أنماط التعلُّق وتأثيرها على العلاقة الزوجيَّة
في عالمنا اليوم، نجد أنَّ العلاقات الإنسانيَّة تشكّل جزءًا أساسيًا من حياتنا اليوميَّة. نتفاعل مع الآخرين في مختلف السياقات، سواء كان ذلك في الأسرة، أو في العمل، أو في الصداقات، أو حتى في العلاقات العاطفيَّة. واحدة من المفاتيح الهامة لبناء علاقات صحيَّة ومستدامة هي فهم مفهوم ” التعلُّق ” وكيف يؤثر على تفاعلاتنا مع الآخرين.
تعدُّ نظرية التعلُّق واحدة من أهم النظريات في مجال علم النفس الاجتماعي وعلم العلاقات الإنسانيَّة. فهي تسلط الضوء على كيفية تكوين العلاقات وكيف يمكن أن يؤثر نمط التعلُّق على جودة هذه العلاقات. من خلال هذا المقال، سنستكشف مفهومات التعلُّق المختلفة، وسنناقش كيف يمكن لكل نمط أن يؤثر على العلاقات الإنسانيَّة.
اعتقد علماء النفس منذ عقود طويلة بأنَّ الطبيعة البشريَّة تميل إلى تكوين علاقات شخصيَّة والحفاظ عليها، من هذا المنظور، يسعى الناس إلى إقامة علاقات مع الآخرين لسدّ حاجة أساسيَّة، وتعدُّ هذه الحاجة الأساسيَّة أصل العديد من الظواهر الاجتماعيَّة المهمَّة، بدءًا من ارتباط وتعلُّق الرضَّع والراشدين إلى تصوّرات التمييز الشخصي والجماعي.(7).
نظريَّة التعلُّق لجون بولبي
أنماط التعلُّق هو مفهوم مشتقّ من نظريَّة التعلُّق لجون بولبي ويشير إلى الطرق المميزَّة للشخص التي يقدِّم بها الرعاية الحميميَّة ويتلقَّى بها العلاقات مع “شخصيَّات التعلُّق” التي غالبًا ما تكون؛ الوالدان والأطفال والأزواج الرومانسيون. يشتمل مفهوم التعلُّق على ثقة الفرد بوجود قاعدة آمنة، يمكن من خلالها استكشاف العالم بحريَّة عندما لا يكون في محنة، بالإضافة إلى ملاذ آمن يمكن من خلاله طلب الدعم والحماية والراحة في أوقات المحن(8).
في البداية، قامت التحقيقات التجريبيَّة المبكِّرة في الصياغات النظريَّة لبولبي على ملاحظات الرضَّع والأطفال. ثمَّ بدأ الباحثون في سنوات لاحقة، باستكشاف أنماط التعلُّق بين الراشدين، وأشارت الأبحاث لاحقا إلى أنَّ تفاعلات الطفولة المبكّرة، يمكن أن يكون لها أثر عميق على العلاقات عند الراشدين. (4).
التعلُّق في سنِّ المراهقة
في مرحلة المراهقة والبلوغ، يكون التعلُّق أقل استقرارًا ممَّا افترضه المنظِّرون الأوائل، إذ يتأثَّر بالظروف والتجارب الشخصيَّة. يقترح العلماء أنَّ أسلوب التعلُّق عند المراهقين هو نتيجة لمفاهيم ذاتيَّة ثابتة واستجابة لسلوكيَّات الوالدين والأقران التي تمَّت تجربتها أثناء الطفولة. في وقت ما بين سنّ 8 و14 عامًا، يحدث تحوُّل يلجأ عنده الأفراد إلى الأقران بدلاً من الوالدين للحصول على الدعم العاطفي والراحة. إذا تمَّ إعاقة هذا التحوُّل، إمَّا عن طريق المقاومة الأبويَّة أو عدم قبول الأقران، فإنَّ احتمال إنجاز المراهق للمهام الرئيسيَّة للتنمية الاجتماعيَّة، مثل إقامة علاقات رومانسيَّة طويلة الأمد سيكون أقل.
