوقي”، أي المادي والثقافي. فقد تجاوزت “فوقية” أمريكا سماء “قوس قذح”، وأنشأت “يوتوبيا” مملكة فاضلة تجتذب إليها الخيال المجنح، والجانح لامتلاك ما لم تَنَلْهُ الأوائل. ومن أشهر ما أبدع فيه الأدب الأمريكي في هذا المقام هو “أرض أوز” السحرية، التي هي إمبراطورية رائعة تم إنشاؤها في ذهن رجل يدعى فرانك باوم Frank Baum، الذي كتب كتابًا رائعًا وجذابًا عنها، حتى عُرِفَ باسم المؤرخ الملكي لأرض “أوز”، باعتباره مؤلف ومبتكر إرثها الإمبراطوري الباذخ. وتقول الأسطورة إنه في مكان ما فوق “قوس قزح”، هناك مكان مصنوع من الأحلام، هي “أرض أوز”، وهناك “مدينة الزمرد” تتألق وتلمع، وهي المكان، الذي أتمنى أن أكون فيه، لأنها أكبر مدينة وأكثرها صلة في “أرض أوز” السحرية بالأحلام البرَّاقَة. وتقع المدينة في الوسط، كونها العاصمة الإمبراطورية الرسمية للبلد بأكمله. ومن مِنَّا لا يُرِيدُ أن يكون مواطنًا في عاصمة بهذا الوصف، وينعم بسكناها وشائق أحلامها الوردية.
ووفقًا للتاريخ، فقد ظهرت هذه القصة الخيالية لأول مرة منذ أكثر من مائة عام في كتاب باوم الأول عن “أوز”، الذي كان بعنوان: “ساحر أوز الرائع”، الذي نشر في عام 1900، وكان أول حكاية خرافية أمريكية مكتوبة في الأراضي الجديدة، وبعد جرى استئناس “الغرب المتوحش”، ودالت السلطة فيه لـ”براجماتية” الرجل الأبيض. وتكرر العنوان في تقديم المؤلف للفصل الحادي عشر من الرواية، الذي وُسِمَ بـ”مدينة أوز الرائعة”، وغالبًا ما يشار إليها أيضًا باسم “مدينة الزمرد” في النص الأصلي، التي هي العاصمة الإمبراطورية الرسمية لجميع الأراضي، وفي مثل هذا استعارة تُشبه ما تمثله العاصمة واشنطن، للولايات الأمريكية المتحدة. لذلك، لا أعتقد أن الرواية تمثل شيئًا أكثر من تجليات الحلم الأمريكي في أرض الفرص المتاحة، لأنها أوجدت فضاءً أوسع بكثير من الحلم الأوروبي في التوسع الاستعماري. وقد نقول حسنًا، كان من الممكن أن تكون المماثلة بين الواقع والحلم هي ادعاءٌ مفيدٌ جدًا في سياق نظرية الترابط في التفكير، والتي يتم تصميمها لشرح كيفية إقامة صلة بين الأشياء والميزات، التي تمتلكها. المثال الكلاسيكي هو رؤية الدخان على الجبل والتفكير على هذا الأساس في وجود نار على الجبل، لأنه حيث يوجد دخان، توجد نار، وحيث توجد نار؛ توجد بالضرورة جنة عرضها السماوات والأرض.
إن “وادي الأشياء المفقودة”، كما تقدم، هو الوادي السابع والأخير في ولاية ميريلاند، الذي لا يعيش فيه أحد، ونادرًا ما تتم زيارته. رغم أن كلما ضاع شيء في العالم الخارجي، ينتهي به المطاف في هذا الوادي. وإذا تجاسرنا على وصفه، يمكننا القول إنه عبارة عن أرضية مغطاة بالكامل بآلاف المفقودات، وبالعملات المعدنية والدبابيس والأزرار والقبعات والمعاطف، التي تنتشر حولها أكوام من الكستبانات، والأزرار، والخواتم، وأقلام الرصاص، والبنسات، وغيرها من المهملات. كما أن هناك الكثير من قبعات الأولاد والمعاطف، على الرغم من أن عددًا قليلًا جدًا من قبعات الفتيات يقبع بجوار هذا الركام الذكوري للمفقودات المنسية. وتقول الأسطورة إنه عندما زارت دوت فريلاند وتوت طومسون الوادي مع ملكة ميريلاند، وجد توت لعبة مفقودة منذ فترة طويلة، وسُمِحَ له بأخذها معه لأنه، بعد العثور عليها، لم تعد تنتمي إلى الوادي بعد الآن، حيث إن ميريلاند تتكون من سبعة وديانٍ، وآخرها وأقلها زيارة هو “وادي الأشياء المفقودة”، ومن يتجاسر على زيارته، ويجد فيه شيئًا يروقه، يخرج هذا الشيء من ربقة الفقد، ويتسامى على العدم.
حكمة الإشراق:
إن “أرض أوز” هي محض خيال غربي يُرَادُ له أن يقترب من الواقع في فضاء أمريكي كثيف التعقيدات، وغارق في الماديات. لذلك، قد نفترض أننا يمكن أن نتفق جميعًا على أنه من المستحيل رؤية شيءٍ غير موجود في الواقع. ولكن هناك سؤال أكثر صعوبة: هل يمكننا أن نرى أن شيئًا ما غير موجود بالفعل؟ ففي الفن، قد يتوقع مخرج المسرحية أن يدخل الممثل على جَدَيلة، أو أية هيئة أقَرَّهَا النص. وإذا لم يحدث هذا، سيرى المخرج، بقلق كبير، غياب الممثل، أو ربما يطلب من أحدهم إحضار قطع من القماش من كومة، مع أخذ فقط تلك، التي ليس عليها علامة. وفي هذه الحالة، سيبحث المبعوث عن عدم وجود علامة على القماش في “وادي الأشياء المفقودة”. وإذا كان يبحث عن شيء ما، فمن الأفضل أن يراه، ولا مجال هنا إلا أن يتخيله فيتبنى الحصول عليه في حِرز الغياب. وحتى لا نصدق ما يزعم الخيال الغربي، فقد أنكر فيلسوف بوذي يدعى دارماكيرتي ذلك، إذ جادل بأننا لا نُدرك الغياب في مثل هذه الحالات، ولكننا ببساطة نفشل في إدراك الشيء ذي الصلة بما نبحث عنه. ولذلك، فإن معرفتنا بأن الشيء غائب؛ “مرة أخرى”، ليست مسألة إدراك، بل مسألة استدلال، وتَصَوُّر قدرتنا على الاستدلال هي في قناعتنا؛ “بما أننا لا نرى ثعبانًا، إذن فلا يوجد ثعبان هنا”، الحمد لله. لكن بعض المدارس البوذية تتمسك بادعاءاتها، حتى أن نصوصها اللاحقة أضافت أن الغياب هو خصائص حقيقية متأصلة في الأشياء، مثل الألوان، أو الميزات الإيجابية الأخرى.
فمن منظور فلسفة الشرق “الإشراقية”، يبدو اعتراض دارماكيرتي معقولًا جدًا، وإلا فلماذا أصر هؤلاء الفلاسفة على أنه يمكننا إدراك الغياب؟ يقول غوتاما “بوذا” وأتباعه إنه لإثبات مثل هذا الاستنتاج، يجب أن نناشد حالات مماثلة؛ مثل، في الماضي رأيت دخانًا في المطبخ، وكان هناك حريق في المطبخ أيضًا، وهنا كان الدخان علامة على وجود الشيء، الذي نهتم به، وهو النار. ويمكننا كذلك دعم الاستنتاج بالإشارة إلى حالة سالبة غير مماثلة، كأن نُشِيرُ إلى أنه لا يوجد دخان في المطبخ عندما لا يقوم أحد بالطهي، ما يعني أن غياب الدخان هو علامة على أن النار غائبة أيضًا. والآن يمكننا أن نرى لماذا سيكون من المنطقي أن نُصر على أنه يمكننا إدراك الغياب، وليس من المفترض أن تكون مثل هذه الحالات استنتاجات بحد ذاتها، ولكنها تصورات ترخص لنا بعمل استنتاجات. فرؤية المخرجة لغياب الممثل على خشبة المسرح هو الأساس لاستنتاجها أن شيئًا ما قد حدث بشكل خاطئ، وأن رؤيتتنا لغياب الدخان في الحالات، التي لا يوجد فيها حريق تدعم قناعتنا بأن الدخان والنار يجتمعان دائمًا. ويمكن أن يساعدنا إدراك الغياب أيضًا في التفكير المعاكس للواقع، وأن المنطق هو أنه لو احترق منزلي، لرأيت دخانا، لذا، فإن رؤيتي لغياب الدخان دليل على أن منزلي لم يحترق، لحسن الحظ.