قد تظهر بعض أنواع التعلُّق غير الآمن مع السلوك الشخصي للمراهقين. تترافق أنماط التعلُّق، وخاصَّة التعلُّق القلق مع صعوبات في تطوير العلاقات الحميمة والروابط الشخصيَّة ممَّا قد يؤدِّي إلى الاغتراب والرفض الصريح من أقرانهم من نفس الجنس والجنس الآخر. وجد أنَّ الرفض الصريح من قبل الأقران، بدوره، يرتبط بمستويات عالية من المشاكل الداخليَّة، بما في ذلك الضيق العاطفي، والشعور بالوحدة. قد تكون النتيجة هي انخفاض مفهوم الذات، ونقص الفعاليَّة في العلاقات، والتطوُّر العاطفي غير الناضج في مرحلة البلوغ. يؤدِّي اقتران هذه العوامل بمتعة الاستمناء -خاصةً التخيُّلات التي تتضمَّن الأطفال أو السلوك العنيف، واستخدام الجنس كوسيلة للتعامل مع المشاعر السلبيَّة- إلى سلوك مسيء جنسيًّا (3).
كان حازان وشايفر (1987) أوَّل باحثين يدرسان عمليَّات العلاقات الرومانسيَّة من خلال عدسة التعلٌّق(5). حدَّد حازان وشافير (1987) ثلاثة أنماط رئيسيَّة للتعلُّق؛ أ-التعلُّق الآمن : يجد أصحابه أنَّه من السهل عليهم أن يصبحوا قريبين من الآخرين، ولا يخشون أن يتمَّ التخلِّي عنهم. ب-التعلُّق المتجنّب: الدرجة التي لا يثق بها الشخص في رغبته و/ أو قدرته على تقديم الرعاية، ممَّا يؤدِّي إلى محاولته البقاء مستقلًّا ومعتمدًا على الذات، ويعاني الأفراد المنتمون إلى هذا النوع من عدم الراحة عند الاقتراب من الآخرين. ج -التعلُّق القلق: هو الدرجة التي يشعر بها الشخص بأنَّ شخصًا مهمًّا لن يكون متاحًا، أو يستجيب بشكل كافٍ في أوقات الحاجة ويعاني هؤلاء من الخشية المستمرة من الهجران ) المراجع لهذا النصّ موجودة في مقال القلق الجنسي)
التعلُّق الآمن
يحصل الأشخاص الآمنون نموذجيًّا على درجات منخفضة في كل من أبعاد التعلُّق ،أي أنَّ الأفراد الآمنين يكونون أكثر راحة مع التقارب، ولا يهتموُّن بالرفض أو الهجر. (5). أظهرت مئات الدراسات، أنَّ الارتباط الآمن يتنبَّأ بالرضا عن العلاقة والرفاهيَّة، ويرتبط بأشكال أكثر تكيُّفًا للتعامل مع الإجهاد وتنظيم التأثير، ويوفِّر موردًا من المرونة يقلِّل من احتماليَّة حدوث تطوير الاضطرابات النفسيَّة. (9).
يعكس الارتباط الآمن القدرة على تكوين علاقات اجتماعيَّة مفيدة مبنيَّة على الاحترام الصحِّي لكفاءات الآخرين والاعتماد عليها . يعمل الأفراد الآمنون بشكل فعَّال ومستقلّ مع الآخرين، حيث يجدون طرقًا لتحقيق الأهداف القيِّمة. إنَّ براعتهم وثقتهم في مهاراتهم الخاصَّة تسهل مواقفهم وسلوكهم الموجَّه نحو الهدف. يشعر الأفراد الآمنون بأنَّ العالم مكان آمن يناسبهم ويحقِّق أهدافهم. (10).
التعلُّق القلق
يُعرَّف التعلُّق القلق بأنَّه عدم اليقين بوجود الآخر. يتطوَّر اتِّجاه التعلُّق القلق عندما يتلقَّى الأطفال نمطًا من الرعاية لا يتأكّدون فيه بتوافر مقدِّم الرعاية الخاصّ بهم، لا سيما في أوقات الحاجة. (5).
التعلُّق المتجنّب
يعكس التعلُّق المتجنِّب عدم ارتياح الفرد بالعلاقة الحميمة والقرب. يسعى الأشخاص الذين يتجنَّبون بشدَّة إلى الحفاظ على مسافة نفسيَّة وعاطفيَّة من أزواجهم، خاصَّة في أوقات التوتُّر أو التهديد. إنَّهم يفضِّلون أن يكونوا معتمدين على أنفسهم ومستقلِّين عوضًا عن الاعتماد المتبادل والقريب عاطفيًّا مع الآخرين، ويميلون إلى تثبيط تعبيرات الضيق والألفة. يتَّفق الأفراد المتجنِّبون مع عبارات مثل ” أشعر بعدم الارتياح عندما يريد (الزوج/الزوجة)أن يكون قريبًا جدًا”. (11).