إن الأغراض الأكبر لهذه الرؤية الشرقية، إذن، تخدمها بشكل جيد ادعاءات حول إدراك الغياب. ولكن هل هذا الادعاء مقنع؟ بالنسبة لي يبدو من المعقول أن نقول إن أنواعًا مختلفة من الإدراك موجهة نحو أنواع مختلفة من الأشياء: إذ نرى اللون، ونسمع الضوضاء، ونشم الروائح، وما إلى ذلك. وفي كل حالة، سيكون الكائن واقعًا إيجابيًا، وليس غيابًا مطلقًا. لذلك، نميل إلى الاعتقاد بأن دارماكيرتي كان لديه نقطة جيدة في القول بأن “رؤية” الغياب هي مجرد فشل في الرؤية. وقد قال أرسطو شيئًا مشابهًا، وهو أنه لا يمكننا “رؤية” الظلام إلا بالمعنى المشتق من النور، من خلال ملاحظة أننا في الواقع نفشل في رؤية أي شيء لا تحتويه هذه المقابلة. علاوة على ذلك، ففي أي وقت من الأوقات، هناك عدد غير محدود من الأشياء غائبة عن بيئتنا المباشرة: أفراس النهر، والأجسام الغريبة، والملوك الغابرون، إلخ. لذلك، من الواضح أننا لا نُدرك كل هذه الغيابات، إلا إذا كان بإمكاننا حقًا إدراك مضمون الغياب، إذ يجب أن يكون غياب شيء اعتقدنا أنه قد يكون موجودًا ولا نجده، غير أنه في الحقيقة لم يوجد أبدًا في الواقع. وهذا يدفعننا في اتجاه التفكير في أن نوعًا من الاستدلال متورط بالفعل في محاولة إقناعنا برؤية العدم؛ لكن ربما نفشل في رؤية هذه النقطة، أو التحقق من هذه الرؤية.
أحزان الفقد:
لقد ذكرت في مقالة “موت الأشياء” أن هناك الكثير من الأشياء، التي كانت لها قيمة عالية جدًا في حياتنا، قد تكون الآن في عداد المفقودات، التي تَغَشَّاها النسيان، وصارت في عداد العدم. إلا أننا ربما نَتَعَرَّف على أن ما ضاع مِنَّا هو فقط ما إذا كان يحتوي على “الأشياء” المثيرة للاهتمام، التي نفتقدها حقًا؛ مثل، وثائقنا الخاصة، وتذكاراتنا الحميمة، أو حتى أناسٍ تضاءلت قيمة الإحساس بوجودهم، إلا ببعض وشائج متعدية على حقيقة القصد بتقديرهم، الذي كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان. فزمن الفقد لا نُقايسه بأطوال وأبعاد مادية حقيقية، وإنما هو شعور عميق بـ”إسرائهم” في لجة الوقت السحيقة، التي بلا نهايات، وبلا عودة. لكن من المحتمل أننا قد نُفكر أحيانًا في بعض الأشياء الصغيرة؛ الأشياء، التي ربما نكون قد اعتبرنا أن ضياعها أمرًا مفروغًا منه في البداية، غير أنها في الحقيقة بَعْضٌ مِنَّا، ولكن سبق أن آثرنا بها المستظلون بسدرة المنتهى. فبعض “الأشياء” و”الناس” كالفيروس التاجي؛ أولسنا مُدْرِكين لحقيقة ما قد اكتنفنا جميعًا من غموضٍ أبْدَلَ المعنى في أحكام تقديراتنا، إذ خضعنا لتجربة العيش على حافة الغموض ومَهْلَكة العدم يوم غُمَّ علينا رؤية هلال النجاة من جائحة حاصرت كل سبل حياتنا ومسارات تصرفاتنا. فقد تأثر كل جزء من هذه الحياة، تقريبًا، بجائحة هذا الفيروس التاجي “كورونا”، وصرنا جميعًا نعيش في عالمٍ جديدٍ تمامًا عَمَّا كُنَّا عليه قبل عام 2020. وحتى الآن، عندما نُحاول أن ننتقل إلى “الوضع الطبيعي الجديد”، فمن الشائع أن نتذكر كيف كانت الأمور من قبل أن تتبدل طرائقنا وعاداتنا. ويُغَلِّف هذا التَذَكُّر أن جزءًا من الخوف وعدم الراحة، الذي نشعر به، هو في الواقع بعض الحزن المُمِضّ على ما افتقدنا، أو تَبَدَّلَ من عاداتنا.