عندما يُسأل الأفراد الرافضون عن تفضيلاتهم الشخصيَّة، يميلون صراحة إلى رفض أو تقليل أهميَّة الارتباطات العاطفيَّة، وتجنُّب العلاقات الوثيقة بشكل سلبي، والسعي من أجل الاعتماد على الذات والاستقلاليَّة. على سبيل المثال، المشاركون الذين يؤيِّدون مؤشِّر بارثولوميو وهورويتز (1991) لرفض التجنُّب يشيرون إلى: “أنا مرتاح بدون علاقات عاطفيَّة وثيقة. من المهمّ جدًا بالنسبة لي أن أشعر بالاستقلاليَّة والاكتفاء الذاتي، وأنا أفضِّل عدم الاعتماد على الآخرين أو جعل الآخرين يعتمدون عليّ ” (ص244). علاوة على ذلك، يُظهر المتجنّبون الرافضون نمطًا سلوكيًّا تجنّبيًّا حتى في وجود الانفصال والخسارة في العلاقات الوثيقة، وهما حالتان يجب أن يتمّ فيهما تنشيط نظام التعلُّق. بالإضافة إلى ذلك، يبدو المتجنّبون الرافضون غير مبالين بما يعتقده الآخرون عنهم، وهم يكرهون نسبيًّا ردود الفعل الإيجابيَّة من الآخرين.
نظريَّة التعلُّق في العلاج النفسي
منذ نشأتها، تصوّر بولبي (1982) نظريَّة التعلُّق كممارسة إكلينيكيَّة إرشاديَّة. تماشيًا مع هذه الفكرة، كان هناك اهتمام متزايد بتطبيق منظور نظريَّة التعلُّق على العلاج النفسي. لم يقترح بولبي فقط أنَّ المعالج النفسي يمكن أن يصبح شخصيَّة مرتبطة بالعميل. ولكنَّه اعتقد أيضًا أنَّه من المهمّ للمعالج أن يصبح رفيقًا موثوقًا به وجديرًا بالثقة في استكشاف المريض لتجاربه. تشمل سلوكيَّات التعلُّق الآمن في العلاج النفسي استخدام المعالج كقاعدة آمنة يمكن للفرد من خلالها أن ينعكس بحريَّة في تجربته. والتفكير في المحتويات المحتملة لعقول الآخرين المهمّين، واستكشاف إمكانيَّة تجربة تجارب جديدة والمشاركة في السلوكيَّات الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، ناقش بولبي تحوُّل المرضى إلى المعالج كملاذ آمن للراحة والدعم في أوقات الشدَّة. (8).
التدخُّلات والحلول
يبدو ممَّا سبق أنَّ حدوث أي اضطراب في التعلُّق في الطفولة والمراهقة سوف يؤثِّر بالضرورة على تكوين العلاقات في الرشد. ويمكن أن يمتدّ التأثير في جوانب العلاقة المختلفة “العاطفي والجنسي والاستقلالي وحتى تربية الأبناء”. لذا، فإنَّ هناك طرقًا للمساعدة في تقليل حدَّة المشكلة أو حلّها:
- تبدأ الحلول من قبل (الزوج/الزوجة) الذي لا يعاني مشكلة. وربما تكون الحلول من نوع السهل الممتنع، مثل التعبير العاطفي الإيجابي، “مثال: أنا لن أتركك أبدا”.
- أحيانًا قد نبالغ في الاقتراب أو البعد الجسدي عن (الزوج/ الزوجة). الحاجة للتلامس الجسدي من خلال الأحضان والتقارب مهمَّة، ولكن يجب قياس حجم تقبُّل الطرف الآخر لهذا الاقتراب. بعض الأزواج قد يتقبّلونها في كل الأوقات، والبعض الآخر يتقبَّلونها لفترات قصيرة.
- لا بأس من الملاطفة الكلاميَّة والجسديَّة ضمن حدود في المواقف الاجتماعيَّة وأمام الأهل والأبناء.
- إذا أدَّت مشكلات التعلُّق إلى مشكلة نفسيَّة أو جنسيَّة، لا تتردَّد بمراجعة مختصين في مجال العلاقات والصحَّة النفسيَّة.
- يحتاج الأبناء إلى مساحة آمنة للتعبير، حاول منحهم إيَّاها.
ولنتذكَّر دائمًا أنَّ الرعاية هي أن تقدِّم لمن ترعاه ما يحتاج، عندما يحتاج، بالقدر الذي يحتاج.