ربما نكون قد سمعنا عن الحزن فقط من حيث هو رديف الموت، لكنه أكثر من ذلك بكثير؛ إذا كان موت للإحساس. فالحزن هو المشاعر، التي نُحِسُّ أنها مُرْتَبِطَةً عندنا بالخسارة، حتى لو كانت هذه الخسارة شيئًا مثل جدول أعمالنا المعتاد، أو إحساسنا بالأمان، وقدرتنا على التحكم في تصرفاتنا الاجتماعية. ومن هنا، ننظر إلى الحزن كعاطفة معقدة تَحْمِلُنَا على مراجعة النفس كلما أمسكت غُصَّةٌ بتلابيب الفرح في قلوبنا. وقد يُدْرِكُ الكثير من الناس أن هناك مراحل متميزة من الحزن؛ َتتَدَرَّجُ، أو تَتَدَاخل بين تضاعيف جوانحنا وجوارحنا، وقد لا نَمُرُّ بها جميعًا في وقتٍ واحد، أو ربما نُواجهها بترتيب مختلف، ولكن جميعها تبدو كاستجابات شائعة للخسارة. إن الحزن في وقت الغموض يبدو كلغز لا يمكن حلها أبدًا، وقطعًا لا أتحدث هُنا عن ألغاز الموت، أو الفناء، ولكن سر الأشياء، التي تختفي من مكانها في دواخلنا، والتي نقضي ما تبقى من حياتنا في البحث عنها، ونتساءل كيف فقدناها. وأنا واثق من أننا جميعًا قد مررنا بشكل من أشكال، أو إشكاليات هذه الحالة. فقد يفاجئنا أحيانًا مَلْمَحٌ مماثل لما، أو لمن افتقدنا، فنركض في زوايا الذاكرة بحثًا يائسًا عنه، ونحاول إدراكه، أو استدراكه في كل المظان. ومع ذلك، لن نكتب لحافِظَتنا شهادة النجاح. فأين ذهبت بقاياه، أولم يكن يمشي مُكِبًّا على وجه الأرض؟ ولكن نظل نتساءل أين اختفت جميع معالمه الأخرى، وقد أطل مَلْمَحٌ له فجأة؟ ربما، لم نتمكن من معرفة كيفية حدوث ذلك، لكننا سنفهم يومًا سبب ارتباط المفقودين بسلاسل الإهمال.
سِفر الخروج:
وختامًا، نُقِرُّ أننا جميعًا مخلوقات جُبِلَت على العادة، ولكن اتخاذ مسار مختلف في حياتنا، أو مغادرة روابط قديمة والسير في اتجاه لا نذهب إليه عادة، يُعاكِس طبائعنا وطبيعتنا. وتُشير بيانات تجاربنا إلى أن هذا النوع من المغامرة؛ إذا أبْدَلناه باجتراح مسارات فكرة التنويع، فهو مدعاة لاضطرابٍ تختل معه الموازين، حتى وإن بدأ فعالًا في تعزيز الأصول الإيجابية لإنسانيتنا. إن استكشاف “أماكن” جديدة أسهل قولًا من فعله في الوقت الحالي؛ لكن البحث في حد ذاته هو فحَصٌ أيضًا لأنواع البيئات، التي كان المشاركون المفقودين فيها، ووجدنا أنه لم يكن الموقع فقط هو، الذي أحدث فرقًا، ولكن التنوع العام للتجارب اليومية، والتي خُضناها بِذاكِرَةٍ مشتركة. وبشكل حاسم، نعتقد أن النتائج مرتبطة كذلك بتجربة الشخص الأساسية، مما يعني أنه عندما نعيش حياة هادئة إلى حَدٍ كبير؛ كما هو الحال مع الكثيرين مِنَّا الآن، إذ حتى جرعة صغيرة من الجِدَّة والجِدِّية يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ كبير. ولربما يكون خط الأساس لدينا قد تحول بحيث أنه من خلال إعادة حقن كمية صغيرة فقط من التباين في يومنا هذا، يمكننا الحصول على دفعة جديدة من الأمل.
__________
* الدكتور الصادق الفقيه : سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.
الأحد، 24 مارس 2024
صقاريا، تركيا
*المصدر: التنويري.